مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراثقراءة في كتاب

المعيار المعرب، والجامع المغرب، عن فتاوي أهل إفريقية والأندلس والمغرب

اشتهر الفقهاء المغاربة بالتأليف في النوازل والأجوبة مما جعلهم يتميزون بذلك عن سائر الفقهاء، ولعل أشهر تآليفهم في هذا اللون كتاب: «المعيار المعرب، والجامع المغرب، عن فتاوي أهل إفريقية والأندلس والمغرب» للإمام العلامة الفقيه النوازلي أبي العباس الونشريسي (تـ914هـ)، فقد حوى هذا العلق النفيس مجموعة ضخمة من فتاوى واجتهادات فقهاء القيروان، وبجاية، وتلمسان، وقرطبة، وغرناطة، وسبتة، وفاس، ومراكش، وغيرها من عواصم الغرب الإسلامي طوال ثمانية قرون، مما ينم عن إدراك عميق لعلماء هذه البلاد لمقاصد الشريعة الإسلامية، مكَّنهم من مواجهة جميع المشاكل التي اعترضتهم، وإيجاد الحلول الملائمة لما استشكله الناس من أمور دينهم ودنياهم.

ومؤلّف الكتاب هو الإمام الأجل، الشيخ الأكمل، أبو العباس أحمد بن يحيى الونشريسي؛ نسبة إلى جبال ونشريس في غرب الجزائر حيث ولد، نشأ بمدينة تلمسان فدَرَس هنالك على جماعة من الأعلام منهم جماعة من أسرة العقباني العلماء، ومحمد بن مرزوق الكفيف، وغيرهم، وانتقل إلى فاس فأخذ عن جماعة كابن القاضي المكناسي، وغيره، ولما استوى سوقه في العلم، استقر بفاس، ولقي بها حفاوة وإقبالا منقطع النظير، وانكب على تدريس المدونة ومختصر ابن الحاجب، فتخرّج على يديه عدد وافر من الفقهاء الذين بلغوا الدرجات العليا في التدريس والقضاء والفتيا؛ أشهرهم ولده عبد الواحد قاضي فاس ومفتيها، والحسن بن عثمان التملي عالم تييوت بضاحية تارودانت، وغيرهما، وترك رحمه الله تراثا زاخراً يأتي في طليعته كتاب المعيار الذي نحن بصدد التعريف به، ثم كتاب الوثائق، والقواعد، وغير ذلك.

ويعتبر كتاب المعيار من أوعب كتب النوازل الفقهية، فهو إلى جانب غزارة محتواه الفقهي؛ يضم  إشارات عن أحوال المجتمع في الغرب الإسلامي؛ من عادات في الأفراح، والأتراح، وأنواع الملبوسات، والمطعومات، وحالات معينة في الحرب، والسلم، والعمران، وما إلى ذلك، الأمر الذي يجعل منه مصدرا هامّاً للمؤرخ، والإجتماعي، وغيرهما، مثلما هو للفقيه. ومؤلفه في كلّ ذلك يُثبت أسماء المفتين، ونصوص الأسئلة، إلاّ في حالات نادرة يعتذر فيها عن عدم وقوفه على نص السؤال، ويأتي بنصوص الأسئلة على حالها دون تصرّف في تحرير بعض الألفاظ والمصطلحات العامية، وهذا ما يضفي على نصوص الكتاب مصداقية علمية كبيرة، وقد يستدعي الأمر أحيانا تكرّر الفتوى لاشتمالها على مسائل تتعلق بأبواب فقهية متعددة. ولم يكن الونشريسي في كتابه جامعا فقط؛ وإنما هو ناقدٌ، بصير، يُرجّحُ، ويضعّف، وقد تطول أجوبته لتغطّي صفحات، وقد تقصر لسطرٍ أو سطور.

ويرجع الفضل في لمّ مادة المعيار إلى تلميذ المؤلف محمد بن محمد الغرديس التغلبي قاضي فاس، وصاحب المكتبة العلمية العظيمة التي ورثها عن عائلته آل الغرديس الفاسيين، الممتد تسسلسلها العلمي بالمدينة أزيد من سبعة قرون، والتي حوت من نفائس كتب المغرب والأندلس الشيء الكثير؛ من أمّات المطوّلات، والمختصرات، والشروح، والحواشي، والتعاليق، والطرر، في مختلف الفنون العلمية، ففتح القاضي محمد الغرديس أبواب مكتبته في وجه شيخه، فكانت المصدر الأساسي للمعيار فيما يتعلق بنوازل الأندلس والمغرب الأقصى، في حين اعتمد في فتاوي أهل إفريقية وتلمسان على نوازل البرزلي، والدرة المكنونة في نوازل مازونة ليحيى بن أبي عمران المغيلي. وقد أدى هذا الثراء العلمي لمادة الكتاب إلى انبهار العلماء به، وانطلاق أقلامهم بالثناء عليه؛ قال ابن مريم في البستان: «جمع فأوعى، وحصّل فوعى»، وقال ابن عسكر: «ألّف المعيار المعرب؛ جمعه في سبعة أسفار فاق به الأوائل والأواخر»، وقال عنه ابن القاضي المكناسي: «تأليف عظيم القدر في الفتاوى»، وانعكس هذا الثناء العطر على كثرة نقول العلماء عنه، والنّهل من حياض علومه التي شغلت المهتمين إلى يومنا هذا، فصار مرجعا فقهيا وتاريخيا لكلّ من جاء بعده؛ لا ينفك فقيه ولا دارس تاريخ عن اعتماده كمصدر أساسي لمادته. واهتمّ بتلخيص المعيار وتهذيبه جماعة من العلماء المغاربة من بينهم أحمد بن سعيد المجيلدي الفاسي (تـ1094هـ) في كتاب سماه: «الإعلام بما في المعيار من فتاوى الأعلام»، اقتصر في تهذيبه على السؤال والجواب دون إسهاب محيلا على الأصل، وحذف المكرر مع التنبيه على محلّه، وترجم الأستاذ عمار مختارات من فتاوى المعيار إلى اللغة الفرنسية، نشرها في مجلة الوثائق المغربية بباريس سنة (1908م).

طبع المعيار لأول مرة في المطبعة الحجرية بفاس سنة (1314هـ/1897م) في اثني عشر جزءا، بعناية جماعة من العلماء على رأسهم ابن العباس البوعزاوي الفاسي (تـ1337هـ/1918م)، ثم أعادت وزارة الأوقاف المغربية نشره عام (1401هـ/1981م) بعناية جماعة من الفقهاء تحت إشراف الدكتور محمد حجي.

الكتاب المعيار المعرب، والجامع المغرب، عن فتاوي أهل إفريقية والأندلس والمغرب
المؤلف أبو العباس أحمد بن يحيى الونشريسي الفاسي (تت914هـ)
مصادر ترجمته دوحة الناشر لابن عسكر الشفشاوني(48)، جذوة الاقتباس لابن القاضي المكناسي(156)، البستان لابن مريم (53)
دار النشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ـ المغرب، بعناية جماعة من الفقهاء تحت إشراف الدكتور محمد حجي، الطبعة الأولى 1401هـ/1981م
الثناء على المؤلف قال ابن عسكر: «ألّف المعيار المعرب؛ جمعه في سبعة أسفار فاق به الأوائل والأواخر»

إنجاز: ذ. نور الدين شوبد

Science

الدكتور نور الدين شوبد

باحث مؤهل متعاون مع مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط

أستاذ مساعد بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية أبو ظبي

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. ابارك الله فيكم وجزاكم الله خيرا
    هل هناك دراسات على كتاب المعيار خاصة بالأعلام المذكورين في الكتاب؟

  2. السلام عليكم فضلا وليس امرا لو تكرمتم علي باهم فتاوي الامام الونشريسي مع دكر المصادر فتدي بحث في هدا المجال وشكرا تكم

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق