مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

الكسب عند السادة الاشاعرة 19

محمد كرماط 

باحث متخصص في العقيدة الأشعرية

 

مذاهب الأشاعرة المخالفة للمشهور

المذهب الأول:مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني

  مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني أن قدرة الله تعالى مؤثرة في أصل الفعل، وقدرة العبد مؤثرة في وصفه[1]، كلطم اليتيم، من حيث هو حركة مخلوق لله تعالى، ومن حيث كونه طاعة ومعصية أثر لقدرة العبد، فإن عزم التأديب فطاعة، وإن عزم الإيذاء فمعصية، وهذا المذهب -كما قال ابن أبي شريف في “شرح المسايرة” ص:111 وغيره[2]-هو عين مذهب الماتريدية، فإن قدرة العبد عندهم مؤثرة في العزم المصمم، وهو عبارة عن تعلق إرادة العبد بالفعل، وكون الفعل طاعة أو معصية أثر للعزم، لأن العبد قد عزم على أحدهما، فالفعل إنما اكتسب أحد هذين الوصفين من عزمه الذي هو أثر قدرته عنده فيكون الوصف أثر قدرته لأنه أثر عزمه الذي هو أثر قدرته، وأثر الأثر أثر. والفرق بين المذهبين أن القاضي لم يصرح بالعزم المصمم، وبكيفية تأثير قدرة العبد في وصف الفعل، وهو على ما ذكرناه. والماتريدية لم يصرحوا بالتأثير في وصف الفعل، لكن لزمهم ذلك من قولهم بتأثير قدرة العبد في الإرادة الجزئية لأن وصف الفعل أثر عنها.

والقاضي لم يقصد خصوص وصف الطاعة والمعصية، بل أراد عموم وصف الأفعال، وذلك أن أفعال الجوارح كلها عبارة عن حركات متصفة بصفات وإنما تتمايز فيما بينها بتلك الصفات كالقيام والقعود والمشي والصلاة والزنا فالحركات مخلوقة لله تعالى، والصفات أثر قدرة العبد عند القاضي، ويقال مثل هذا في أفعال النفوس فإنها حركات نفسية مع صفات. صرح بهذا العموم السيد الشريف الجرجاني حيث قال صاحب المواقف: “وقال القاضي على أنه تتعلق قدرة الله بأصل الفعل وقدرة العبد بكونه طاعة ومعصية” فشرح السيد هذا الكلام بقوله: “بصفته أعنى (بكونه طاعة ومعصية) إلى غير ذلك من الأوصاف التى لا توصف بها أفعاله تعالى” [3]، فأضاف إلى كلام المتن قوله: (بصفته)، وقوله: (إلى غير ذلك من الأوصاف التى لا يوصف بها أفعاله تعالى). فذكر المتكلمين للطاعة والمعصية في بيان مذهب القاضي إنما هو على سبيل المثال، لا لأن التأثير خاص بهما كما توهمه البعض، وذلك لأن كلام القاضي كغيره مفروض في الأفعال الاختيارية كلها، ولا توصف كلها بالطاعة والمعصية كالمباحات وكالأفعال قبل ورود الشرع[4].

ويرد مذهب القاضي أن كون المؤثر في وصف الفعل غير المؤثر في نفس الفعل بعيد عن العقل هذا أولا، ثم إنه إذا كان تحسين الفعل وتقبيحه بأيديهم بأن يجعلوه طاعة أو معصية -على سبيل المثال- لزم أن يكونوا هم الحاكمين بالحسن والقبح المؤثرين فيهما، وهو خلاف ما عليه أهل السنة أن المؤثر في حسن الأفعال وقبحها هو الله. فإن أمر بشيء كان ذلك الشيء حسنا وإن نهى عن شيء كان ذلك الشيء قبيحا. وأما المعتزلة فإن مذهبهم في الفعل أن الحسن والقبح ذاتيان. ومذهب القاضي لا يجري على الأصلين معا، فلعل مراده من تأثير العبد في وصف الفعل بأن يجعله طاعة أو معصية مثلا تأثيره بواسطة الإرادة الجزئية الصادرة منه، وليس هناك أمر صادر منه غير هذه الإرادة مسمى بـ(صفة الفعل) ، وحينئذ يتجه مذهب القاضي متحدا مع مذهب الماتريدية كما تقدم.

 

 


[1] -هذا التأثير في الوصف هو المراد من الكسب المعزو إليهم.

[2] -كابن الهمام في”المسايرة”، والمولى حسن جلبي في”حاشيته على شرح المواقف”، والمدقق الكلنبوي في “حاشيته على العقائد الدوانية” وفي “تعليقاته على السيالكوتي الواقع على الخيالي”

[3] – الجرجاني” شرح المواقف” (8/147)

[4] – وبه يندفع قول البيجوري في” شرحه على الجوهرة”ص:311 تعليقا على مذهب القاضي:”قلنا:هذا تابع للأمر والنهي” يعني: أن هذا المذهب إنما يجري في فعل العبد بعد ورود الشرع وبلوغه للعبد، ولا يجري في فعل العبد قبل بلوغ الشرع له. مع أن هذا الخلاف في أفعال العباد مطلقا لا فيها بعد بلوغ الشرع، وكذلك يجري في المباحات.

وهذا الاعتراض إنما يرد على القاضي لو كان أراد بوصف الفعل خصوص وصف الطاعة والمعصية وهو غير مراد كما تقدم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق