مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

المناظرات العقدية للفخر الرازي(606هـ) في بلاد ما وراء النهر

 

تمحور موضوع المناظرة العقدية الثانية والثالثة حول مسألة واحدة وهي التكوين والمكوَّن؛ فالأولى جرت بين الرازي والنور الصابوني، وهي تكشف عن جوهر الخلاف في المسألة بين الماتريدية والأشاعرة، والثانية دارت بين الرازي وقاضي غزنة لم يسمه واكتفى بوصفه بالحسد والحقد وكثرة التصنع وقلة العلم، وهو على ما يبدو من ماتريدية ما وراء النهر  يشترك مع الصابوني في القول بأن التكوين غير المكَوَّن، والخلق غير المخلوق، والتكوين أو التخليق هي صفة أزلية قائمة بذاته تعالى، غير أن مناقشة الرازي لكل منهما في المسألة اتخذت منحيين مختلفين، فكان الغرض من الجمع بين المناظرتين هو توضيح موقف الرازي من هذه القضية العقدية التي اعتبرها من المباحث العميقة والتي اتخذت عنده وجهين كشفت عنهما المناظرتان، والوجه الثالث ضمنه كتابه “المعالم”[1].
عرض الرازي المناظرتين مفرغتين  من قالب المناظرة المألوف «قال..قلت..»؛ فهو يختصـر كلام الخصم، ويومئ  إلى قوله ويضمنه كلامه، الأمر الذي أضفى بعض الغموض على موقف كل من الصابوني وقاضي غزنة من المسألة.
المناظرة العقدية الثانية[2]:
بالرجوع إلى كتاب “البداية من الكفاية” [3]، نجد تقريرا للصابوني  في مسألة التكوين والمكوَّن وخلاصته:  أن الله تعالى وصف ذاته بأنه خالق: قال تعالى: ﴿ هو الله الخالق البارئ المصور﴾، فهي صفة أزلية قائمة بذاته تعالى، وتحقيق ذلك عنده أن الخالق اسم مشتق من الخلق، كالعالم من العلم، وإنما يتحقق الاسم المشتق من المعنى على من قام به ذلك المعنى. قال: فإن قيل لو كان التكوين أزليا، وهو قائم بذات الله تعالى، لتعلق وجود العالم به في الأزل، فيكون العالم قديما لا حادثا. قلنا: متى سلمتم تعلق وجود العالم بالتكوين فقد سلمتم حدوث العالم، إذ القديم ما لا يتعلق وجوده بغيره، وما يتعلق وجوده بغيره فهو حادث. ثم نقول: والتكوين في الأزل ما كان ليكون العالم به في الأزل بل ليكون كل شيء كائنا به وقت وجوده حسب علمه وإرادته، والتكوين باق من الأزل إلى الأبد، فيتعلق  وجود كل موجود وقت وجوده بتكوينه الأزلي[4].
ولكن الرازي وجه دفة مناظرته هاته إلى حقيقة التكوين والمكوَّن، فإن كان المراد بصفة التكوين أنها  عبارة عن صفة القدرة؛ أي أن لله تعالى أثر في وجود العالم على سبيل الصحة والاختيار، أو عبارة عن الإرادة؛ وهي الصفة المقتضية لاختصاص كل حادث بوقته المعين، أو العلم؛ أي أن القادر العالم يمكنه إحداث الأفعال المحكمة المتقنة، فالرازي يقر بثبوتها ولا ينازع فيها البتة، والخلاف يصير على هذا التقدير لفظيا. وإن كان المراد بالتكوين صفة أخرى غير هذه الصفات فالصابوني مطالب بشرح وبيان حقيقتها.
إلا أن  الصابوني اكتفى بالقول بأن التكوين عنده صفة سوى هذه الصفات المذكورة؛ ذلك أن القدرة عبارة عن الصفة المؤثرة في صحة المخلوق، والتكوين عبارة عن الصفة المؤثرة في وقوع المخلوق.
فتحول النقاش إلى مسألة صحة المخلوق، فيقرر الرازي أنها نوعان:
الأولى: إمكانه؛ والإمكان لا لجعل جاعل ولا لتأثير مؤثر، فصحيح الوجود من هذا النوع لا يمكن أن يكون أثرا لقدرة الله البتة.
النوع الثاني: الصحة العائدة إلى القادر، ومعناها كون القادر موصوفا بالصفة التي لأجلها لا يمتنع صدور ذلك الأثر عنه، وتلك الصفة هي القدرة، وبهذا الاعتبار يكون الصابوني قد سلم أن القدرة يصح كونها مؤثرة في حصول الأثر؛  وعليه فإن القول بأن مصدر الأثر هي الصفة المسماة بالتكوين، يقتضي الجمع بين الضدين.
بدأ الرازي يصف صعوبة فهم هذا الكلام على الصابوني، ما دفعه لإعادته مرارا بالرفق والسهولة، ومع ذلك لم يتبين للصابوني إلا بعض وجوهه، ما جعله يضطرب ويشاغب مدة طويلة فلما استحيى من كثرة انتقاله، خرج عن قانون البحث والمناظرة بقوله: “يا أيها الناس إني أقول إن الله تعالى هو الخالق البارئ، فوصف نفسه بالخلق، وأنا أقول إنه صادق في قوله، وهذا الرجل يقول ليس الأمر كما قال الله تعالى”.
فطلب منه الرازي تحكيم أذكياء وعقلاء البلاد؛ يرسل إليهم بالمناظرة مكتوبة كما جرت، قال الرازي: ” فلما شرعت في كتابة المناظرة تضرع غاية التضرع، واعترف بأن ذلك الكلام كان خارجا عن قانون العقل والسداد، وظهر انقطاعه وعجزه لجميع الحاضرين”[5].
المناظرة الثالثة[6]:
عمد الرازي في مناقشة قاضي غزنة إلى وجه آخر من وجوه مسألة التكوين والمكوَّن، وهي  تأثير الصفة المسماة بالتكوين، ويظهر أن القاضي يقول بالتأثير على سبيل اللزوم والوجوب.
انطلق الرازي أولا من تأثير صفة القدرة فقررها متفقا مع القاضي أنها مؤثرة على سبيل الصحة، أي أن القادر هو الذي يفعل مع صحة أن يترك، وصفة التكوين إن كانت مؤثرة على سبيل الصحة أيضا كانت هذه الصفة عين صفة القدرة، فيصير الخلاف لفظيا، فلما ثبت أن الله تعالى فاعل بالاختيار، بطل أن تكون صفة التكوين  مؤثرة على سبيل الإيجاب لاستلزامها كونه تعالى مؤثرا بالإيجاب لا بالاختيار ، فيلزم منه كونه تعالى موجبا بذاته.
زعم الرازي أن قول القاضي وأصحابه بهذا يوافق فيه قول الفلاسفة، إلا أن هؤلاء   نفوا القدرة بالاختيار وأولئك أثبتوها فجمعوا بين الضدين.
وها هو الرازي يعود إلى التنقيص من الخصم بنعته بالخلو عن العقل ووصفه بالعته وقصـر في الفهم والإدراك، ويزيد هذه المرة إظهار التباهي بكمال قدرته في العلم والمناظرة وإفحام الخصم.
أشير أخيرا وأفتح به آفاق البحث للمهتمين في هذا المجال أن  مسألة التكوين والمكوَّن لم تشغل عند الأشاعرة حيزا مستقلا في مباحثهم العقدية، بل كانت تدخل تحت مبحث القدرة ومتعلقاتها ضمنيا وليس تصـريحا، وفي مبحث  الصفات أيضا حين فرق فيه الأشاعرة بين صفات الذات وصفات الأفعال، فجل آراء الأشاعرة في المسألة على وجه الخصوص مستنتجة من هذين المبحثين، أما رأي أبي الحسن الأشعري فإنه ثبت باستقراء كتبه التي وصلت إلينا أنه لم يفرد مبحثا مستقلا للقدرة ومتعلقاتها فضلا عن مسألة التكوين والمكوَّن، كما لم يدرجها ابن فورك ضمن ما استدركه من كلام أبي الحسن في كتابه “مجرد مقالات الأشعري”، والقول بأن التكوين هو عين  المكوَّن يحكيه عنه  أبو المعين النسفي في كتابه “تبصرة الأدلة في أصول الدين”[7]، وتبعه فيه ناقلا عنه نور الدين الصابوني، وقد بدأ النسفي بحكاية الخلاف عن بعض الأشعرية لم يسميهم وأورد أدلتهم منتهيا بقوله: “وتكلم بهذا كله بعض الأشعرية حكيت لفظه لئلا يظن في التقصير في حكاية شبه الخصم، والحكاية على وجه يسهل علي الجواب بل يعلم أني متبع للدليل منقاد للحق غير مائل فيما أنا عليه من المذهب إلى الهوى والشهرة”.
وجل ما ذكر النسفي من هذه الأقوال التفصيلية ودليلها لم أقف عليه في كتب الأشاعرة، فوجب التحقيق في ذلك، وقد أحسن سعد الدين التفتازاني حين ضبط البحث في المسألة بقوله: “ينبغي للعاقل أن يتأمل في أمثال هذه المباحث ولا ينسب إلى الراسخين من علماء الأصول ما يكون استحالته بديهية ظاهرة على من له أدنى تمييز، بل يطلب لكلامهم محملاً صحيحاً يصلح محلاً لنـزاع العلماء واختلاف العقلاء، فإن من قال: التكوين عين المكون؛  أراد أن الفاعل إذا فعل شيئاً فليس هاهنا إلا الفاعل والمفعول، وأما المعنى الذي يعبر عنه بالتكوين والإيجاد ونحو ذلك فهو أمر اعتباري يحصل في العقل من نسبة الفاعل إلى المفعول، وليس أمراً محققاً مغايراً للمفعول في الخارج ولم يرد أن مفهوم التكوين هو بعينه مفهوم المكون ليلزم المحالات”[8].
ويبدو أن الرازي هو أول من خصص مبحثا خاصا في التكوين في كتابه “المعالم” إثر هاتين المناظرتين تحديدا لأنه افتتح كلامه بقوله: “قال قوم من فقهاء ما وراء النهر”،  وخلاصة قوله كما جاء في كتابه “المعالم”، إبطال كون التخليق هو عين المخلوق، وتقرير أن التخليق صفة قائمة بذات الله تعالى تقتضي وجود المخلوق؛ أي وجود الأثر الخارج عن ذاته لأن الله خلقه[9]. وهو ما اصطلح عليه البيجوري (ت1277هـ) من الأشاعرة المتأخرين بالتعلق التنجيزي الحادث للقدرة القديمة[10]. 
والتحقيق عند سعد الدين التفتازاني “أن تعلق القدرة على وفق الإرادة بوجود المقدور لوقت وجوده إذا نسب إلى القدرة يسمى إيجاباً له، وإذا نسب إلى القادر يسمى الخلق والتكوين، ونحو ذلك، فحقيقته كون الذات بحيث تعلقت قدرته بوجود المقدور لوقته، ثم يتحقق بحسب خصوصيات المقدورات خصوصيات الأفعال كالترزيق والتصوير والإحياء والإماتة غير ذلك إلى ما لا يكاد يتناهى، وأما كون كل من ذلك صفة حقيقية أزلية فمما تفرد به بعض علماء ما وراء النهر، وفيه تكثير للقدماء جداً إن لم تكن متغايرة”[11]. 
إعداد الباحثة: إكرام بولعيش
الهوامش:
[1] كتب الإمام الفخر الرازي كتابه”معالم أصول الدين” في زمان لاحق لزمان  المناظرتين في مسألة التكوين والمكون؛ ذلك أنه جعل هذه الجزئية المتفرعة عن قضية التكوين مسألة من بين المسائل الأربعين قال: ” قال قوم من فقهاء ما وراء النهر: صفة التخليق مغايرة لصفة القدرة، وقال الأكثرون:  ليس كذلك، بل هي هي”. معالم أصول الدين، دار الكتاب العربي – لبنان، ص: 1/64. 
[2] مناظرات ما وراء النهر، ص: 17.
[3] البداية من الكفاية في الهداية في أصول الدين، للصابوني، تح: فتح الله خليف، دار المعارف بمصـر، ط: 1969م.ص:67.
[4] قال الرازي في كتابه معالم أصول الدين: “وأيضا فهذا التخليق إن كان قديما لزم من قدمه قدم المخلوقات، وإن كان حادثا افتقر إلى تخليق آخر، ولزم التسلسل”. المعالم، ص:64. ومن إنصاف علماء المغرب الأشاعرة في المسألة أن يعلق الإمام شرف الدين ابن التلمساني في شرحه على المعالم قائلا: “ما تعني بالتخليق الذي رددته بين الاتصاف بالقدم والحدوث؟ إن عنيت به الصفة التي قضوا بقيامها بالباري تعالى وحصل باعتبارها الخلق فلا نسلم أنه يلزم من قدمها قدم آثارها وإلا لزم ذلك في القدرة، وإن عنيت بالتخليق الأثر الحاصل عنها فيقال: إنه حادث، كما يقال في المقدور: إنه حادث، ولا تسلسل. شرح معالم أصول الدين، تح: نزار حمادي، دار مكتبة المعارف-لبنان، ط:1، 2011م، ص: 297.
[5] مناظرات ما وراء النهر، ص: 20.
[6] مناظرات ما وراء النهر، ص: 21.
[7] “تبصرة الأدلة في أصول الدين”، أبو معين ميمون بن محمد النسفي(ت508هـ)، تح: حسين آتاي، نشـريات رئاسة الشؤون الدينية للجمهورية التركية، ط: 1993م، أنقرة، ص: 402.
[8] شرح عقائد أبي حفص عمر بن محمد النسفي(ت537هـ)، لسعد الدين التفتازاني، تح: أحمد حجازي السقا، مكتبة الكليات الأزهرية، سنة 1408هـ ـ 1988م،  ص: 50.
[9] معالم أصول الدين، الرازي، ص:65.  
[10] تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد، للبيجوري، ضبطه وصححه: عبد الله محمد الخليلي، دار الكتب العلمية، ط:5، 2005م، ص: 93-94. 
[11] شرح العقائد النسفية، ص: 50-51. ويراجع في الموضوع كتاب “الروضة البهية في ما بين الأشاعرة والماتريدية”، لأبي عذبة، مطبعة المجلس دائرة المعارف، الهند، ط: 1322هـ، ص:39.

تمحور موضوع المناظرة العقدية الثانية والثالثة حول مسألة واحدة وهي التكوين والمكوَّن؛ فالأولى جرت بين الرازي والنور الصابوني، وهي تكشف عن جوهر الخلاف في المسألة بين الماتريدية والأشاعرة، والثانية دارت بين الرازي وقاضي غزنة لم يسمه واكتفى بوصفه بالحسد والحقد وكثرة التصنع وقلة العلم، وهو على ما يبدو من ماتريدية ما وراء النهر  يشترك مع الصابوني في القول بأن التكوين غير المكَوَّن، والخلق غير المخلوق، والتكوين أو التخليق هي صفة أزلية قائمة بذاته تعالى، غير أن مناقشة الرازي لكل منهما في المسألة اتخذت منحيين مختلفين، فكان الغرض من الجمع بين المناظرتين هو توضيح موقف الرازي من هذه القضية العقدية التي اعتبرها من المباحث العميقة والتي اتخذت عنده وجهين كشفت عنهما المناظرتان، والوجه الثالث ضمنه كتابه “المعالم”[1].

عرض الرازي المناظرتين مفرغتين  من قالب المناظرة المألوف «قال..قلت..»؛ فهو يختصـر كلام الخصم، ويومئ  إلى قوله ويضمنه كلامه، الأمر الذي أضفى بعض الغموض على موقف كل من الصابوني وقاضي غزنة من المسألة.

المناظرة العقدية الثانية[2]:

بالرجوع إلى كتاب “البداية من الكفاية” [3]، نجد تقريرا للصابوني  في مسألة التكوين والمكوَّن وخلاصته:  أن الله تعالى وصف ذاته بأنه خالق: قال تعالى: ﴿ هو الله الخالق البارئ المصور﴾، فهي صفة أزلية قائمة بذاته تعالى، وتحقيق ذلك عنده أن الخالق اسم مشتق من الخلق، كالعالم من العلم، وإنما يتحقق الاسم المشتق من المعنى على من قام به ذلك المعنى. قال: فإن قيل لو كان التكوين أزليا، وهو قائم بذات الله تعالى، لتعلق وجود العالم به في الأزل، فيكون العالم قديما لا حادثا. قلنا: متى سلمتم تعلق وجود العالم بالتكوين فقد سلمتم حدوث العالم، إذ القديم ما لا يتعلق وجوده بغيره، وما يتعلق وجوده بغيره فهو حادث. ثم نقول: والتكوين في الأزل ما كان ليكون العالم به في الأزل بل ليكون كل شيء كائنا به وقت وجوده حسب علمه وإرادته، والتكوين باق من الأزل إلى الأبد، فيتعلق  وجود كل موجود وقت وجوده بتكوينه الأزلي[4].

ولكن الرازي وجه دفة مناظرته هاته إلى حقيقة التكوين والمكوَّن، فإن كان المراد بصفة التكوين أنها  عبارة عن صفة القدرة؛ أي أن لله تعالى أثر في وجود العالم على سبيل الصحة والاختيار، أو عبارة عن الإرادة؛ وهي الصفة المقتضية لاختصاص كل حادث بوقته المعين، أو العلم؛ أي أن القادر العالم يمكنه إحداث الأفعال المحكمة المتقنة، فالرازي يقر بثبوتها ولا ينازع فيها البتة، والخلاف يصير على هذا التقدير لفظيا. وإن كان المراد بالتكوين صفة أخرى غير هذه الصفات فالصابوني مطالب بشرح وبيان حقيقتها.

إلا أن  الصابوني اكتفى بالقول بأن التكوين عنده صفة سوى هذه الصفات المذكورة؛ ذلك أن القدرة عبارة عن الصفة المؤثرة في صحة المخلوق، والتكوين عبارة عن الصفة المؤثرة في وقوع المخلوق.

فتحول النقاش إلى مسألة صحة المخلوق، فيقرر الرازي أنها نوعان:

الأولى: إمكانه؛ والإمكان لا لجعل جاعل ولا لتأثير مؤثر، فصحيح الوجود من هذا النوع لا يمكن أن يكون أثرا لقدرة الله البتة.

النوع الثاني: الصحة العائدة إلى القادر، ومعناها كون القادر موصوفا بالصفة التي لأجلها لا يمتنع صدور ذلك الأثر عنه، وتلك الصفة هي القدرة، وبهذا الاعتبار يكون الصابوني قد سلم أن القدرة يصح كونها مؤثرة في حصول الأثر؛  وعليه فإن القول بأن مصدر الأثر هي الصفة المسماة بالتكوين، يقتضي الجمع بين الضدين.

بدأ الرازي يصف صعوبة فهم هذا الكلام على الصابوني، ما دفعه لإعادته مرارا بالرفق والسهولة، ومع ذلك لم يتبين للصابوني إلا بعض وجوهه، ما جعله يضطرب ويشاغب مدة طويلة فلما استحيى من كثرة انتقاله، خرج عن قانون البحث والمناظرة بقوله: “يا أيها الناس إني أقول إن الله تعالى هو الخالق البارئ، فوصف نفسه بالخلق، وأنا أقول إنه صادق في قوله، وهذا الرجل يقول ليس الأمر كما قال الله تعالى”.

فطلب منه الرازي تحكيم أذكياء وعقلاء البلاد؛ يرسل إليهم بالمناظرة مكتوبة كما جرت، قال الرازي: ” فلما شرعت في كتابة المناظرة تضرع غاية التضرع، واعترف بأن ذلك الكلام كان خارجا عن قانون العقل والسداد، وظهر انقطاعه وعجزه لجميع الحاضرين”[5].

المناظرة الثالثة[6]:

عمد الرازي في مناقشة قاضي غزنة إلى وجه آخر من وجوه مسألة التكوين والمكوَّن، وهي  تأثير الصفة المسماة بالتكوين، ويظهر أن القاضي يقول بالتأثير على سبيل اللزوم والوجوب.

انطلق الرازي أولا من تأثير صفة القدرة فقررها متفقا مع القاضي أنها مؤثرة على سبيل الصحة، أي أن القادر هو الذي يفعل مع صحة أن يترك، وصفة التكوين إن كانت مؤثرة على سبيل الصحة أيضا كانت هذه الصفة عين صفة القدرة، فيصير الخلاف لفظيا، فلما ثبت أن الله تعالى فاعل بالاختيار، بطل أن تكون صفة التكوين  مؤثرة على سبيل الإيجاب لاستلزامها كونه تعالى مؤثرا بالإيجاب لا بالاختيار ، فيلزم منه كونه تعالى موجبا بذاته.

زعم الرازي أن قول القاضي وأصحابه بهذا يوافق فيه قول الفلاسفة، إلا أن هؤلاء   نفوا القدرة بالاختيار وأولئك أثبتوها فجمعوا بين الضدين.

وها هو الرازي يعود إلى التنقيص من الخصم بنعته بالخلو عن العقل ووصفه بالعته وقصـر في الفهم والإدراك، ويزيد هذه المرة إظهار التباهي بكمال قدرته في العلم والمناظرة وإفحام الخصم.

أشير أخيرا وأفتح به آفاق البحث للمهتمين في هذا المجال أن  مسألة التكوين والمكوَّن لم تشغل عند الأشاعرة حيزا مستقلا في مباحثهم العقدية، بل كانت تدخل تحت مبحث القدرة ومتعلقاتها ضمنيا وليس تصـريحا، وفي مبحث  الصفات أيضا حين فرق فيه الأشاعرة بين صفات الذات وصفات الأفعال، فجل آراء الأشاعرة في المسألة على وجه الخصوص مستنتجة من هذين المبحثين، أما رأي أبي الحسن الأشعري فإنه ثبت باستقراء كتبه التي وصلت إلينا أنه لم يفرد مبحثا مستقلا للقدرة ومتعلقاتها فضلا عن مسألة التكوين والمكوَّن، كما لم يدرجها ابن فورك ضمن ما استدركه من كلام أبي الحسن في كتابه “مجرد مقالات الأشعري”، والقول بأن التكوين هو عين  المكوَّن يحكيه عنه  أبو المعين النسفي في كتابه “تبصرة الأدلة في أصول الدين”[7]، وتبعه فيه ناقلا عنه نور الدين الصابوني، وقد بدأ النسفي بحكاية الخلاف عن بعض الأشعرية لم يسميهم وأورد أدلتهم منتهيا بقوله: “وتكلم بهذا كله بعض الأشعرية حكيت لفظه لئلا يظن في التقصير في حكاية شبه الخصم، والحكاية على وجه يسهل علي الجواب بل يعلم أني متبع للدليل منقاد للحق غير مائل فيما أنا عليه من المذهب إلى الهوى والشهرة”.

وجل ما ذكر النسفي من هذه الأقوال التفصيلية ودليلها لم أقف عليه في كتب الأشاعرة، فوجب التحقيق في ذلك، وقد أحسن سعد الدين التفتازاني حين ضبط البحث في المسألة بقوله: “ينبغي للعاقل أن يتأمل في أمثال هذه المباحث ولا ينسب إلى الراسخين من علماء الأصول ما يكون استحالته بديهية ظاهرة على من له أدنى تمييز، بل يطلب لكلامهم محملاً صحيحاً يصلح محلاً لنـزاع العلماء واختلاف العقلاء، فإن من قال: التكوين عين المكون؛  أراد أن الفاعل إذا فعل شيئاً فليس هاهنا إلا الفاعل والمفعول، وأما المعنى الذي يعبر عنه بالتكوين والإيجاد ونحو ذلك فهو أمر اعتباري يحصل في العقل من نسبة الفاعل إلى المفعول، وليس أمراً محققاً مغايراً للمفعول في الخارج ولم يرد أن مفهوم التكوين هو بعينه مفهوم المكون ليلزم المحالات”[8].

ويبدو أن الرازي هو أول من خصص مبحثا خاصا في التكوين في كتابه “المعالم” إثر هاتين المناظرتين تحديدا لأنه افتتح كلامه بقوله: “قال قوم من فقهاء ما وراء النهر”،  وخلاصة قوله كما جاء في كتابه “المعالم”، إبطال كون التخليق هو عين المخلوق، وتقرير أن التخليق صفة قائمة بذات الله تعالى تقتضي وجود المخلوق؛ أي وجود الأثر الخارج عن ذاته لأن الله خلقه[9]. وهو ما اصطلح عليه البيجوري (ت1277هـ) من الأشاعرة المتأخرين بالتعلق التنجيزي الحادث للقدرة القديمة[10]. 

والتحقيق عند سعد الدين التفتازاني “أن تعلق القدرة على وفق الإرادة بوجود المقدور لوقت وجوده إذا نسب إلى القدرة يسمى إيجاباً له، وإذا نسب إلى القادر يسمى الخلق والتكوين، ونحو ذلك، فحقيقته كون الذات بحيث تعلقت قدرته بوجود المقدور لوقته، ثم يتحقق بحسب خصوصيات المقدورات خصوصيات الأفعال كالترزيق والتصوير والإحياء والإماتة غير ذلك إلى ما لا يكاد يتناهى، وأما كون كل من ذلك صفة حقيقية أزلية فمما تفرد به بعض علماء ما وراء النهر، وفيه تكثير للقدماء جداً إن لم تكن متغايرة”[11]. 

 

                                                       إعداد الباحثة: إكرام بولعيش

 

الهوامش:

 

[1] كتب الإمام الفخر الرازي كتابه”معالم أصول الدين” في زمان لاحق لزمان  المناظرتين في مسألة التكوين والمكون؛ ذلك أنه جعل هذه الجزئية المتفرعة عن قضية التكوين مسألة من بين المسائل الأربعين قال: ” قال قوم من فقهاء ما وراء النهر: صفة التخليق مغايرة لصفة القدرة، وقال الأكثرون:  ليس كذلك، بل هي هي”. معالم أصول الدين، دار الكتاب العربي – لبنان، ص: 1/64. 

[2] مناظرات ما وراء النهر، ص: 17.

[3] البداية من الكفاية في الهداية في أصول الدين، للصابوني، تح: فتح الله خليف، دار المعارف بمصـر، ط: 1969م.ص:67.

[4] قال الرازي في كتابه معالم أصول الدين: “وأيضا فهذا التخليق إن كان قديما لزم من قدمه قدم المخلوقات، وإن كان حادثا افتقر إلى تخليق آخر، ولزم التسلسل”. المعالم، ص:64. ومن إنصاف علماء المغرب الأشاعرة في المسألة أن يعلق الإمام شرف الدين ابن التلمساني في شرحه على المعالم قائلا: “ما تعني بالتخليق الذي رددته بين الاتصاف بالقدم والحدوث؟ إن عنيت به الصفة التي قضوا بقيامها بالباري تعالى وحصل باعتبارها الخلق فلا نسلم أنه يلزم من قدمها قدم آثارها وإلا لزم ذلك في القدرة، وإن عنيت بالتخليق الأثر الحاصل عنها فيقال: إنه حادث، كما يقال في المقدور: إنه حادث، ولا تسلسل. شرح معالم أصول الدين، تح: نزار حمادي، دار مكتبة المعارف-لبنان، ط:1، 2011م، ص: 297.

[5] مناظرات ما وراء النهر، ص: 20.

[6] مناظرات ما وراء النهر، ص: 21.

[7] “تبصرة الأدلة في أصول الدين”، أبو معين ميمون بن محمد النسفي(ت508هـ)، تح: حسين آتاي، نشـريات رئاسة الشؤون الدينية للجمهورية التركية، ط: 1993م، أنقرة، ص: 402.

[8] شرح عقائد أبي حفص عمر بن محمد النسفي(ت537هـ)، لسعد الدين التفتازاني، تح: أحمد حجازي السقا، مكتبة الكليات الأزهرية، سنة 1408هـ ـ 1988م،  ص: 50.

[9] معالم أصول الدين، الرازي، ص:65.  

[10] تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد، للبيجوري، ضبطه وصححه: عبد الله محمد الخليلي، دار الكتب العلمية، ط:5، 2005م، ص: 93-94. 

[11] شرح العقائد النسفية، ص: 50-51. ويراجع في الموضوع كتاب “الروضة البهية في ما بين الأشاعرة والماتريدية”، لأبي عذبة، مطبعة المجلس دائرة المعارف، الهند، ط: 1322هـ، ص:39.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق