مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

الكسب عند السادة الاشاعرة 18

محمد كرماط 

باحث متخصص في العقيدة الأشعرية

أما الثواب والعقاب وترتبهما على أفعال البشر، فلم يكن باستلزامها أيا منهما بل بمحض جريان عادة الله بترتبهما عليه[1]. فكما أن وقوع الاحتراق عند  مماسة النار لا ينشأ من ذات النار وطبيعتها بل بمحض جريان سنة الله على خلق الاحتراق عند ذلك. ولا يقال: لماذا يقع الاحتراق بمماسة النار؟ فكذلك يثيب الله عباده أو يعاقبهم بمقتضى سنته الجارية على كونهم محال أفعال ومظاهرها ولا يقال: لماذا يقع هذا الثواب أو ذاك العقاب، لأنه تعالى (يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد) ولا معقب لحكمه. ثم إن أفعال الإنسان التي يتعلق بها الثواب والعقاب لها علاقة بالإنسان زيادة على كونه محلا لها، وهي مقارنة تلك الأفعال باختياره وإرادته ولا توجد هذه العلاقة في الأفعال التي يتعلق بها المدح والذم[2].   

هذا هو مذهب الأشعري-على المشهور عنه-[3] . إلا أن تصوره على ما قرر سلفا لم يرتضه بعض الأشاعرة، لذلك قال العلامة الدجاني :”وأما ما قاله الفاهمون من كلام الأشعري[4] فلا يتحصل به كسب وإن سموه كسبا[5]اهـ . إذ لم ير هؤلاء ما ذهب إليه كافيا في ذلك، وأرادوا تخليص العباد في أفعالهم من الجبر. فاحتاجوا إلى البحث عن أمر يصدر منهم عند أفعالهم ويكون لهم تأثير فيه من غير أن يرتقي ذلك التأثير إلى درجة الخلق والإيجاد، وسموا هذا التأثير كسبا اصطلاحا منهم على هذا اللفظ دون الخلق والإيجاد والفعل، فالتزموا أن يكون ذلك الأمر دون الموجود لئلا يبلغ التأثير المتعلق به مبلغ الخلق. لذلك قال الإمام الجويني:”فمن أحاط بذلك كله ثم استراب في أن أفعال العباد واقعة على حسب إيثارهم واختيارهم واقتدارهم ، فهو مصاب في عقله، أو مستقر على تقليده، مصمم على جهله في المصير إلى أنه لا أثر لقدرة العبد في فعله قطع طلبات الشرائع[6]، والتكذيب بما جاء به المرسلون، فإن زعم زاعم ممن لم يوفق لمنهج الرشاد أنه لا أثر لقدرة العبد في مقدوره أصلا، فإذا طولب بمتعلق طلب الله تعالى بفعل العبد تحريما وفرضا، ذهب في الجواب طولا وعرضا وقال: لله أن يفعل ما يشاء، ولا يتعرض للاعتراض عليه المعترضون: ﴿ لا يسأل عما يفعل وهو يسألون ﴾[7]، قيل: ليس لما جئت به حاصل ، كلمة حق أريد بها باطل، نعم يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد، ولكن يتخلف عن الخلف ونقيض الصدق” قال:”ومن زعم أنـ(ـه) لا أثر[8] للقدرة الحادثة في مقدورها، كما(لا)[9] أثر للعلم في معلومه، فوجه مطالبة العبد أفعاله عنده كوجه مطالبة أن يثبت في نفسه ألوانا وإدراكات. وهذا خروج عن حد الاعتدال إلى التزام الباطل والمحال، وفيه إبطال الشرع، ورد ماجاء به النبيون عليهم السلام”[10]اهـ. وقال الكوثري:” ولا تجد في كلامهم-أي أصحاب الأشعري المتقدمين- أيضا نفي تأثير قدرة العبد، أو عد العبد مجبورا..ونحو ذلك مما تجده في كلام الرازي ومن تابعه من المتأخرين، فلا يصح عد أمثال تلك الآراء من مذهب الأشعري[11]اهـ

 فلا مانع عند هذه الطائفة أن يصدر من العباد ما لا يجعلهم شركاء لله في خلقه، فالله يخلق والإنسان يكسب.وهذا منهم مبني على أن الشيء خاص بالموجود الخارجي وأن الخلق بمعنى إيجاد الموجود الخارجي، وقد تقدم أن هذا الخصوص ممنوع.

وقد اشتد نكير الإمام السنوسي على من قال بتأثير القدرة الحادثة  فقال:”وبالجملة فللناس في تفسير معنى الكسب خبط كثير وعبارات مختلفة نشأت عن جهل[12] وعدم تحقيق لبيان الوحدانية ومقاصد الشرع، والذي يعول عليه ولا يصح غيره وهو أن الكسب عبارة عن مصاحبة القدرة الحادثة للمقدور وتعلقها به من غير تأثير ألبتة، فالقدرة الحادثة عند أهل الحق من الصفات المتعلقة غير المؤثرة كالعلم ونحوه[13]اهـ

إلا أن الذين خالفوا مشهور المذهب اختلفوا في تعيين مكسوب العبد عند أفعاله، فنشده بعضهم في وصف الفعل وبعضهم في نفس الفعل والبعض الآخر في إرادته .وهي ذي مذاهبهم مفصلة،مع ذكر ما عليها من انتقادات[14]، في المبحث الموالي:

 

 


[1] – قال  القاضي الباقلاني في”الانصاف”ص: 47 :”فنصب الطاعات أمارة على الفوز بالدرجات، والمعاصي أمارة على التردي في الهلكات وكل ذلك أمارة للخلق بعضهم على بعض لا له سبحانه وتعالى، فإنه علم بالأشياء قبل كونها،كما قال بعضهم:”تفرد الحق بعلم الغيوب فعلم ما كان وما يكون، وما لا يكون أن لو كان كيف يكون””اهـ

[2] – الإيجي “المواقف”ص:314-315

[3] – وقد وافقه جمهور الأشاعرة.

[4] – وفيه الرد على من قال أن “نظرية الكسب” خضعت لتعديلات، وإنما هي اجتهادات لفهم حقيقة الكسب عند الشيخ.

[5] – بواسطة “النظامية”ص:47

[6] – لقي الإمام اعتراضا من بعض تلامذته بله غيرهم، لكن أيده بعضهم وعدوا قوله هو الصواب، واعتبروه هو تحقيق مذهب الأشعري

[7] – سورة الأنبياء، الآية:23

[8] – وهذا التأثير لا يرتقي إلى درجة الخلق والإيجاد والإبداع خلافا لما فهمه بعضهم.

[9] – أضفت (لا) ليستقيم الكلام ، لأن العلم ليس صفة تأثير وهو تابع لمعلومه.

[10] – أبو المعالي الجويني”النظامية”ص:43-44

[11] – الكوثري”مقدمته على الإنصاف”ص:11

[12] – والسنوسي حتما لا يقصد هؤلاء العلماء الآتية مذاهبهم لأنه لم تصح عنده أقوالهم -وهي صحيحة- و إلا تلطف في العبارة فإنه قال في “شرح الوسطى”ص:244:” وبالجملة فتلطيخ هؤلاء الأعلام –رحمهم الله تعالى- ونفعهم وجزاهم عن المسلمين أفضل الجزاء بإسناد تأثير ما = هو حقيقي للقدرة الحادثة افتراء وكذب لا شك“. وعادة المغاربة  الشدة مع المخالف للمشهور سواء في الفروع أو في الأصول لذلك حطوا على الغزالي لتمجهداته كما قال التاج السبكي في “الطبقات”..

[13] – الإمام السنوسي”شرح الوسطى”ص:231 بتصرف يسير.

[14] – وجلها من بركات سيدي مصطفى صبري –رحمه الله- في “موقف البشر” أو “موقف العقل”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق