مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

المفهوم الصوفي للزهد في الدنيا

حورية بن قادة باحثة مساعدة بمركز الإمام الجُنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة.

كانت نظرة الإسلام للحياة الدنيا نظرة رائعة، علّمت الأمة أن تزهد فيها دون أن تترك إعمار الأرض وعدم العمل، فليس عدم التعلق بالدنيا داعيا إلى خرابها، بل يعمرها المسلم دون أن يتمسك بمتاعها ويتعلق بها بقلبه، لأن الشريعة جاءت لتربط القلوب بخالقها، كما جاءت لعمران الدنيا، وجعلت من هذا العمران تكليفا للإنسان والمجتمع والأمة في هذه الحياة، وفي ذلك قال الله جلّ جلاله: ﴿وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا﴾.[1] وقال عز وجل أيضا: ﴿قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة﴾.[2]

فالإسلام يوافق الفطرة الإنسانية السليمة، ويدعو إلى الاعتدال في كل شيء، وهذه السمة تجلي سماحة هذا الدين الحنيف ومحاسنه، ومدى رعايته للمثل الأخلاقية العليا والقيم الإنسانية العليا…

على هذا، سار صوفية الإسلام، فجمعوا بين الزهد في الدنيا واتخاذ الأسباب، بل واكبوا التطورات والأحداث التي تطرأ فيه، وهم دائما في تجديد وتغيير مستمرين، حتى اشتهر عنهم قولهم: “الصوفي ابن وقته”.[3] واشتهر عنهم كذلك قولهم: “الجسد في الحانوت والقلب في الملكوت”،[4] يعني الجسد في حانوت التجارة ومخالطة الناس قصد طلب الرزق، والقلب يسبح في ملكوت الله بأنوار الذكر، إذ كم من صوفي كُنّيَ بحرفته وصنعته كالخرّاز والدقاق والدباغ والقواريري…، وكم من صوفي كان أثرى أهل عصره، ولم تشغل هؤلاء أموالهم وتجارتهم عن الله، ولم تمنعهم أن يكونوا أزهد الناس، بل كانت طريقهم ومحرابهم في السير إلى الله عز وجل.

وقد ذكرنا ذلك لأن العديد من الباحثين كثيرا ما يقع في اللبس، فيعتبرون التصوف هو الزهد والعزلة ولبس المرقعات، ولبس الصوف…، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعيش عيشة الزهد في طعامه ولباسه، وكان يعيش لآخرته ولم يركن إلى زينة الحياة الدنيا، فاستمر على ذلك حتى التحق بالرفيق الأعلى…، فما خُص به عليه الصلاة والسلام من مال السيدة خديجة- رضي الله عنها- وتجارتها، ومن مال أبي بكر والأنصار، ومن الغنائم والعطايا… كان كافيا لتوفير ما يمكنه من تحصيل حياة رغيدة لو أراد، وإنما فعل ذلك عن مبدأ في السلوك خليق بمثله…

فإن الانقطاع عن الدنيا وما فيها، والنظر إليها بعين المقت والكراهية على الدوام، لا يصح أن يكون منهجا في تزكية النفس وإصلاح المجتمع، وإنما هو طريق للعزلة والانطوائية والتخلي عن المسؤولية، ولا يخفى ما يمكن أن يصاب به المجتمع المسلم من ضعف وهوان وذلّ وانهيار، عندما تنتشر فيه المظاهر المنحرفة من الزهد، وبذلك يصبح المسلمون لقمة سائغة في يد الأعداء، وفي ذلك مخالفة لكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ألم يقل الله عز وجل: ﴿هو الذي جعلكم خلائف في الأرض﴾.[5] وقال: ﴿واستعمركم فيها﴾.[6] وقال: ﴿إني جاعل في الأرض خليفة﴾[7]…، فإذا كان المسلم مستخلفا في الأرض ومطلوب منه عمارتها فكيف يمكنه ذلك وهو على رأس جبل معتزلا الناس ولا يتكلم مع أحد باسم الزهد في الدنيا…، بل كيف سيقيم الدول ويصلح الطرق ويشيّد المساجد ويبني الجامعات إن لم يكن لديه من المال ما يكفي! فالأنبياء والرسل قد وصلوا إلى غاية الزهد، ولم يكن هذا الزهد ليصرفهم عن مجتمعاتهم، بل كان يمدهم بطاقات روحية لا حصر لها، تعينهم على التفاعل مع هذه المجتمعات، فلم يكونوا عبادا للمال والجاه والشهوات، لذلك حققوا العدالة الاجتماعية في أسمى صورها.

وقد أوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم، المقصود الحقيقي من الزهد حين قال في الحديث: عن أبي الدّرداء،[8] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ألا إن الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا أن لا تكون بما في يديك أوثق منك بما في يدي الله”.[9]

        علّق المناوي على هذا الحديث فقال: “الزهادة في الدنيا: أي ترك الرغبة فيها، ليست بتحريم الحلال على نفسك كأن لا تأكل لحما، ولا إضاعة مال، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، قدوة الزاهدين، ويأكل اللحم والحلو والعسل ويحب ذلك، ويحب أيضا النساء والطيب والثياب الحسنة…، ولكن الزهادة في الدنيا حقيقة هي أن لا تكون بما في يديك أوثق منك بما في يد الله، فإنك إذا اعتقدت ذلك وتيقنته لا يقدح في زهدك”.[10]

فنهى النبي صلى الله عليه وسلم، عن تحريم الحلال وإضاعة المال، وفي هذا يقول الشيخ أحمد زروق: “قال لنا أبو العباس الحضرمي رضي الله عنه: “ليس الشأن من يعرف كيفية تفريق الدنيا فيفرّقها، إنما الشأن من يعرف كيفية إمساكها فيمسكها، قلت: وذلك لأنها كالحية، ليس الشأن في قتلها، وإنما الشأن في إمساكها وهي حية”.[11]

وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم، يأكل الحلال من الطيبات، ويأتي من كل حلال بنصيب معلوم، ولم يكن الزهد عنده يعني التبطل عن التكسب وطلب الرزق، يتجلى ذلك في قوله لعمرو بن العاص؛ فبعد إسلامه بخمسة أشهر، قابله النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: “خذ عليك ثيابك وسلاحك ثم ائتني”. فأتاه وهو يتوضأ فصعّد في النظر، ثم طأطأ فقال: “إني أريد أن أبعثك على جيش فيسلمك الله ويغنّمك، وأرغب لك من المال رغبة صالحة”. قال: قلت: يا رسول الله، ما أسلمت من أجل المال، ولكني أسلمت رغبة في الإسلام، وأن أكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: “يا عمرو، نعم المال الصالح للمرء الصالح”.[12]  

وكان سفيان الثوري يدعو القراء إلى العمل والتكسب من ذات أيديهم، فذهب مرة إلى البصرة، فجلس في مجلس العابد البصري يوسف ابن عبيد، فإذا فتيان كأن على رؤوسهم الطير، فقال: “يا معشر القراء، ارفعوا رؤوسكم، لا تزيدوا التخشع على ما في القلب…، و اتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا تكونوا عيالا على المسلمين”.[13] 

وقد كان إبراهيم بن أدهم يأكل من الطيبات في بعض الأوقات، ويقول: “إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال، وإذا فقدنا صبرنا صبر الرجال”.[14]

قال الإمام ابن الجوزي معلقا على ذلك: “وينبغي للإنسان أن يعلم أن نفسه مطيته، ولابد من الرفق بها ليصل إلى المقصود، فليأخذ ما يصلحها، وليترك ما يؤذيها من الشبع والإفراط في تناول الشهوات، فإن ذلك يؤذي البدن والدين”.[15]

وهكذا فلم يكن الزهد عندهم لِيعني الانصراف عن الدنيا انصرافا تاما، وإنما كان يعني الاعتدال والتوسط في الأخذ بأسبابها وملذاتها، وهذا مشار إليه في قوله تعالى: ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطا﴾.[16] فالزهد عند رسول الله  صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، لم يكن يعني كراهية الدنيا وعدم رعايتها رعاية تجعلها في خدمة الإيمان وأهله، لتكون لهم العزة في هذه الأرض، وإنما هو عدم حب الدنيا حبا يشغف بها القلوب، فوجود الدنيا بحذافيرها في يد المؤمن دون أن يعلق بها قلبه فتشغله عن ربه، هو في الحقيقة أرفع درجات الزهد، ويليه في مراتبه زهد الرضا لغير واجدي الدنيا، الصابرين الصادقين، الذين لا يغيرهم الفقر، ولا يبطرهم الغنى.

وهذا أيضا ما سار عليه السادة الصوفية، فهم لا يحرمون أنفسهم من متاع الحياة الدنيا إلا إذا حجبتهم عنه سبحانه وتعالى، وفي ذلك قال الشيخ عبد القادر الجيلاني- قدس الله سره-: “أخرج الدنيا من قلبك وضعها في يدك أو في جيبك، فإنها لا تضرك”.[17]

ومن ذلك أيضا، ما حدث به الشيخ الصالح أبو عبد الله البوني، وكان من الأخيار، خرج مرة من بلد العنّاب إلى زيارة الشيخ أبي مدين ببجاية، فقال له الشيخ الصالح، الولي الشهير المنقطع إلى الله تعالى سيد أهل عصره، وقادة أهل مصره، إمام الزاهدين، وقدوة المريدين، وحامل لواء العارفين، أبو مروان الفحصيلي رضي الله عنه ونفع به: “سلم على أبي مدين وقل له: ادع لي.. فقال: فلما وصلت إليه وجدته بثياب حسنة رفيعة، برائحة المسك والطيب، وهو على حالة تشبه حالة الملوك، فسلمت عليه وجلست بين يديه ثم قلت له: يا سيدي، يسلم عليك أبو مروان الفحصيلي وقال لك: ادع لي، فقال: نزع الله من قلبه حب الدنيا. قال: فتعجبت من هذه الدعوة وقلت: سبحان الله، تركت الشيخ أبا مروان في غاية من الزهد والتقشف والإقلال ونبذ الدنيا جملة، وهذا الشيخ فيما رأيت من التمتع ويدعو له بهذه الدعوة، فلما قضيت زيارتي ودعته ورجعت إلى بونة، فقصدت الشيخ فوجدته بمرقعة وبيده قصبة صيد الحوت، فسلمت عليه، فقال لي: رأيت الشيخ أبا مدين؟ فقلت له: نعم، وأخبرته بما وقع، فأخذ القصبة وكسرها ورمى بالسنارة وقال: قال الشيخ الحق.. قلت: ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل، نفعنا الله بهم، وأعاد علينا بركاتهم…[18]

ومن ثمّ، فالتصوف بريء كل البراءة مما يحاول إلصاقه به بعض الذين يدّعون أنه خمول وتواكل وسلبية، وترك للعمل…، إن التصوف هو وضع للدنيا في موضعها الصحيح، وقد قال عليه الصلاة والسلام للنفر الذين أعرضوا عن الدنيا بالكلية: “إنما أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له، ولكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني”.[19]

وكخلاصة لكل ما قيل، فإن من مقاصد رسالة الإسلام تنظيم حياة الفرد والأسرة والمجتمع والأمة، وليس مجرد العبادة والفرار من الناس وهجران الدنيا تحت مسمى الزهد، فقد كانت الممارسة في زمن النبوة تمزج بين السجود والقيام وبين العمل في محراب الحياة، وكانت تسخِّر أشواق الآخرة وروحانيتها في أعمال الدنيا وشؤونها، والإسلام لا يزهّد الناس في الدنيا ليتركوها بالكلية وينقطعوا إلى الآخرة، ولا يرغبهم في الآخرة ليقبلوا عليها بالكلية ويتركوا الدنيا، بل يتخذ بين ذلك سبيلا، وحضارة الإسلام الشامخة لم تقم على المفهوم الخاطئ للزهد في الدنيا والانقطاع للآخرة، بل مزجت الدنيا بالآخرة فآتت أكلها طيبا. 

 

الهوامــــــــش:


[1]– سورة القصص، الآية: 77.

[2]– سورة الأعراف، الآية: 32.

[3]– إيقاظ الهمم في شرح الحكم، ابن عجيبة، المكتبة التوفيقية، القاهرة، ط: 2008م، ص: 80.

[4]– كتاب الزاوية، التهامي الوزاني، مراجعة وتقديم: عبد العزيز السعود، منشورات جمعية تطوان أسمير، ط: 2008م، ص: 113.

[5]– سورة فاطر، الآية: 39.

[6]– سورة هود، الآية: 60.

[7]– سورة البقرة، الآية: 29.

[8]– هو أبو الدرداء عويمر بن زيد (ت31ھ)، شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشاهد كثيرة، وولاّه عمر بن الخطاب القضاء بدمشق. ترجمته في: صفة الصفوة، ابن الجوزي، 1/246.

[9]– مجمع الزوائد، علي بن أبي بكر بن سليمان الهيثمي (ت807ھ)، تحقيق: محمد عبد القادر أحمد عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1422-2001م، 10/369.

[10]– فيض القدير، عبد الرؤوف المناوي (ت1031ھ)، تحقيق: أحمد عبد السلام، ط3، 2006م، رقم الحديث: 4593.

[11]– قواعد التصوف، أحمد زروق، القاعدة: 168، ص: 158.

[12]– مسند أحمد بن حنبل، مسند الشاميين، حديث عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم، رقم الحديث: 17692.

[13]– حلية الأولياء، أبو نعيم الأصفهاني، رقم الحديث: 9224.

[14]– الزهد، عبد الله ابن المبارك، ص: 4، مقدمة المحقق.

[15]– تلبيس إبليس، ابن الجوزي، ص: 157.

[16]– سورة البقرة، الآية: 143.

[17]– الفتح الرباني والفيض الرحماني، عبد القادر الجيلاني (ت561ﮪ)، تحقيق: أبو سهل نجاح عوض صيام، المقطم للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، د.ط، د.ت، ص: 192.

[18]– شيخ الشيوخ أبو مدين الغوث: حياته ومعراجه إلى الله، عبد الحليم محمود، دار المعارف، القاهرة، د.ط، د.ت، ص: 58-59.

[19]– مسند الإمام أحمد بن حنبل، رقم الحديث: 6441.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق