الرابطة المحمدية للعلماء

القيم الفنية والجمالية التي تُمَيّز الأدب الصوفي المغربي

د. الحراق: تنوع روافد الأدب الصوفي المغربي جعلته يُبدِع في الجمع بين ما هو روحي وما هو سلوكي

ما هي القيم الفنية والجمالية التي تميز بها الأدب الصوفي المغربي؟ ومن هم أعلامه ورجالاته؟ وكيف ساهم الأدب الصوفي المغربي في إبراز جمالية الإسلام في أبعادها الروحية والسلوكية والتربوية؟
في معرض الرد على مُجمل هذه الأسئلة، وغيرها بطبيعة الحال، كان الدكتور محمد التهامي الحراق أحد المختصين في الأدب الصوفي المغربي، ضيف ركن “حوار حي” بموقع الرابطة المحمدية للعلماء، زوال أمس الخميس، 14 يوليو، بهدف مناقشة بعض قضايا الأدب الصوفي المغربي، ومن أجل اكتشاف بعض من أساليبه الجمالية.

وبداية، اعتبر الضيف الكريم أن مقاربة مُركّب الأدب الصوفي المغربي تتطلّب الوقوف عند مفهوم الأدب المقصود في هذا المركب وهو يدل في حدود دون على دلالات ثلاثة: هناك أولا المدلول الأخلاقي للأدب والذي يفيد التهديب والتعليم، وقد خصص له الوصفية أبوابا في تآليفهم تحت عنوان: “آداب القوم”، ويعنون بها مجمل الأخلاق والمكارم والفضائل التي يتحلون بها وبها يتخلقون تخليا وتحليا، وهذا المفهوم الخلقي للأدب مستمد من المرجعية الدينية كما يدل على ذلك الأثر النبوي: أدبي ربي فأحسن تأديبي”.

وهناك ثانيا المدلول الثاني للأدب، أي المدلول الموسوعي، وهو مفهوم الأدب بالمعنى الكلاسيكي في الثقافة العربية، ويضم تحت لوائه كل فنون القول إذ الأديب بهذا المعنى هو من ننعته بالمثقف في ثقافتنا الحديثة. ومن ثم فاعتماد مصطلح الأدب بهذا المدلول يجعلنا ندرج في الأدب الصوفي مختلف ألوان الكتابة الصوفية المتميزة بأركانها الأربعة التي هي الغرض المتحدث عنه والمعجم التقني وكيفية استعماله والمقصدية، بحيث يصبح الأدب الصوفي شاملا لمختلف الألوان النثرية الصوفية من مناقب وكرامات ورسائل وحكم وأدعية وأحزاب وصلوات وأذكار ومناجيات وشروح صوفية على متون شعرية ونثرية أكانت هذه الشروح موضوعة على متون صوفية أم شروحا تصويفية إشارية وضعت على متون غير صوفية.

وهناك أخيرا، المدلول الثالث للآداب هو مدلول الحديث يقصر دلالته على المنتج التخييلي الإبداعي فكان إبداعا منثورا أو شعريا. ونجد له ما يمثله في ديوان الأدب الصوفي المغربي.

وعن أسباب تراجع إبداعات الأدب الصوفي عموما، كما تساءل أحد المشاركين في الحوار، ردّ الدكتور الحراق بأن الإبداعات الجميلة لم تختفي من ديوان الأدب الصوفي بوجه عام والمغربي بشكل خاص، ملاحظا أنه ثمة شعراء معاصرين من صوفية هذا الزمان مازالوا يعبرون عن نفس المعاني ويوسعون من أبعادها الروحية والدينية سواء باعتماد الشعر الفصيح الموزون كما هو شأن الشاعر المغربي الصوفي الحاج عبد الواحد أخريف بتطوان وعبد الكريم بقاش بالرباط، أو باعتماد الشعر الملحون كما هو شأن الناظم الصوفي المتميز سيدي محمد بلمحجوب بمراكش، وغيرهم ممن صارت نصوصهم متداولة غالبا بين الخواص دون أن تعرف لأسباب عدة طريقها إلى أوسع الناس؛ أم من حيث الأثر فهاته النصوص ما زالت تفعل أثارها في من هو مؤهل لتلقيها تلقيا إيمانيا وجدانيا روحيا، بحيث إن كثيرا من هاته النصوص مازالت تجري دموع المردين وتأثر في نفوس طالبي الصلاح والإحسان.

فيما يخص أصحاب الريادة والسبق في الأدب الصوفي، فقد أكد الضيف الكريم أن الترحال مع هذا الاستفسار لا يملك قيمة إجرائية في مجال البحث العلمي، ذلك أن الموضوعات المطروقة في غالب الأحيان تمليها شروط تاريخية وثقافية وأدبية وفنية وروحية تعبر عن ذاتها في لحظة معينة على لسان هذا الشخص أو ذاك بحيث إذا انتفت تلك الشروط فلن نطرح سؤال الريادة لأنه ستنتفي معها تلك الموضوعات المطروقة، مضيفا أن مجالات الأدب الصوفي المغربي تتميز بطريقة حضورها وأساليب معالجتها والقيم الجمالية والعرفانية التي حاولت توسيعها وتعميقها وليس بأسبقية أعلامها في تناول هذا الموضوع أو ذاك.

ومن الأسئلة الهامة في الموضوع، ذلك المتعلق بالخصائص الأساسية التي ضمنت للأدب الصوفي المغربي التوهج والتألق، وقد لخّصها الدكتور الحراق في ميزات ثلاث:

ـ هناك أولا الجمع بين ما هو روحي وما هو سلوكي، ذلك أن الأدب الصوفي المغربي انتهى بحكم تنوع روافده المحلية والشرقية والأندلسية، وبحكم تفاعله مع سياقه العقائدي والفقهي والسياسي والاجتماعي والتعريفي إلى الجمع بين ما هو روحي عرفاني تمثله نصوص الأحزاب والأوراد والمناجيات والصلوات، وبين ما هو سلوكي تخليقي تمثله نصوص الرسائل والوصايا والحكم والأشعار التي تخص مكارم الأخلاق والجهادين الأصغر والأكبر، معتبرا أن هذا الجمع بين العرفاني والأخلاقي، بين الروحي والسلوكي غاب عن الكثير من الباحثين الذين وصفوا التصوف المغربي بالعملي والسلوكي وتناسوا بعده الروحي والعرفاني، مضيفا أنه من شأن إخراج الزوايا لكنوزها المخطوطة أن يكشف عن تلازم الذي كان وثيقا بين البعد العرفاني العالي في التصوف المغربي وبين البعد السلوكي العملي في هذا التصوف.

ـ وهناك ثانيا الميزة الثانية، وساهمت في انتعاشه وازدهاره هي الجمع بين التطهير الروحي للفرد وبين التلحيم الروحي للمجتمع، وهذه الخاصية لها صلة  بسابقتها، ذلك أن الجمع الروحي والسلوكي جعل هذا الأدب يصدر عن رؤية أصيلة بقدر ما تسهم في تأهيل الفرد روحيا وباطنيا إلى ارتقاء في مراقي الصفاء ومدارج الإحسان من خلال الأوراد والصلوات والأذكار ومختلف النصوص المندرجة في أدب التسليك الصوفي، فإن هذا الأدب نفسه يسهم في تحقيق التلحيم الروحي للمجتمع من خلال حضور نصوصه ومتونه في الفضاء العام للمجتمع كما شرحنا ذلك آنفا.

ـ وأخيرا، هناك الخاصية الثالثة، وهي الجمع بين لغة التشريع ولغة التحقيق، وهذه خاصية أساسية ومحورة في الأدب الصوفي المغربي، ومكانها أن أهل هذا الأدب لن يعبروا عن الحقيقة العرفانية في صرفتها فقط كما هو شأن الحلاج والسهروردي وابن الفارط، وهم في عرف صوفية أهل المغرب محققون وأرباب ولاية وعرفان، ولم يزيغوا عن الشريعة في أذواقهم، لكنهم عبروا عن تلك الأذواق في صرافتها ونظارتها وعرائها من لغة أهل الظاهر فأسيئ فهمهم. لذلك نجد صوفية أهل المغرب يجمعون بين لغة أهل التحقيق ولغة أهل التشريع، بل إنهم عمدوا إلى تلك النصوص العرفانية العليا التي أسيئ فهمها فوضوعوا عليها شروحا تترجم معانيها العرفانية وحقائقها الذوقية بلغة التشريع حتى يحسن فهمها وتبلغ حقائقها إلى من غاب عنهم إدراك تلك الحقائق في لغة أهل التحقيق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق