مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

المحـبـة ميل القلوب

هي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون. وإليها شخص العاملون. وإلى علمها شمر السابقون. وعليها تفانى المحبون. وبروح نسيمها تروّح العابدون. فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون. وهي الحياة التي من حُرمها فهو من جملة الأموات. والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات. والشفاء الذي من عدمه حلّت بقلبه جميع الأسقام. واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام. وهي روح الإيمان والأعمال، والمقامات والأحوال التي متى خلت منها، فهي كالجسد الذي لا روح فيه…[1]

 وجعلها الحق تبارك وتعالى من شروط الإيمان: ﴿ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله﴾[2].

وعليه فإن محبة العبد لله عز وجل تكون بطاعته والانقياد التام له، ومراقبته عز وجل في السرّ والعلن، وامتثال أمره واجتناب نهيه، والإذعان والاستسلام لرسوله صلى الله عليه وسلم بلا حرج ولا اختيار، وهذا هو الحب المقصود شرعا، قال تعالى: ﴿قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم﴾[3].

فعبادته عز وجل وطاعته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه والخضوع له تعالى والتذلل بحضرته هي أعلى مراتب الحب، لذا يقول ابن تيمية: “فأصل المحبة المحمودة التي أمر الله بها، وخلق لأجلها، هي ما في عبادته وحده لا شريك له، إذ العبادة متضمنة لغاية الحب، بغاية الذل”[4].

ولكي تتحقق محبة العبد لله عز وجل، عليه أن يؤثره على ماله وأهله ونفسه وولده والكون جميعا، وأن يداوم على ذكره بقلبه ولسانه ويتلذذ بذلك، ويسعد بقربه ويشتاق إلى لقائه، ويفرح بمناجاته.

وهذا كمال الحب لله عز وجل، كما عبر عنه الإمام الجنيد بقوله: “علامة كمال الحب: دوام ذكره في القلب بالفرح والسرور، والشوق إليه والأنس به، وأثرة محبة نفسه، والرضا بكل ما يصنع، وعلامة أنسه بالله: استلذاذ الخلوة، وحلاوة المناجاة، واستفراغ كله، حتى لا يكاد يعقل الدنيا وما فيها…”[5].

فالمؤمن الجاد في إيمانه عليه أن يأخذ بالأسباب التي توصله إلى محبة الله عز وجل – وهي أكثر من أن تحصى – منها:

* تقديم محبة الله تعالى على محبة ما سواه، وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، قال عز من قائل: ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب﴾[6].

* التقرُّب إلى الله عز وجل بالنوافل بعد الفرائض، لقوله تعالى في الحديث القدسي: (من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته)[7]. فمن جاء بالنوافل بعد الفرائض فقد أحب الله عز وجل، وبرهن على محبته له تعالى.        

* قراءة القرآن الكريم بتدبّر وتفهّم لمعانيه، فإنه أحبّ الكلام إلى الله عز وجل، وقارئه على هذه الكيفية ينال محبة الحق تبارك وتعالى.

عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم، فيختم بـ: (قل هو الله أحد)، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟ فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخبروه أن الله يحبه) [8].

* قيام الليل، لقوله تعالى: ﴿تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون﴾[9].

* مجالسة الصالحين والعلماء والاقتداء بهم في الأحوال والآداب.

* كثرة ذكره سبحانه مع حضور القلب…

وغيرها كثير من أعمال البِرّ، والأسباب الجالبة لمحبة الله عز وجل والموجبة لها، والمشروطة بالإخلاص الكامل له جلّ في علاه، مع انتفاء الأغراض والمصالح، فإن كل محبة كانت لغرض – كما قال الجنيد- إذا زال الغرض زالت تلك المحبة[10].

وجزاء محبة العبد لله عز وجل أن يحبه تعالى، “ومحبة الله للإنسان هي مزيد إكرامه للعبد، وإعطائه خير الثواب في هذه الدنيا وفي الحياة الأخرى، وحفظه من العقاب، وصونه من المعصية، ومنحه الأحوال العالية والمقامات السامية، وقطع قلبه عن الالتفات إلى الأغيار، وربطه بالعناية الأزلية، حتى يتجرد عن الكل وينفرد لطلب رضاه. فإذا اختص الله تعالى إنسانا بهذه الحالة، كانت تلك الخصوصية محبة منه سبحانه مبعثها إرادته، وهذا مذهب الحارث المحاسبي والجنيد وجماعة من المشايخ…”[11].

وعبارات شيوخ التصوف وأهل الطريق كثيرة عن المحبة، فقد قال بعضهم: المحبة الميل الدائم بالقلب الهائم.

* وقيل: المحبة الموافقة.

* وقيل: حقيقة المحبة أن تهب كلك لمن أحببت، فلا يبقى لك منك شيء.

* وقيل: المحبة إيثار المحبوب على جميع المصحوب.

* وقيل: حقيقة المحبة أن ينسى العبد حظه من الله عز وجل.

* وقال بعضهم: ذهب المحبون لله تعالى بشرف الدنيا والآخرة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المرء مع من أحب)[12]، فهم مع الله تعالى[13].

فعباراتهم عن المحبة تختلف وتتنوع تبعا لاختلاف وتنوع وتعدد المقامات والأحوال التي بلغوها في محبة الله عز وجل، وعليه جعل الإمام الجنيد رحمه الله تعالى الناس في محبته عز وجل خاص وعام، “فالعوام أحبوه لكثرة نعمه ودوام إحسانه، إلا أن محبتهم تقل وتكثر. وأما الخواص فأحبوه لما عرفوا من صفاته، وأسمائه الحسنى، واستحق المحبة عندهم، لأنه أهل لها، ولو أزال عنهم جميع النعم”[14].

فالناس في المحبة عند الجنيد درجات، حسب صفاء قلوبهم وامتلائها بحب الله تعالى:

* فهناك قوم يملكون القدرة والإرادة والمحبة، لكنهم يتوجهون بها إلى ما حرّم الله ونهى عنه، فيحبون ما أبغض الله، ويبغضون ما أحب الله، وهذا حال كثير من الخلق.

* وهناك من يملك القدرة والإرادة والمحبة، ويتوجهون بها إلى تحقيق معنى الحب لله تعالى وفي الله، فهؤلاء سادة المحبين، وهذه المحبة الصادقة هي التي تدفع المؤمن إلى فعل الطاعة حُبّاً لها وترك المعصية كرها لها.

* وهناك من يملك الإرادة والمحبة التامة، ولكن تنقصه القدرة والاستطاعة التامة، فهؤلاء يأتون ما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قدر استطاعتهم، وفي حق هؤلاء قال عليه السلام: (إن أقواما بالمدينة خلْفنا ما سلكنا شعبا، ولا واديا، إلا وهم معنا فيه حبسهم العذر)[15].

* وهناك قسم رابع فيه قدرة ناقصة، وإرادة للحق قاصرة، وفيه من إرادة الباطل الأمر الكثير[16].

وتظل محبة الخواص لله عز وجل من أهل الطريق هي المرتبة العليا، والمنزلة الرفيعة التي يسعى لبلوغها المؤمن الصادق المخلص في عبادته له جل وعلا، لينال محبة الحق تبارك وتعالى، ويسعد بقربه ويأنس بمناجاته، ويلهج بذكره، ويرضى بقضائه، ويتوكل عليه مُتيقنا بما عنده سبحانه من الجزاء الأوفى والقرب الأسمى.

 


[1] ابن القيم: مدارج السالكين، 8/3.

[2] سورة البقرة، الآية 165.

[3] سورة آل عمران، الآية 31.

[4] ابن تيمية: جامع الرسائل، تحقيق: محمد رشاد سالم، دار المدني للنشر والتوزيع، جدة، د.ط، د.ت، 2/196.

[5] سعاد الحكيم: تاج العارفين، ص: 100.

[6] سورة الحشر. الآية 7.

[7] البخاري: الصحيح، كتاب الرقاق، باب التواضع، رقم 6502.

[8] المصدر السابق، كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى، رقم 7375.

[9] سورة السجدة، الآية 16.

[10] سعاد الحكيم: تاج العارفين، ص: 98.

[11] الهجويري: كشف المحجوب، ص: 339.

[12] البخاري: الصحيح، كتاب الأدب، باب علامة حب الله عز وجل لقوله: ﴿إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله﴾، رقم 6168.

[13] القشيري: الرسالة القشيرية، ص ص: 321- 322.

[14] سعاد الحكيم: تاج العارفين، ص: 97.

[15] البخاري: الصحيح، كتاب الجهاد، باب من حبسه العذر عن الغزو، رقم 2838.

[16] موسى بن محمد بن هجاد الزهراني: المحبة بين الإمام بن عبد الله التستري والإمام أبي القاسم الجنيد رحمهما الله، جامعة القاهرة، كلية دار العلوم، قسم الفلسفة الإسلامية، (رسالة ماجستير 2003- 2004م)، ص: 4 .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق