مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

الكسب عند السادة الأشاعرة 16

 محمد كرماط 

باحث متخصص في العقيدة الأشعرية

 

المذهب المشهور: مذهب الإمام الأشعري

إن الكسب عند الإمام الأشعري[1] عبارة عن تعلق قدرة العبد بالمقدور مع عدم تأثير لقدرته عنده لا في أصل الفعل ولا في وصفه، لا في الفعل ولا في تعلق الإرادة والقدرة به. وتعلق القدرة تابع لتعلق الإرادة كما هو معروف، فصار مدار الكسب على تعلق الإرادة.

قال العلامة إبراهيم الحلبي:” القول الثاني: للأشعري على المشهور من قوليه ولأكثر أتباعه كابن فورك، ولجماعة من الماتريدية وجمهور الصوفية والمحدثين وإمام الحرمين على أول قوليه المذكور في “الإرشاد” وعلى المشهور من مذهبه[2]، ولفرقتي الضرارية والنجارية من المعتزلة وهو أن للعبد إرادة وقدرة تتعلقان بفعله لا على وجه التأثير يسمى تعلق الأول اختيارا وقصدا، وتعلق الثانية كسبا[3]اهـ

فعند الأشعري لا تأثير لقدرة العبد في الفعل أصلا لا في وجود نفسه ولا في وجود وصفه ولا في تعلق كل من الإرادة والقدرة به[4] ، بل كلها من الله تعالى وأثر قدرته تعالى عنده[5]، لكن لها دخل في الفعل باعتبار السببية العادية ، أي كون قدرته سببا عاديا لتأثير قدرة الله تعالى في الفعل[6].  

وأنشد بعض المتأخرين:

مذهبنــا أن لنا قــدرة

 

حادثة لسنـــا بها نقـدر

خالقنــا أباح في إطلاقها

 

في قـوله من قبل أن تقدروا

والمشهور من مذهب الأشعري أن قدرة العبد كما أنها غير مؤثرة في شيء بالفعل، غير مؤثرة فيه بالقوة أيضا  [7]، لكن ذهب الآمدي في ” أبكار الأفكار ”  والسعد التفتازاني في ” شرح المقاصد ”  والسيد الشريف في “شرح المواقف ” إلى أنها عند الأشعري مؤثرة بالقوة، بمعنى أنه لولا تعلق قدرة الله تعالى بالفعل لأثرت قدرة العبد في إيجاده ، لكن تعلق قدرة الله تعالى بالفعل حين تعلق قدرة العبد جعلت قدرة العبد غير مؤثرة فيه، فاختطفت قدرة الله تعالى الفعل واستبدت بالتأثير فيه لقوتها ولعدم قبولها الشريك والتبعيض، فلم يبق لقدرة العبد شيء من التأثير.

واستدل على هذا المذهب بالنصوص الكثيرة التى يصعب حصرها من الكتاب والسنة الصريحة في أن كل (شيء) مخلوق لله تعالى، وأن كل (أمر) أثر عن قدرته، وإذا سلمنا تخصيص الشيء الوارد في جملة من تلك النصوص بالموجود الخارجي دون الأمر الاعتباري[8]، وسلمنا أيضا تخصيص الخلق الوارد فيها بإيجاد الموجد الخارجي، فلا سبيل لنا إلى مثل ذلك التخصيص في النصوص الصريحة في أن كل(أمر) سواء كان من الموجودات الخارجية أو من الأمور الاعتبارية أثر قدرة الله تعالى لا أثر لقدرة العبد فيه.

لكن ذلك التخصيص غير مسلم، فإن (الشيء) في اللغة بمعنى :ما يصح الإخبار عنه، وهو شامل للأمور  الاعتبارية والمعدومات والممتنعات مثل شموله للموجودات الخارجية.

 

 

 


[1] – تحدث الإمام بإسهاب عن “الكسب” في كتابه “اللمع” فهو يبدو فيه أعمق تفكيرا وأسلم منهجا وأشد عناية بالأدلة العقلية فكان آخر مصنفاته، وليس “الإبانة” كما اشتهر إذ لم يتعرض للكسب أصلا.(انظر مقدمة د.حمود غرابة  في تعليقه على “اللمع”). وإنما نفى الاستقلال في أفعال العباد دون تأثيرها  بإذن الله. فتكون القدرة الحادثة مؤثرة في وجود الفعل على أقدار قدرها الله سبحانه وتعالى وهو بعيد عن الصواب لما يستلزمه من باطل.

[2] – وقد  تراجع عنه كما في “النظامية” ويأتي.

[3] – إبراهيم الحلبي”اللمعة”ص:47

[4] – ولكون الفرق بين القول بوجود القدرة وعدم تأثيرها وبين القول بعدم القدرة في غاية الصعوبة والإشكال يضربون المثل في الأمور التي لا أثر لوجودها بأنها( أخفى من كسب الأشعري) أي أخفى مما ينسب إلى الإنسان في أفعاله ويعبر عنه بالكسب.

[5] – الرازي”الأربعين في أصول الدين”ص:220

[6]– القدرة عند السادة الأشاعرة: صفة من شأنها التأثير ولا يلزم لها أن تكون مؤثرة بالفعل، وكان المانع من تأثير القدرة الحادثة(البشرية)حصول ما تعلقت هي به بقدرة الله.

.و ينبه إلى أن أهل السنة قد اختلفوا في أن قدرة العبد  هل هي سبب أم شرط أم علة للعادة الإلهية؟.راجع”مطلع النيرين فيما يتعلق بالقدرتين” للشيخ محمد الأمير الكبير.

[7] – خالد النقشبندي”العقد الجوهري”ص:39

[8] – المفهومات المتصورة في العقل إما أن يكون لإفرادها وجود في الخارج أو لا وتسمى هذه بـ(الأمور الاعتبارية).

والاعتباريات قسمان:

القسم الأول: لا وجود له لا أصلا ولا تبعا وهو معدوم محض كبحر من زئبق، وجبل من ذهب، وشريك الباري تعالى، وتسمى هذه بالأمور الاختراعية لاختراع العقل إياها بدون أن ينتزعها من الموجودات الخارجية، وهذه معدومات محضة .

القسم الثاني: موجود بوجود متعلقه، بمعنى أن وجود متعلقه وجود له، أي أن هناك وجودا واحداً منسوبا إلى المتعلق بنفسه وإلى الأمر الاعتباري بتبعه، وتسمى هذه بالأمور الاعتبارية الانتزاعية، لانتزاع العقل إياها من الموجودات الخارجية. والوهم يحكم بوجودها في الخارج حكما خطأً وهو في ذلك ككثير من أحكامه مخالفا فيها لحكم العقل.

وصرحوا بأن وصف هذا القسم بالوجود الخارجي من قبيل وصف الشيء بحال متعلقه، وهذا القسم وان كان غير موجود في الخارج لكنه متحقق في نفس الأمر. بمعنى أنه مع تحققه في نفس الأمر لا وجود له في الخارج. وأما القسم الأول فلا تحقق له في نفس الأمر أيضا.

والذين أثبتوا الأحوال من المتكلمين -أي الأمور التي ليست موجودة ولا معدومة- أرادوا بها هذه الأمور الاعتبارية الانتزاعية.                      ومن هذا القسم الأخير الإيجاد والتأثير وهما عبارة عن صرف إرادة العبد قدرته إلى أحد الأمرين دون الآخر، فإن هذا الصرف أمر اعتباري لا وجود له في الخارج ، تابع في الكون والتحقق لوجود متعلقه، وهو الحاصل بالمصدر، ويكون وجود متعلقه وجودا له، بمعنى أن العقل ينتزع وجوده وتكونه من وجود متعلقه، لكن وجود متعلقه موقوف على تحققه، وكونه أمراً اعتباريا لا ينافي هذا التوقف إذ الوجود بدون الإيجاد محال.

وهذا القسم الأخير أقرب إلى الموجودات الخارجية من العدم لما عرفت من أنه متحقق في نفس الأمر، وأنه أثر صادر عن الفاعل، وأنه يوصف بالوجود الخارجي تبعا لمتعلقه وإن لم يوجد في الخارج إلا وهما، فصحّ التكليف به دون المعدوم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق