مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

الكسب عند السادة الأشاعرة 1

محمد كرماط 

باحث متخصص في العقيدة الأشعرية

 

تمهيدتنبيه السائل إلى أن “أفعال العباد” من أعوص المسائل

  مبحث  القدر(أو أفعال العباد) مما تقاصرت عنه عقول العقلاء باعا، وضاقت به علوم العلماء ذرعا. ولا يخفى على من عني بعويصات المسائل في علم الكلام، أن هذه المسألة من أكثر ما تضاربت فيه أنظار الباحثين، وأعوص ما تحاججت فيه آراء المتناظرين؛ فيالله كم هلك في مهاويها من أناس لم يهتدوا إلى من يهديهم إلى الحق الأبلج في الباب، واستسلموا لظلام الهوى فضلوا السبيل؛ وهو وعر المسلك إلا لمن آتاه الله بصيرة نافذة تجلو ظلمات الهوى وتهديه إلى مرشد رشيد يبصره في موراد الردى، ويسلك به سبل الهدى.. قال الأستاذ مصطفى صبري : “المسألة غامضة جدا، والناس يميلون من غموضها إلى مذاهب لا تتفق مع الإيمان بالقدر على وجه الصحة”[1]اهـ

فمن أحاط خبرا بطوايا ذلك المقصد، و تمكن من انتهاج السبيل الأقوم فقد انحلت أمامه عقد العقد، ومشكلة المشاكل، وأصبح على بينة في باقي المسائل. وكم تعب علماء أصول الدين في البحث عن أسد الطرق و أرشدها في هذا المطلب، حتى ألفوا كتبا ضخمة لدفع الشكوك، واجتلاء الحقائق. ومن استقرأ كل المذاهب ولزم الإنصاف وجانب الاعتساف علم أن قول السادة الأشاعرة هو أوفق الأقوال لعقيدة الإيمان بالقدر وأن خير المذاهب مذهبهم فيها،”إنهم يوفقون في مذهب متماسك الأجزاء بين الجبر والاختيار، فيضعون مذهب الكسب يحلون به المشكلة العتيدة[2]

نعم؛ المذهب الأشعري في أفعال العباد جد غامض وهذا دليل على كونه الأقرب إلى الصواب، ومن أراد تبسيط مسألة جاء فيها قوله : «إذا ذكر القدر فأمسكوا»[3] فقد تنكب الطريق الأقوم وسقط في إحدى الحافتين إما جبر وإما تفويض.

وعليه، فلا يلتفت إلى قول من قال:

مما يقال ولا حقيقة عنــده

 

معقولة تدنو إلى الأفهـــام

الكسب عند الأشعري والحال

 

عند البهشمي وطفرة النظـام “[4]اهـ

لأن هذه الدقائق لا يقوى على تعقلها كل أحد وهي قطعا ليس مما يتعين  على المكلف معرفته. كيف وقد استشكلها من أذكياء العالم جماعات: فهذا الإمام علي –رضي الله عنه- فيما روى عنه الشافعي و الحافظ ابن عساكر و السيوطي عن عبد الله بن جعفر أنه قال للسائل عن القدر:”سر الله فلا تتكلف[5]اهـ

وهذا الإمام الأعظم أبو حنيفة يقول :”إن الناظر في القدر كالناظر في شعاع الشمس، كلما ازداد نظرا ازداد حيرة أو تحيرا[6]اهـ

والإمام الطحاوي يقول:”وأصل القدر سر الله في خلقه..فإن الله طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى: ﴿لا يسأل عما يفعل وهم يسألون[7][8]اهـ

وهذا ابن رشد الحفيد يقر بذلك بقوله:” وهذه المسألة من أعوص المسائل الشرعية، وذلك إذا تؤملت دلائل السمع في ذلك وجدت متعارضة و كذلك حجج العقول”[9]اهـ

والإمام الرازي -وناهيك به-:” الإنسان مجبور في صورة مختار، وهو أنهى ما يمكن أن ينتهي إليه  فهم البشر[10]اهـ

ويقول سيدي زروق:”ولم يزل الخلاف في هذه المسألة من لدن آدم عليه السلام إلى الآن، ولا يرتفع إلا أن ينكشف القضاء في الدار الآخرة والله أعلم”[11]اهـ

و هذا العلامة ملا علي القاري يقول:”و سر القدر مخفي على البشر في الدنيا بل في العقبى فتدبر، قال الله تعالى: ﴿ قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين[12]اهـ

فلله درهم وعلى الله أجرهم؛ كشفوا لنا الحقائق وجلوا لنا الدقائق، ونحن على نهجهم سائرون وعلى موائدهم متطفلون، فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم، وهم النور لا يضل من اهتدى بهديهم.

وعليه، كان من باب الاعتراف بالجميل رد مزاعم أهل الحشو والتضليل في هذه المسألة[13] وغيرها -إن شاء الله تعالى- عبر حلقات متواصلات نجلي فيها  مذهب السادة الأشاعرة في مسألة أفعال العباد  معززا بالأدلة العقلية والنقلية  حتى لا يبقى فيها  لتشنيع المخالف مجال ويخلص القارئ من خلالها إلى أن تشغيبه ما هو إلا صرير باب أو طنين ذباب.

 

 


[1] – مصطفى صبري”موقف العقل “(3/399)

[2] – سامي النشار” نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام”(1/372)

[3] – رواه الطبراني في الكبير ( 10 / 198 ) وأبو نعيم في الحلية ( 4 / 108 )

[4] – “النبوات”ص ( 143)و”درء التعارض”(3/444)و(8/320) و” الصفدية”(1/151) والمجموع”(8/128) و”منهاج السنة النبوية”(1/459)

[5] – انظر “إشارات المرام”ص:257 و”اللمعة”ص:49

[6] -يوسف بن عبد البر”الانتقاء”ص:315

[7] – سورة الأنبياء،الآية:23

[8] -“متن الطحاوية”” بإسناد الشيخ عبد الله الهرري، انظر”إظهار العقيدة السنية”ص:344

[9] – ابن رشد “الكشف عن مناهج الأدلة” ص:109

[10] – بواسطة”القلائد شرح العقائد” ص:317 للقونوي

[11] -سيدي أحمد زروق “شرح عقيدة الإمام الغزالي”ص:128

[12] -“شرح الفقه الأكبر”ص:167

[13] – وانظر ما ذكره د.سفر الحوالي في “منهج الأشاعرة في العقيدة” و فيصل  القزاز في “الأشاعرة في ميزان أهل السنة” و عبدالله الموجان في “الرد الشامل على عمر كامل” و عبد الرحمن المحمود في”موقف ابن تيمية من الأشاعرة”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق