مركز الدراسات القرآنيةدراسات عامة

المستويات القرآنية لمنهج التعامل مع النص

تمهيد:

القرآن كلام الله أنزله ليكون هداية للتي هي أقوم، وتكفل الله بحفظه لتستمر هدايته للعالمين وينعم بفضله كل من بلغه، لكن الإنسان في علاقته مع القرآن تتنازعه مؤثرات متعددة جعلته أحياناً ينطلق في فهم النص من أسبقيات ومحددات خارجية، ففُسر النص القرآني من خلال الزاوية الضيقة للمذهب أو الطائفة أو التيار الفكري، وقد أخذت هذه التأويلات مشروعيتها من مقولات مزقت النص وجعلت منه وعاء يحتمل كل ما يقال فيه أو عنه، فهو “حمَّال أوجه”، وأصبح سلطان الفهم هو منطلق النظر في النص لا النص نفسه، حتى تحول ما يعتبر إطار وحدة المسلمين إلى مثار نزاع عند التأويل.

ثمة خيط دقيق بين المساحة التي يحتمل النص فيها تنوع الفهم والتأويل وبين الإسقاط على النص مما ليس فيه، وإذ ترجع المسألة إلى المنهج فمن الأهمية بمكان اكتشاف المعطيات القرآنية التي ترسم إطاراً لمنهج التعامل مع النص نفسه، بدءاً من أوصاف التعامل مع النص، حيث كانت أول كلمة أنزلت من القرآن ذات بعد منهجي في التعامل مع النص وهي (اقرأ)، ثم تتالت كلمات أخرى كالتلاوة والترتيل والتدبر.

وقد تم تعريف تلك المفردات على أنها أسماء لمسمى واحد، رغم وجود قرائن سياقية تشير إلى ما هو أعمق من كونها تعاوراً لفظياً بين المفردات، وستحاول هذه المقاربة الحفر في سياقات هذه الكلمات النصية وجذورها اللغوية عسى أن تكشف عن معطيات يمكن أن تسهم في رسم إطار منهجي مستمد من القرآن للتعامل مع النص.

وسنتناول هذه المفردات وفق ما كنا اتبعناه من منهج في دراسات سابقة[1]، وذلك بالبدء بالإطار اللغوي للمفردة ثم الانتقال إلى الاستعمال الاصطلاحي لها، ثم عرض المفردة من خلال الاستعمال القرآني مصنفة حسب ما توحي به الآيات مع الرجوع إلى ما في التفاسير حولها، ومن ثم محاولة الكشف عن الرابط بين جذر الكلمة وبين مختلف السياقات في بنية النص القرآني، ثم نحاول الربط بينها جميعاً.

وسنبدأ تناول هذه المفردات من الأقدم نزولاً في القرآن، فتكون القراءة هي الأولى إذ هي أول لفظ أنزل، ثم التلاوة التي وردت أول مرة في سورة القلم، ثم الترتيل في سورة المزمل، ثم التدبر في سورة ص.

1ـ القراءة أداءً ومنهجًا:

في اللغة:

القِرَاءَةِ والاقْتِرَاءِ والقَارِيءِ والقُرآنِ، والأَصلُ في هذه اللفظةِ الجَمْعُ، وكُلُّ شيّءٍ جَمعْتَه فقد قَرَأْتَه وسُمِّيَ القُرآنَ؛ لأَنه جَمَعَ القِصَصَ والأَمْر والنَّهْيَ والوَعْدَ والوَعِيدَ والآيَاتِ والسُّوَرَ بَعْضَهَا إِلى بعْضٍ،  قال الزّجاج “يُسَمَّى كَلامُ الله تعالى الذي أنزلَه على نَبِيّه، صلى الله عليه وسلم، كِتاباً وقُرآناً وفُرْقَاناً؛ لأَنه يَجْمَعُ السُّوَرَ فَيَضُمُّها”، وقَرَأَ الشيءَ قُرْآناً جَمَعَه وضَمَّه أَي: ضَمَّ بعْضَه إِلى بعضٍ.

والقُرْآن هو التنزيلُ العزيزُ أَي: المَقروء المكتوب في المَصاحف. وقوله تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءانَهُ﴾ [سورة القيامة/الآية: 16] أَي: جَمْعَه وقِراءَتَه ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءانَه﴾ [سورة القيامة/ الآية: 17]، أَي: قِرَاءَتَه قال ابنُ عَبَّاسٍ: فإِذا بَيَّنَّاهُ لَك بِالقِراءَةِ فاعْمَلْ بِمَا بَيَّنَّاهُ.

وَقَرَأْتُ الكِتَابَة قِراءَةً وقُرْآناً، وقَرَأَه وقَرأَ به، ومعنى ﴿قَرَأْتَ الْقُرْءانَ﴾ [سورة النحل / الآية:98]، لَفَظْتَ به مَجموعاً أَي: أَلْقَيْتَه، وقَرَأْتُ القرآن عن ظهر قلْبٍ أو نظرت فيه، هكذا يقال ولا يقال: قَرَأت إلا ما نظرت فيه من شعر أو حديث، وقرأ الكتاب قراءة وقرآنا تتبع كلماته نظرا ونطق بها وتتبع كلماته[2].

قال الراغب الأصفهاني: “والقراءة: ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل، وليس يقال ذلك لكل جمع، لا يقال: قرأت القوم: إذا جمعتهم، ويدل على ذلك أنه لا يقال للحرف الواحد إذا تفوه به قراءة”[3].

إن جذر (ق. ر. أ) أصل دال على الجمع والاجتماع والضم، وهي معان تفيد القوة، فالأصل اللغوي للقراءة يدل على معنى الجمع للمتفرقات مطلقاً، وخص في الاستعمال بجمع الحروف والكلمات[4]، وأدائها لفظاً أو ذهناً، وبالتالي فإن مجرد الجمع ليس هو المقصود إنما الوعي به، وبالتالي فعملية القراءة ذهنية بالدرجة الأولى، ولهذا البعد الذهني استخدمت اشتقاقات اللفظ بما يدل على أنشطة ذهنية، كالفهم والمدارسة والتفقه والتأمل والتنسك.

القراءة في القرآن:

أول ما يسترعي الانتباه تسمية الله كلامه المنزل قرآناً، وقد ورد لفظ القرآن في القرآن 68 مرة، ولفظ القرآن في اللغة مصدر على وزن فُعلان بالضم، مرادف للقراءة، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءانَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءانَهُ﴾ [سورة القيامة/الآيتان:16-17]،  وسمي به الكتاب المقروء من باب تسمية المفعول بالمصدر، ثم نقل من هذا المعنى المصدري وجعل عَلماً شخصياً للكلام المعجز المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد “روعي في تسميته قرآناً كونه متلواً بالألسن، كما روعي في تسميته كتاباً كونه مدوناً بالأقلام، فكلا التسميتين من تسمية الشيء بالمعنى الواقع عليه، وثمة اشتراك في المعنى بين لفظ الكتاب والقرآن لغوياً، فمادتا كتب وقرأ تدوران على معنى الضم والجمع مطلقاً”[5]، قال الراغب الأصفهاني: “لا يقال لكل جمع قرآن ولا لجمع كل كلام قرآن، وإنما سمي قرآناً لكونه جمع ثمرات الكتب السالفة المنزلة وقيل لأنه جمع أنواع العلوم كلها”[6].

وفي صياغة لفظ القرآن من قرأ على وزن (فعلان) قوة دلالية؛ فالكلمات التي تم تشكيلها وفقاً لهذه الصيغة تدل على القوة كالسلطان والعدوان والطغيان والفرقان، “ومن هنا تكون كلمة (قرآن)، قد جمعت عبر رحلتها التكوينية، كافة مقومات القوة التي يوفرها الدرس اللغوي للخطاب”[7].

وكلمة “قرآن” وإن صارت علَماً مختصا بكتاب الله فإنها تتضمن معاني القراءة لاشتقاقها من مادة قرأ، وهي أول كلمة أنزلت، وهذا الربط بين أول كلمة وأمر إلهي وتسمية ما يأتي به الوحي من مشتقات هذه الكلمة له دلالة مركزية في منهجية التعامل مع هذا النص المنزل.

وقد يسّر الله القرآن فعلَّمه للرسول والبشر ﴿الرحمن عَلَّمَ الْقُرْءَانَ﴾ [سورة الرحمن/ الآية:1]، وقرأه الله بواسطة الوحي ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءانَهُ، فَإِذَا قَرَأنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءانَهُ﴾ [سورة القيامة/الآيتان:16- 17]، فتكفل الله بجمع القرآن في صدر النبي ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى﴾ [سورة الاَعلى/الآية:6] وأن يقدر على إقرائه، ﴿وَقُرْءَانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾ [سورة الاِسراء / الآية: 106].

لكن قراءة النبي للقرآن لم تلق الاستجابة من المشركين ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْاَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُومِنِينَ﴾ [سورة الشعراء/الآيتان: 198–199]، ﴿وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْءانُ لَا يَسْجُدُونَ﴾ [سورة الانشقاق / الآية: 21]، ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُومِنُونَ بِالْاَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا﴾ [سورة الاِسراء / الآية: 45].

وقد أرشد الله المؤمنين إلى التحصن مما يصرف عن إتقان القراءة والفهم وذلك بالاستعاذة ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءانَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [سورة النحل/ الآية:98]، وذلك عند البدء بالقراءة، فإذا شرع في القراءة فينبغي أن تلقى حقها من الانتباه ﴿إِذَا قُرِئَ الْقُرْءانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [سورة الاعراف/ الآية: 204].

كما أُمر المؤمنون بقراءة القرآن حسبما يتيسر لهم لاسيما في الليل﴿اِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اليْلِ وَنِصْفِهِ وَثُلُثِهِ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ الَيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ﴾ [سورة المزمل / الآية: 20].

إن فعل القراءة ليس خاصاً بالقرآن الكريم، بل إن القرآن الكريم نفسه أشار إلى كون كل كتاب يقرأ؛ فكان مما اشترطه المشركون على النبي، صلى الله عليه وسلم، معاجزة أن ينزل عليهم كتاباً يقرأونه: ﴿اَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ اَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُومِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا﴾ [سورة الاِسراء/ الآية: 93]، كما أن أهل الكتاب يقرؤون كتابهم: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَسْئلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [سورة يونس / الآية: 94].

والإنسان يوم القيامة يقرأ كتاب أعماله: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [سورة الاِسراء / الآية: 14]، ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ [الاِسراء / الآية:71]، ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾ [الحاقة / الآية: 19].

وظاهر من هذه السياقات القرآنية أن القراءة هنا ليست مجرد حركة صوتية إنما هي تحصيل للمعنى من خلال استجماع ما في الحروف والكلمات من معان تدل عليها سواء بالنظر فيها أو بنطقها.

القراءة باعتبارها منهجا:

تناول المفسرون الأمر الأول بالقراءة: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْاِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اِقْرَأْ وَرَبُّكَ الْاَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْاِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق/الآيات:1- 5] من حيث طبيعة الأمر والمأمور به، فذكروا أنَّ الأمرَ بالقراءةِ يقتَضي المقروءَ قطعاً، وحيثُ لَمْ يُعينَ وجبَ أنْ يكونَ ذلكَ ما يتصلُ بالأمرِ حتماً،  فالمراد من قوله: “اقرأ” أيْ: مَا يوحَى إليكَ، أي: اقرأ القرآن، إذ القراءة لا تستعمل إلا فيه، فمفعول اقرأ محذوف، فالمعنى: اقرأ ما أنزل عليك من القرآن مفتتحاً باسم ربك أو ملتبساً باسمهِ تعالى أيْ مُبتدئاً بِه، ثم كررَ الأمرَ بقولِه تعالى: “اقرأ” أي افعلْ ما أُمرتَ بِه تأكيداً للإيجابِ وتمهيداً لما يعقبُه منْ قولِه، فيما ذهب آخرون من المفسرين إلى أن معنى “اقرأ” اذكر اسمه مستفتحاً به قراءتك[8]، “والقراءة نطق بكلام معيَّن مكتوبٍ أو محفوظٍ على ظهر قلب” وفي هذا الافتتاح براعة استهلال للقرآن[9].

وظاهر من هذا التناول أن التعامل مع القراءة هنا جاء باعتبارها معنى لغوياً، يتمثل بالنطق بكلام محفوظ أو مكتوب، لكن هذا المعنى إن كان يمكن اعتباره تفسيرا لفظيا فإن سياق النص يشير إلى معان أعمق يمكن لحظها، فتكرار الأمر بالقراءة ليس مجرد توكيد لأمر واحد، فما أعقب كل أمر يدل من آيات يشير إلى معنى مختلف، ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْاِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اِقْرَأْ وَرَبُّكَ الْاَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْاِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق/ الآيات:1-5].

فالأمر الأول أعقبه ذكر أوصاف للخالق ترتبط بالإنسان وتكوينه، فيما أعقب الأمر الثاني بذكر صفات للخالق ترتبط بما له صلة بالقراءة والقلم، وهذا يدل على أن هناك قراءتين: الأولى قراءة كونية شاملة لآثار القدرة الإلهية وصفاتها وخلقها للظواهر ذات المعنى، هذه القراءة تأتي باسم الله وبوصفه المتفرد به (الخالق)، وأما القراءة الثانية فتتم بمعونة الله وتتجه إلى ما له صلة بالقلم وهو الوحي المنزل المقروء والمكتوب، فقد علمه الله للإنسان ﴿الرحمن عَلَّمَ الْقُرْءَانَ﴾ [سورة الرحمن / الآية: 1]، بعد أن جمعه لنبيه ﴿اِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءانَهُ فَإِذَا قَرَأنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءانَهُ﴾ [10] [سورة القيامة / الآيتان: 16-17].

وإذا عدنا إلى المعنى اللغوي لنستحضر الأصل الذي اشتق منه الأمر بالقراءة نجد أن الأصل فيه هو الجمع وضم الشيء بعضه إلى بعض، مع الوعي بهذا الجمع، فمن يلفظ مفردات لغة لا يفهم حروفها لا يسمى قارئاً، هذا والجمع يفيد معنى القوة، ووجود وعي بهذا المجموع يفيد معنى البحث عن نظام وربط بين الأشياء المجموعة، وفي وزن لفظة القرآن ما يدل على معنى القوة.

استناداً إلى هذه المعطيات يمكننا القول إن الأمر بالقراءة هو أمر بجمع المتفرقات والوعي بما يدل عليه اجتماعها، وبتعبير آخر هو التفكير بالمجموع المعني بالأمر، وإذ اقترن أمر القراءة باسم الله، واسم الله يذكرنا بالأسماء التي تعلمها آدم، والتي وصلنا في دراسة سابقة إلى أنها علم المسميات والتي ترمز ملكة المعرفة التي جعلها الله في الإنسان[11]، وبالتالي فالأمر بالقراءة هو أمر بتفعيل ملكة الإنسان في معرفة الأشياء وفهم سننها وقوانينها وروابطها، وأن يلحظ عند تفعيل هذه الملكة صلتها بالله عز وجل. فالأمر الأول بالقراءة هو أن يعي الإنسان، مستحضراً قدرة الله عز وجل، خلق الله عموماً وخلق الإنسان خصوصاً، وخلق الإنسان هو الآخر جمع في الرحم؛ فالقراءة تفكر في عالم الكون المخلوق ومنه عالم الإنسان المجموع خلقه في بطن أمه، فهي قراءة للكون اقترنت باستحضار اسم الله معها نظراً لاحتمال الغفلة عن الله في قراءة هذا الكون.

أما القراءة الثانية، فهي قراءة لما جمعه الله وعلمه بالقلم، وهي قراءة الوحي المنزل، الذي تكرم الله بإنزاله وجمعه وتعليمه، فقد أمر الإنسان بقراءته، وزيد في تحصين هذه القراءة أن يستعاذ بالله من الشيطان عندها ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءانَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [سورة النحل / الآية: 98]. والقراءة هنا تتجاوز التلفظ والأداء لترتقي إلى الفهم والجمع الذهني للمعاني كما يجمع اللسان الألفاظ، لذلك نجد القرآن يفرق بين مرتبتين عند قراءة الغير للقرآن ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [سورة الاعراف / الآية: 204]، الأولى هي الاستماع الصوتي الذي يوصل الكلمات إلى الأذن والثانية هي الإنصات التي تمكن المتلقي من تدبر المعنى والوعي به.

إن هذا المعنى للقراءة (جمع المتفرقات مع الوعي بها) إذ تتجه إلى الكون وإلى القراءة، كما هو الأمر في سورة العلق، لا يلغي استعمال القراءة بمستوى الأداء، وما نود تأكيده هنا، أن هذا المعنى للقراءة يمكن أن يتجه إلى النظام الكوني الذي يجمع المتفرقات فيكون أمراً بالوعي بها، ويمكن أن يتجه إلى الوحي فيكون فهماً لمعانيه، وقد سمى القرآن كلا الأمرين كتاباً[12]، فالكون كتاب معمور والقرآن كتاب مسطور، والأمر المتجه إليهما واحد، كما أن أجزاءهما المتفرقة سميت بنفس الاسم (الكلمات).

ومن ناحية أخرى فلفظ الكتاب يدل على الجمع بانتظام، والأمر بالقراءة يدل على استحضار هذا الجمع والوعي به، وبالتالي فالأمر بالقراءة هو أمر بوعي النظام الموجود في النص والروابط بين أجزائه (فهم بنيته) والوعي بالنظام الذي يربط بين المخلوقات وينظم سيرها.

2ـ التلاوة أداءً لفظيَّا وسلوكًا عمليًّا في اللغة:

التاء واللام والواو أصلٌ واحد، وهو الاتِّباع. يقال: تَلَوْتُه تُلُوَّاً إذا تَبِعْتُه، وتَلَوْتُ الرجل أَتْلوهُ تُلُوّاً، إذا تَبِعْتَهُ. وتَتَلاَّهُ: تَتَبَّعَهُ. وتَتَالَتِ الأُمُورُ تَلاَ بَعْضُها بَعْضًا وأَتْلَيْتُه إِيّاه أتْبَعْتُه، وهذا تِلْوُ هَذَا أي تِبْعُه،  والتِّلْوُ، بالكسر: ما يَتْلُو الشيءَ، وكلُّ شيءٍ تَلاَ يتلُو شيئاً فهو تِلْوُه، يقال: ما زلت أَتْلوهُ حتى أَتْلَيْتُهُ؛ أي: سَبَقْتُه فَجَعَلْتُه خَلْفي يَتْلُوني، والتُّلاوَةُ والتَّلِيَّةُ بَقِيَّةُ الشَّيْءِ عامَّةً كأَنّه تُتُبِّعَ حتى لم يَبْقَ إِلاّ أَقَلُّه وخَصَّ بعضُهم به بَقِيَّةَ الدَّيْنِ والحاجَةِ. وأَتْلَيْتُ فلاناً على فلانٍ، أي: أَحَلْته. وأتْلَيْتُه إيَّاهُ أتْبَعْتُهُ. وتَتَلَّى الشَّيْءَ تَتَبَّعَه، وتَتَلَّيْتُ حَقِّي، إذا تَتَبَّعْتُهُ حتى استوفيته، وتَلَّى الرجلُ صلاتَه أَتْبَعَ المكتوبةَ التطوُّعَ، وتلي تخلف، ومن الشهر والدين وغيرهما قدر بقي، وتَوالِى الظُّعُنِ أَواخِرُها وتَوالِى الإبِلِ كذلكَ وتَوالِى النُّجُومِ أَواخِرُها.

ومن الأصل اللغوي (الاتِّباع) تلاوةُ القُرآن؛ لأنّه يُتْبِع آيةً بعد آية. تلا يَتْلُو تلاوَةً أي: قَرأ. وتلاه، أي: رَوَاه، وتَلَوْتُ القرآنَ أو كُلَّ كَلامٍ تِلاوَةً، كَكِتابَةٍ قَرَأْتُهُ. والتلاوة هي قراءة القرآن متتابعة، كأنك اتبعت آية في إثر آية. والقارئ تالٍ؛ لأنه يَتْبَعُ ما يَقْرَأُ[13].

قال الراغب “التلاوة تختص باتباع كتب الله المنزلة، تارة بالقراءة، وتارة بالارتسام لما فيها من أمر ونهي، وترغيب وترهيب، أو ما يتوهم فيه ذلك، وهو أخص من القراءة فكل تلاوة قراءة وليس كل قراءة تلاوة”[14].

التلاوة في القرآن:

ورد استعمال جذر تلو في القرآن أربعاً وستين مرة، ونسب فعل التلاوة في القرآن إلى الله والملائكة والشياطين والإنس مؤمنهم وكافرهم، واقترنت التلاوة بالكتاب والقرآن والآيات والأنباء. وقد فسرت كتب الأشباه والنظائر التلاوة في القرآن على خمسة أوجه: القراءة ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ﴾ ﴿يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ﴾، والاتباع: ﴿ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ﴾، والإنزال: ﴿نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى﴾، والعمل: “﴿حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾ والرواية: ﴿مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾[15].

أما كتب التفسير، ففسرت التلاوة أحياناً بمعناها اللغوي فرادفت بينها وبين القراءة فـ “التلاوة: القراءة، وسميت بها: لأن الآيات أو الكلمات أو الحروف يتلو بعضها بعضاً في الذكر”[16]، وأحياناً فسروها بما هو مجاز من التلاوة أو من لوازمها. فمن الاستعمالات اللغوية بمعنى الاتباع قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ﴾ [سورة هود / الآية: 17]. أي: يتبعه، وكذلك قوله: ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا﴾ [سورة الشمس / الآية: 2].

ومن المعاني التي وردت تلاوة الله آياته على الرسول[17] ﴿تِلْكَ ءَايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [سورة البقرة / الآية: 250]. أي: نقص عليك من أخبار المتقدمين[18]، وتلاوة الملائكة أي يقرؤون الوحي على أنبياء الله، أو يتلون ذكره: ﴿فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا﴾ [19] [سورة الصافات / الآية: 3]، وأما ما تتلوه الشياطين: ﴿واتَّبَعوا ما تَتْلو الشياطينُ على مُلْك سُلَيمان﴾ [سورة البقرة / الآية: 101]، فهو ما تُحَدِّثُ وتَقُصُّ، وقيل ما تتكلم به، أو أن المراد منه التلاوة الإخبار لأن التلاوة حقيقة في الخبر، وقيل: ﴿تتلو﴾ أي: تكذب على ملك سليمان، يقال: تلا عليه إذا كذب وتلا عنه، إذا صدق وإذا أبهم جاز الأمران[20].

حق التلاوة:

ورد تعبير حق التلاوة في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُوْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [سورة البقرة / الآية: 120]، وقد ذكروا في تفسير الآية أن التلاوة لها معنيان، أحدهما: القراءة، الثاني: الاتباع فعلاً؛ لأن من اتبع غيره يقال تلاه فعلاً، والظاهر كما يرى الرازي أنه يقع عليهما جميعاً، ويصح فيهما جميعاً المبالغة؛ لأن التابع لغيره قد يستوفي حق الاتباع فلا يخل بشيء منه، وكذلك التالي يستوفي حق قراءته فلا يخل بما يلزم فيه، فيكون المعنى على الاتباع: يعملون به حق عمله، وعلى القراءة: أنهم تدبروه فعملوا بموجبه حتى تمسكوا بأحكامه من حلال وحرام وغيرهما، أو أنهم خضعوا عند تلاوته وخشعوا إذا قرؤوا القرآن، أو أنهم عملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه، أو يقرؤونه كما أنزل الله، ولا يحرفونه ولا يتأولونه على غير الحق، وأجمع الأقوال أن تحمل الآية على كل هذه الوجوه لأنها مشتركة في مفهوم واحد، وهو تعظيمها، والانقياد لها لفظاً ومعنى. فهي تجمع بين مراعاة اللفظ والتدبر في المعنى والعمل بالمقتضى[21].

وأما تلاوة أهل الكتاب للتوراة[22] ﴿قُلْ فَاتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [سورة ال عمران / الآية: 93]. فمعناها: تدرسون وتقرءون التوراة وتعلمون بما فيها من الحث على أفعال البر والإعراض عن أفعال الإثم، والدعوة إلى تلاوتها لإقامة الحجة عليهم بما فيها[23].

والرسل يتلون آيات الله ﴿أَلَمْ يَاتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءَايَاتِ﴾ [سورة الزمر / الآية: 68]. يعني يقرءون عليكم[24]، والرسول الخاتم يتلو الآيات والقرآن كذلك[25] ﴿وَالَّذِي بَعَثَ فِي الْاُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [سورة الجمعة/الآية: 2]، ولم يكن يتلو من كتاب قبله ﴿مَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [سورة العنكبوت/الآية: 48]، فهو يتلو صحفاً: ﴿رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً﴾ [سورة البينة / الآية: 2]؛ وهي القرآن الذي أمر بتلاوته ﴿وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ [سورة النمل/الآية: 94]، وفسر الأمر به “أن أواظب على تلاوته لتنكشف لي حقائقه في تلاوته شيئاً فشيئاً، تكرير الدعوة وتثنيته الإرشاد لكفايته في الهداية إلى طريق الرشاد، أو اتباعه” فهي من التلاوة أو من التلوّ كقوله تعالى: ﴿واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ﴾ [سورة يونس/ الآية: 109]، وذكر الألوسي أنه خلاف الظاهر[26].

هذا من حيث التالين أما المتلو فهو القرآن والكتاب يتلى: ﴿وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا ءَامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ﴾ [سورة القصص/الآية: 53]، ﴿اََوَلَمْ يَكْفِهِمُ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُومِنُونَ﴾ [سورة العنكبوت/ الآية: 51]. ﴿اِن الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ﴾ [سورة فاطر/الآية: 29]، وكذلك آيات الله تتلى[27] ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ ءَايَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾ [سورة ال عمران / الآية: 101]، وقد فسرت الآيات بأنها القرآن.

وكذلك الأنباء تتلى (الله يتلوها): ﴿طسم تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُومِنُونَ﴾ [سورة القصص / الآيتان: 1 – 2]، وقد فسرت تلاوة الله الأنباء بـ نقرأ عليك بقراءة جبريل، ونقصّ في هذا القرآن أو نوحي إليك[28]، كما كلف الرسل بتلاوتها[29] ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ -ادَمَ بِالْحَقِّ﴾ [سورة المائدة / الآية: 29]، وقد فسرت هنا أيضاً بالقراءة والخبر[30]، وقد تضاف التلاوة إلى ما في مضمون الآيات من أحكام[31] كالمحرمات ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْاَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ [سورة المائدة / الآية: 2]، أي: إلا محرّم مما يتلى عليكم من القرآن، من نحو قوله: ﴿حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة﴾، أو إلا ما يتلى عليكم آية تحريمه[32].

معنى التلاوة:

إن الميل العام لدى اللغويين والمفسرين متجه إلى المرادفة بين التلاوة والقراءة، فسميت القراءة تلاوة، لأن الآيات أو الكلمات أو الحروف يتلو بعضها بعضا في الذكر والتلو التبع[33]، فالتِّلاوَةَ إِمَّا مُرادفٌ للقراءَة، أو أن الأَصل في تَلا معنى تُبِعَ ثم كَثُر في الاقتراء[34].

وقد لاحظ بعضهم فرقاً بسيطاً في الاستعمال وهو أن التلاوة لا تكون إلا لكلمتين فصاعدا، والقراءة تكون للكلمة الواحدة يقال قرأ فلان اسمه ولا يقال تلا اسمه؛ وذلك أن أصل التلاوة اتباع الشيء الشيء يقال تلاه إذا تبعه فتكون التلاوة في الكلمات يتبع بعضها بعضا، فإذا لم تكن الكلمة تتبع أختها لم تستعمل فيها التلاوة وتستعمل فيها القراءة؛ لأن القراءة اسم لجنس هذا الفعل، ولا تكون في الكلمة الواحدة إذ لا يصح فيه التلو[35]، وأشرنا إلى ما ذكره الراغب الأصفهاني من اختصاص التلاوة بالكتب المنزلة قراءة لها أو عملاً بما فيها، بخلاف القراءة التي تشمل غير الكتب، وهي أخص من القراءة، فكل تلاوة قراءة، وليس كل قراءة تلاوة[36].

إن القراءة من حيث هي أداء لفظي للآيات والنص القرآني هي تطبيق لأصل المعنى اللغوي للتلاوة وهو الاتباع والتتابع، ففي قراءة النص اتباع الألفاظ بعضها ببعض، هذا في إطاره الشكلي، أما في السياق العملي فهي الاتباع حقيقة وهو العمل بمقتضى النص ومعناه، وقد عبر عن هذا المعنى بالخصوص “حق التلاوة”، ذلك أن نتيجة التلاوة الحقة وصف الإيمان.

ونلحظ في معظم الآيات التي ورد فيها لفظ التلاوة باشتقاقاته المختلفة أن السياق يدل على احتمال المعنيين وهو الأداء اللفظي وإتباعه بالعمل، وإذا أدركنا هذين البعدين للتلاوة نستنتج أن وعي المعنى ركن هام من أركان التلاوة، هذا إذا قصرنا القراءة على الأداء اللفظي، أما إذا لاحظنا القراءة باعتبارها منهجا، فإنَّها تتضمن الوعي بالمعنى، فتكون التلاوة مرحلة أعمق من القراءة إذ هي ترجمة للقراءة في السلوك والتطبيق.

وعليه فلا ترادف بين القراءة والتلاوة إنما ارتقاء في درجات التعامل مع النص، وفي معنى التتابع تأكيد لضرورة إدراك الروابط بين أجزاء النص واكتشاف المعنى، وبالتالي تحقيق معنى النص؛ فالتلاوة لا تكون إلا لنص، ومن ثم ترجمة معناه باتباعه.

في اختيار هذا اللفظ للتعبير عن التعامل مع النص ملحظ مهم وهو أن القرآن إنما أنزل ليتبع، واتباعه يقتضي قراءته قراءة منهجية تكتشف نظامه، بعد قراءة ألفاظه، ومن ثم متابعة هذه القراءة وترجمته إلى سلوك وتطبيق التلاوة.

3ـ الترتيل: تذوق الجمال القرآني في اللغة:

الرَّتَلُ مُحَرَّكَةً حُسْنُ تَناسُقِ الشَّيْءِ وانْتِظامِهِ على اسْتِقامَةٍ، وأيضاً الْحَسَنُ من الكَلامِ والطَّيِّبُ مِنْ كُلَّ شَيْءٍ، والرَّتَلُ أيضاً المُفَلَّجُ من الأسْنانِ، يُقال ثَغْرٌ رَتَلٌ إذا كان مُسْتَوِيَ النَّباتِ، ورَتَّلَ الْكَلامَ تَرْتِيلاً أَحْسَنَ تَأْلِيفَهُ أو بَيَّنَهُ تَبْييناً بغيرِ بَغْي وتَرِتْيلُ القُرآنِ منه، وتَرَتَّلَ في الكَلامِ تَرَسَّلَ وتأنى، ورتلت الكلام ترتيلاً إذا أمهلت فيه وأحسنت تأليفه، ورَتِلَت أسنانُه رَتَلاً تباعَدَت ومنه التَّرْتِيل في القِرَاءة إنما هو تباعُدُ ما بين الأحْرُف، والتَرْتيلُ في القراءة: التَرَسُّلُ فيها والتبيينُ بغير بَغْيٍ، وكلامٌ رَتِلٌ بالتحريك: أي مُرَتَّلٌ[37].

فالترتيل تَساوٍ في أَشْياءَ مُتَناسِقَةٍ[38]، فترتيل القرآن “إرْسالُ الكلمةِ من الْفَمِ بِسُهُولَةٍ واسْتِقامَةٍ”[39] فهو يجمع بين التحقيق والتبيين والتمكين والترسل في تلاوته وإحسان تأليف حروفه، وهو نبذُهُ حَرْفاً حَرْفاً، ورتلته ترتيلاً بعضه على أثر بعض، أو”رِعايَةُ مَخارِجِ الحُرُوفِ وحِفْظُ الوُقوفِ وهو خَفْضُ الصَّوْتِ والتَّحَزُّنُ بالقراءَةِ”[40] وفي صفة قراءة النبي كان يرتل آية آية، فترتيل القراءة التأني فيها والتمهل وتبيين الحروف والحركات تشبيها بالثغر المرتل[41].

الترتيل في القرآن:

لم يرد جذر رتل غير أربع مرات في القرآن في الآيتين التاليتين: ﴿اَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا﴾ [سورة المزمل/ الآية: 3]، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [سورة الفرقان / الآية: 32]. وقد فسر[42] الأمر بالترتيل: أن ترسَّل به ترسلاً، وبيِّن القرآن إذا قرأته تبييناً، واقرأه قراءة بينة. بعضه على أثر بعض وعلى تؤدة. والترتيل النَّبْذ: الطَّرْح والترتيل تنسيق الشيء، فـ “ترتيل القرآن: قراءته على ترسل وتؤدة بتبيين الحروف وإشباع الحركات، حتى يجيء المتلوّ منه شبيها بالثغر المرتل: وهو المفلج المشبه بنور الأقحوان”[43] وقوله تعالى: (تَرْتِيلاً) تأكيد في إيجاب الأمر به، وأنه مما لابد منه للقارئ.

وحول فائدة الترتيل يقول الإمام الرازي: “واعلم أنه تعالى لما أمره بصلاة الليل أمره بترتيل القرآن حتى يتمكن الخاطر من التأمل في حقائق تلك الآيات ودقائقها، فعند الوصول إلى ذكر الله يستشعر عظمته وجلالته، وعند الوصول إلى الوعد والوعيد يحصل الرجاء والخوف، وحينئذ يستنير القلب بنور معرفة الله، والإسراع في القراءة يدل على عدم الوقوف على المعاني، لأن النفس تبتهج بذكر الأمور الإلهية الروحانية، ومن ابتهج بشيء أحب ذكره، ومن أحب شيئاً لم يمر عليه بسرعة، فظهر أن المقصود من الترتيل إنما هو حضور القلب وكمال المعرفة”[44]. ويؤكد ذلك البقاعي بقوله: “فإن ذلك موجب لتدبره فتكشف له مهماته وينجلي عليه أسراره وخفياته، قال ابن مسعود رضي الله عنه: ولا تنثروه نثر الدقل ولا تهذوه هذَّ الشعر، ولكن قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة. روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها: “أن النبي صلى الله عليه وسلم، قام حتى أصبح بآية، والآية ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [سورة المائدة / الآية: 120] ولما أعلم سبحانه بالترتيل أعلم بشرفه بالتأكيد بالمصدر فقال: ﴿تَرْتِيلًا﴾[45].

وما ذكروه من معنى في تفسير آية المزمل ذكروه أيضاً في آية الفرقان، فترتيل الله للقرآن يعني إرساله ترسلاً آيات ثم آيات، ونزوله متفرّقاً، وشيئاً بعد شيء حتى يحفظه. فالمعنى فصلناه أي: قدره آية بعد آية، ووقفة عقيب وقفة، وقيل: أنزلناه على الترتيل، وهو التمكُّث الذي يُضادُّ العَجَلة، أي أن نزوله مع كونه متفرقاً كان على تمكث وتمهل في مدة متباعدة وهي عشرون سنة. وقال آخرون: معنى الترتيل: التبيين والتفسير، ويجوز أن يكون المعنى: وأمرنا بترتيل قراءته[46] .

قال ابن عاشور: “والترتيل يوصف به الكلام إذا كان حسن التأليف بيّن الدلالة. واتفقت أقوال أئمة اللّغة على أن هذا الترتيل مأخوذ من قولهم: ثَغر مرتَّل ورَتِل، إذا كانت أسنانه مفلّجة تشبه نَور الأقحوان. ولم يوردوا شاهداً عليه من كلام العرب”[47].

معنى الترتيل:

تشير الآيتان اللتان تحدثتا عن الترتيل إلى وصف وأمر؛ فالوصف يتعلق بنزول القرآن ونسب فعل الترتيل إلى الله عز وجل، أما الأمر بالترتيل فهو تكليف خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم، وأمته مكلفة بهذا الخطاب، وسياق الحديث في الآيتين يشير إلى أثر الترتيل في فهم القرآن وربط ألفاظه بمعانيه، واستشعار الجمال الشكلي والمعنوي فيه.

وكل المعاني اللغوية المذكورة للترتيل تشير إلى خاصية التناسق والتفصيل والجمال، وأن الجمال يتجلى من خلال التفصيل والتبيين، وبعبارة أخرى فإن جمال الكل يتضح من خلال تفصيل الأجزاء والتؤدة في عرضها، وباستحضار هذه المعاني في ترتيل القرآن، ندرك أن المقصود بالأمر بالترتيل هو التذوق الجمالي للقرآن بألفاظه ومعانيه.

ومرتبة الترتيل تبدو أعلى من مراتب القراءة والتلاوة، ذلك أنها ترتقي إلى مستوى من الذوق والفهم لا يدرك إلا بعمق، وربما لهذا المعنى الدقيق جاء الترتيل الإلهي المخبر به والبشري المأمور مؤكداً بالمفعول النكرة الذي يفيد التعظيم.

4ـ التدبر: وحدة النص

في اللغة:

دبر[48] الأمر وتدبره نظر في عاقبته، واستدبره رأى في عاقبته ما لم ير في صدره، والتَّدْبِيرُ النَّظَرُ في عاقِبَةِ الأَمْر أَي إِلى ما يَوؤُل إِليه عاقِبَتُه كالتَّدَبُّر، وقيل التَّدَبُّر التَّفكُّر أَي: تَحْصِيل المَعْرِفَتَيْنِ لتَحْصِيل مَعْرِفةٍ ثالثة، ويقال عَرَف الأَمرَ تَدَبُّراً أَي بأَخَرَةٍ قال جَرير:

ولا تَتَّقُون الشَّرَّ حتَّى يُصِيبَكُم *** ولا تَعْرِفون الأَمرَ إِلاَّ تَدَبُّرَا

ومن المَجاز شَرُّ الرَّأْي الدَّبَرِيّ، والرأيُ الدَّبَرِيُّ: الذي يكونُ من غَيْرِ فِكْرٍ ولا رَوِيةٍ. وهو رَأْيٌ يَسْنَحُ أَخِيراً عنْد فَوْتِ الحَاجَةِ، أَي: شَرُّه إِذا أَدْبَرَ الأَمرُ وفَاتَ، والعرب تقول: العلم قبلي وليس بالدَّبَرِيِّ. معناه أن العالم المتقن يُجيبك سريعاً، والمتخلف يقول: لي فيها نظر. وقيل الرَّأْيُ الدَّبَرِيّ الذي يُمْعَنُ النَّظَرُ فيه وكذلك الجَوَابُ الدَّبَرِيّ[49].

وقوله تَعالَى: ﴿اَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ﴾ [سورة النساء/ الآية:81] أَي: أَفَلا يَتَفَكَّرُون فيَعتِبروا: فالتَّدبُّر هو التَّفَكُّر والتَّفَهُم وقوله تَعَالى: ﴿فالمُدَبِّرَاتِ أَمْراً﴾ [سورة النازعات / الآية: 5] يَعنِي ملائِكَةً مُوَكَّلَةً بتَدْبِير أُمورٍ[50].

التدبر في القرآن:

يتوزع استعمال القرآن لمشتقات هذا الأصل على المعنى اللغوي غالباً “خلف الشيء أو آخره أو أصله”، ونجد استعمالين يعبران عن معنى دقيق، الأول ينسب الفعل إلى الله وهو التدبير[51]ويقترن بالأمر الإلهي، ويأتي هذا الاستعمال في سياق الحديث عن آلاء الله ونعمه وفضله على الخلق والدعوة إلى التعرف على عظمته وقدرته، ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اَسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْاَمْرَ يُفَصِّلُ الْاَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾ [52] [سورة الرعد / الآية: 2].

والاستعمال الثاني يؤمر به العباد وهو تدبر القرآن، فتشير بعض الآيات إلى كون القرآن أنزل من أجل التدبر، ﴿كِتَابٌ اََنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا ءَايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْاَلْبَابِ﴾ [سورة ص/ الآية: 28]، فيما تحض الآيات الأخرى على التدبر بصيغة تدل على استنكار إعراض المشركين عن تدبره، وتقترن بما يدل على إحكام آيات القرآن ونفي الاختلاف عنه، ﴿اََفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [سورة النساء/ الآية:81] ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَاتِ ءَابَاءَهُمُ الْاَوَّلِينَ﴾ [سورة المومنون / الآية: 69]، ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [سورة محمد / الآية: 24].

يؤكد المفسرون عند تفسير هذه الآيات أن التدبر هو غاية إنزال القرآن المأمور بها في آية سورة ص، وقد استعمل في كل تفكر ونظر، وتدبُّر الشيءِ تأمّلُه والنظرُ في أدبار ما يؤول إليه في عاقبته ومنتهاه، وتدبر القول هو التأمل الذي يفضي بصاحبه إلى تعقب ظواهر الألفاظ ليعلم ما يَدْبر ظواهرها من المعاني المكنونة، وإنما يكون ذلك في كلام قليل اللفظ كثير المعاني التي أودعت فيه، بحيث كلما ازداد المتدبر تدبراً انكشفت له معان لم تكن بادية له بادئ النظر، فهو إعمال النظر العقلي في دلالات الدلائل على ما نصبت له.

فتدبر القرآن: تأمل معانيه وتبصر ما فيه، وتدبر الآيات التفكر فيها ليتقرر عند غير المؤمن صِحَّتُها، ولينظر في عواقب كل آية وما تؤدي إليه وتوصل إليه من المعاني الباطنة التي أشعر بها طول التأمل في الظاهر[53]. قال ابن عاشور: فمعنى ﴿يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ﴾ يتأمّلون دلالته، وذلك يحتمل معنيين: أحدهما أن يتأمّلوا دلالة تفاصيل آياته على مقاصده التي أرشد إليها المسلمين، أي: تدبّر تفاصيله؛ وثانيهما: أن يتأمّلوا دلالة جملة القرآن ببلاغته على أنّه من عند الله، وأنّ الذي جاء به صادق”[54] ويركز الطبري تدبر الآيات والقرآن في حُجَج الله التي فيه، وما شرع فيه من شرائعه، للاتعاظ والعمل بها[55]، وقد فسر مقاتل تدبر القرآن وآياته سماعها والاستماع إليه  “ليسمعوا آيات القرآن”[56].

معنى التدبر:

إن ما يكشف عنه المعنى اللغوي أن التدبر هو التفكر الاستنتاجي الذي يعقب مقدمات، وهو خلاصة التأمل في معطيات معينة، فعندما يكون التعامل مع نص لا يسمى تأمل المعنى تفكراً مطلقاً إنما استخلاص معنى من معطياته، فكل تفكر في القرآن هو تدبر؛ لأنه مرهون بما يحتويه النص، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن التفكر في النص ينبغي أن يكون من داخله، وليس من افتراضات القارئ وأسبقياته، ويؤكد ذلك ما اقترن به أمر التدبر، وهو أن التدبر سيقود المتأمل إلى حقائق تكشف عنها بنية النص وتفاصيله، وهي كونه من عند الله وإحكام آياته ونفي الاختلاف عنه، وربط إدراك عدم الاختلاف في القرآن يشير إلى المستوى الأعمق في القرآن، حيث إن التعامل السطحي مع القرآن -كما يشير الإمام الرازي- قد يبدي للقارئ التباساً في ترتيب القرآن “حيث يراه في ظاهر الحال مقروناً بسوء الترتيب، وهو في الحقيقة مشتمل على أكمل جهات الترتيب”[57]، كما أن التدبر بما هو تفكر لا حدود له في معاني النص وحججه ومضامينه، فإنه غاية القرآن، وهو مفتاح الهداية، لذلك اقترنت الآيات باستنكار إعراض المشركين عن القيام به.

خاتمة:

إن ما توصلنا إليه في دراسة مفردات القراءة والتلاوة والترتيل والتدبر، يكشف عن معطيات أساسية حول منهجية التعامل مع النص القرآني ومستوياتها، أهمها:

التأكيد على التعامل مع النص باعتباره بنية واحدة متكاملة، والتناول له من داخله، نجد ذلك في طبيعة المفردات التي درسناها؛ فالقراءة جمع للحروف والكلمات وهي أجزاء القرآن، والتلاوة تتابع هذه الحروف والكلمات، والترتيل إظهار الجمال في أجزاء القرآن وتفاصيله، والتدبر استخلاص الروابط والعلاقات بين أجزاء النص بما يقود إلى اكتشاف وحدته، وكل هذه المعطيات لا تتم إلا بأخذ النص كبنية واحدة متكاملة، ثم تتبع تفاصيله عبر مستويات من التناول، تبدأ من كلماته وحروفه وتنتهي باكتشاف نظامه المفصل والمحكم.

يكشف الأمر بالقراءة عن مستويين من القراءة ونموذجين متناظرين من المقروء، أما المستوى الأول فهو الأداء اللفظي “الجمع الشكلي للألفاظ” الذي يقتضي الاستماع، وأما المستوى الثاني فهو الوعي بالمعنى “الجمع العميق للمعاني” الذي يقتضي الإنصات، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [سورة الاعراف / الآية: 204]؛ فالاستماع مستوى أول من الاستجابة للقراءة وهو التعامل مع القرآن باعتباره نداءً، وهو فعل إيجابي زائد عن السماع التلقائي، ومقتضاه أن تتم الطاعة[58]، أما الإنصات فهو المستوى الثاني والأعمق من الاستجابة للقراءة وهو التعامل مع النص والتأمل فيه والذي يقود إلى التدبر، أما المقروء المشار إليه في النص فهو الكون والوحي، الكتاب المعمور والكتاب المقروء، وفي قراءتهما تناظر في طريق المعرفة يقود إلى مصدرهما وهو الحق، فقراءة الوحي تقود إلى قراءة الكون، وقراءة الكون باسم الله تقود إلى قراءة الوحي.

إن مفهومات “القراءة، التلاوة، الترتيل، التدبر”، وفي أصولها اللغوية تشير إلى ما يعبر عن طبيعة المحور الذي تدور حوله وهو القرآن، فبدءاً من لفظ القرآن فصيغة بنائها الصرفية تدل على القوة والإحكام، وهو مشتق من القراءة التي تعني في أصلها اللغوي الجمع، والجمع يدل على القوة، والتلاوة تدل على الاتباع والتتابع، وهو استمرار الجمع،  أما الترتيل فهو الاتساق في انتظام وهو قمة الجمال، والتدبر هو خلاصة ما تكشف عنه العلاقات في النص من معان تدل على إحكامه، وكل هذه المعاني تمثل صفات للنص القرآني، فهو قرآن فيه نظام محكم تكشف عنه آياته المفصلة.

إن مفهومات “القراءة، التلاوة، الترتيل، التدبر” ليست من قبيل المترادفات كما تعامل معها معظم المفسرين، والفروق بينها ليست شكلية فقط، إنما تعبر عن مستويات للتعامل مع النص القرآني، وكل مستوى يكشف عن جانب من معاني النص، وكلها تؤكد بُعدي الجانب اللفظي والمعنوي، وتلازمهما، سواء في الوعي الذهني أو السلوكي.

فالبداية تكون من القراءة، وهي على مستويين، الأول يستتبع التلاوة أداء وسلوكاً، والثاني يقتضي التدبر واكتشاف نظام القرآن ووحدة النص، وفي قمة المستويات نجد الترتيل الذي ترتقي إليه التلاوة فتكشف الجمال اللفظي للقرآن، أو يرتقي إليه التدبر فيكشف الجمال المعنوي، وقد يبدأ التعامل من الترتيل بعد استكمال الصعود إلى مستواه، فيرجع إلى المستويات الأخرى بالتفصيل والتأكيد.

الهوامش:

  1. انظر: عبد الرحمن حللي، المفاهيم والمصطلحات القرآنية: مقاربة منهجية، مجلة إسلامية المعرفة، العدد:35 شتاء 2004.
  2. ومن الاشتقاقات: القَرْءَ في اللغةِ الجَمْعُ، والقَرْءُ ويُضَمُّ يُطلَق على الحَيْض والطُّهْر، وقَرَيْتُ الماءَ في الحَوْضِ جَمَعْتُ، والقارئ: الحامل. والقَرَّاءُ الحَسَنُ القِرَاءَة، والقُرَّاءُ الناسِك المُتَعَبِّد، وتَقَرَّأَ إِذا تَفَقَّهَ وتَنَسَّك، وتَقَرَّأْتُ تَقَرُّؤًا في هذا المعنى، وثمة استعمالات مجازية كثيرة مشتقة من هذا الأصل/ منها: أَقْرأَ مِن سَفَره رَجَع إِلى وَطَنه، وأَقْرَأَ أَمْرُكَ دَنَا. انظر المعنى اللغوي من مداخله في المعاجم التالية: العين، القاموس المحيط، لسان العرب، تاج العروس، المحكم والمحيط الأعظم المعجم الوسيط، وقد رجعت إليها من خلال برنامج المكتبة الشاملة الإلكتروني.
  3. الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق: صفوان الداودي، ط: دار القلم / دمشق، ص: 668.
  4. الزركشي، البرهان: 1 / 277 وقد قيد به إطلاق الراغب.
  5. انظر: محمد عبد الله دراز، النبأ العظيم: نظرات جديدة في القرآن: 12 – 13، ط: 2 دار القلم – الكويت 1970.
  6. الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص: 669.
  7. انظر: سعاد كوريم، تفسير القرآن بالقرآن: دراسة في المفهوم والمنهج، مجلة إسلامية المعرفة، العدد: 49.
  8. تفسير الرازي، ج: 17 / ص: 103، تفسير البحر المحيط، ج 10 / ص: 500 تفسير أبي السعود، ج 7 / ص: 34 زاد المسير، ج: 6 / ص: 174.
  9. ابن عاشور، التحرير والتنوير – ج: 16 / ص: 324.
  10. تحدث حاج حمد عن قراءتين في هذه السورة، فيرى أنه تم في هذه الآية الجمع والربط بين علمين: علم رباني وعلم موضعي، فهما قراءتان ربانية وإنسانية، انظر: حاج حمد، م.س : 1 / 456 وما بعدها، ويرى طه جابر العلواني، أيضا،ً أن هناك قراءتين، لكنه اعتبر القراءة الأولى للوحي، والثانية للكون، انظر له: الجمع بين القراءتين: قراءة الوحي وقراءة الكون، ط:1 مكتبة الشروق الدولية- القاهرة 2006، وقد أشرت إلى أن سياق الترتيب في السورة يقتضي العكس.
  11. انظر: “الأسماء والكلمات: دراسة مفاهيمية قرآنية”، مجلة التجديد محكمة، الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، العدد: 19، السنة العاشرة، فبراير 2006م.
  12. “الكتاب: دراسة مفاهيمية قرآنية”، مجلة “التجديد محكمة، الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، العدد:21، المجلد الحادي عشر، 2007م.
  13. المادة اللغوية مستخلصة من القواميس والمعاجم التالية: القاموس المحيط، الصحاح في اللغة الجوهري، المحيط في اللغة للصاحب بن عباد، أساس البلاغة للزمخشري، إصلاح المنطق لابن السكيت، العين للخليل بن أحمد، مقاييس اللغة، تهذيب اللغة، جمهرة اللغة، المحكم والمحيط الأعظم، لسان العرب، الكليات، تاج العروس، المعجم الوسيط.
  14. الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن ص: 167.
  15. عبد الملك بن محمد الثعالبي، الأشباه والنظائر، ت: محمد المصري،  ط.1 مكتية سعد الدين-دمشق 1984، ص: 106 – 107.
  16. تفسير البحر المحيط، ج: 1 / ص: 231.
  17. ال عمران: 58 – 107، الجاثية: ص: 6.
  18. زاد المسير، ج 1 / ص: 257.
  19. تفسير البحر المحيط، ج: 9 / ص: 289.
  20. تفسير الرازي، ج: 2 / ص: 240.
  21. وأما المعنيون بقوله تعالى: (الذين ءاتيناهم الكتاب)، فقد اتفقوا على أنهم ليسوا أهل الكتاب، إنما هم الذين آمنوا منهم ويكون المقصود بالكتاب هنا التوراة أو المؤمنون ويكون المقصود بالكتاب القرآن، ويحتمل العموم ويكون الكتاب اسم جنس. انظر تفسير الآية في: تفسير الرازي – ج 2 / ص: 320، تفسير البيضاوي، ج:1 / ص: 160، زاد المسير: ج: 1 / ص: 121 التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي، ج:1 / ص: 109 ج 1 / ص: 110.
  22. البقرة: 43 – 112.
  23. تفسير الطبري، ج 1 / ص: 9 ج 1 / ص: 10 تفسير الرازي، ج: 2 / ص: 71.
  24. تفسير مقاتل، ج: 3 / ص: 176.
  25. سورة البقرة: 128 – 150، سورة ال عمران: 164؛ يونس: 16، الرعد:31، الكهف:27، القصص:45-59، العنكبوت:51؛ الطلاق:11.
  26. تفسير البيضاوي، ج: 4 / ص: 446 الكشاف، ج: 5/ص:117تفسير الألوسي،ج:15/ص: 69.
  27. سورة ال عمران: 113، النساء: 126، الأنفال:2 – 31، يونس: 15، الاِسراء: 107، مريم: 58 – 73، الحج: 70، المؤمنون: 67 – 106، لقمان: 6، الأحزاب: 34، سبإ: 43، الجاثية: 5 – 24 – 31، الأحقاف: 6، القلم: 15، المطففين: 13.
  28. تفسير الطبري، ج: 19 / ص: 513، تفسير البحر المحيط، ج: 9 / ص: 3 تفسير الرازي، ج: 12 / ص: 58 فتح القدير، ج: 5 / ص: 386.
  29. الأعراف: 175، يونس: 71، الكهف: 83، الشعراء: 69.
  30. التحرير والتنوير، ج: 7 / ص: 33، ويرى ابن عاشور أن “مناسبة فعل التلاوة لهم أنهم كانوا قوماً تغلب عليهم الأمية فأراد الله أن يبلّغ إليهم من التعليم ما يُساوون به حال أهل الكتاب في التلاوة” التحرير والتنوير، ج: 6 / ص: 10، لكن التساؤل أن التلاوة لا تتوقف على القراءة والكتابة هنا.
  31. الأنعام: 151، الحج: 30.
  32. الكشاف، ج: 1 / ص: 497.
  33. التبيان في تفسير غريب القرآن ج: 1 / ص: 82.
  34. تاج العروس، ج: 1 / ص: 364.
  35. الفروق اللغوية، ج: 1 / ص: 140 الفرق ج:1 / ص: 29.
  36. الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص: 167.
  37. استخلصنا المعنى اللغوي من المعاجم التالية: العين، تاج العروس، الصحاح في اللغة، المخصص، القاموس المحيط، المحكم والمحيط الأعظم، لسان العرب، أساس البلاغة، تهذيب اللغة، جمهرة اللغة، المعجم الوسيط.
  38. التبيان في تفسير غريب القرآن ج: 1/ ص: 431.
  39. الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص: 341.
  40. التعاريف: ص: 356.
  41. النهاية في غريب الأثر، ج: 2 / ص: 194.
  42. انظر: تفسير مقاتل، ج: 4 / ص: 147، تفسير الطبري، ج: 23 / ص: 680، ص: 681، تفسير الرازي، ج: 16 / ص: 107، التحرير والتنوير، ج: 15 / ص: 379.
  43. الكشاف، ج: 7 / ص:165.
  44. تفسير الرازي، ج: 16 / ص:107.
  45. نظم الدرر للبقاعي، ج: 9 / ص: 223.
  46. تفسير مقاتل، ج: 2 / ص: 470، تفسير الطبري، ج:19/ ص:266، تفسير البحر المحيط، ج:8 /ص: 362 . الكشاف، ج:4/ ص: 455. تفسير الرازي، ج: 11/ ص: 418، زاد المسير، ج:4 / ص: 474.
  47. التحرير والتنوير، ج: 10 / ص: 76.
  48. الدال والباء والراء. أصل وهو آخِر الشَّيء وخَلْفُه، خلافُ قُبُلِه، والدُّبُر مِنْ كُلِّ شَيْءٍ عَقبُه ومُؤَخَّرُه وخلفه والظَّهْرُ ودابر الشيء آخره، والدابر الأصل، والإِدْبَارَ المَصْدَرُ والدُّبْر الاسْمُ. ومنه: جَعَلَ الكَلاَمَ دَبْرَ أُذُنِه أي خَلْفَ أُذُنه، وإِدْبَارُ النُّجُومِ تَوَالِيهَا وأَدْبَارُهَا أَخْذُهَا إِلى الغَرْب للغُرُوب آخِرَ اللَّيْل، وأَدْبار السُّجودِ وإِدبارُه أَواخِرُ الصَّلوَاتِ، وأَدْبَرَ أَمرُ القَوْمِ وَلَّى لِفَسَادٍ، وقطع الله دابرهم أي: آخر من بقي منهم، ودبره يدبره دبوراً تبعه من ورائه وتلا دبره والدابر التابع وجاء يدبرهم أي يتبعهم، ودبر بالشيء ذهب به، والدَّبْرُ مُجَاوَزَةُ السَّهْمِ الهَدَفَ كالدُّبُورِ بالضّمّ يقال دَبَرَ السَّهْمُ الهَدَفَ يَدْبُره دَبْراً ودُبُوراً جاوَزَه وسَقَطَ وَراءَه والدَّابِر سَهْمٌ يَخْرُجُ من الهِدَفِ ويَسْقُط وَرَاءَه وقد دَبَرَ دُبُوراً.
  49. استخلصنا المعنى اللغوي من المعاجم التالية: العين، القاموس المحيط، الصحاح في اللغة، تهذيب اللغة، أساس البلاغة، مقاييس اللغة، المحيط في اللغة، لسان العرب، تاج العروس.
  50. تاج العروس، ج: 11 / ص: 266.
  51. “التدبير هو تقويم الأمر على ما يكون فيه صلاح عاقبته” الفروق اللغوية، ج: 1 / ص: 121.
  52. (اِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْاَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اَسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْاَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ اِِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) يونس: 3، (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْاََرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْاَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْاَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ) يونس:31، (يُدَبِّرُ الْاَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْاَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) السجدة: 4، وقد ينسب إلى الملائكة (الْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا) النازعات: 5.
  53. انظر: الكشاف، ج:1 / ص: 438. ج: 6 / ص: 17. تفسير الرازي، ج: 5 / ص: 300. ج: 13 / ص: 187. زاد المسير، ج: 2 / ص: 72. ج 5 / ص: 238. تفسير البحر المحيط، ج: 9 / ص: 338. تفسير البيضاوي، ج: 1 / ص: 478. نظم الدرر للبقاعي، ج: 7 / ص: 191 ج: 2 / ص: 238. ج: 5 / ص: 420. ج: 8 / ص: 98. تفسير أبي السعود، ج: 2 / ص: 121. ج: 6 / ص: 159. التحرير والتنوير، ج: 9/ ص: 385. ج: 12 / ص: 221 ج: 13 / ص: 423.
  54. التحرير والتنوير، ج: 3 / ص: 483.
  55. تفسير الطبري، ج: 21 / ص: 190 ج: 19 / ص: 56. ج: 22 / ص: 179.
  56. تفسير مقاتل، ج: 3 / ص: 155. ج: 1 / ص: 335. ج: 2 / ص: 438. ج: 3 / ص: 301.
  57. تفسير الرازي – ج :13 / ص: 187.
  58. أشار القرآن في أكثر من مكان إلى تلازم السمع مع الطاعة (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُومِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) النور: 51. (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون) التغابن: 16. ولجأ المشركون إلى اللغو لتفادي الاستماع إلى القرآن (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) فصلت: 26.
Science

الدكتور عبد الرحمن حللي

أستاذ التفسير وعلوم القرآن بكلية الشريعة، جامعة حلب

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق