مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةأعلام

القاضي عياض

 

التعريف بالقاضي عياض (ت 544هـ)[1]:
الواقف على تاريخ الأشعرية بالغرب الإسلامي لا بد أن تستوقفه مدينة سبتة بكثرة المتكلمين الأشاعرة فيها، من أبرزهم: أبو طاهر إسماعيل الأزدي (ت.400هـ)، وأبو محمد عبد الله بن أحمد التميمي (ت.501هـ)، وأبو القاسم المعافري(ت.502هـ)، وأبو الحجاج  يوسف بن موسى الكلبي الضرير (ت520هـ)[2]… ويأتي على رأس هؤلاء كذلك القاضي عياض بن موسى اليحصبي السبتي(ت.544هـ).
هو أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى بن عياض بن محمد اليحصبي، المحدث الحافظ، واشتهرت أسرته بـسبتة؛ لما عُرف عنها من تقوى وصلاح، وولد بمدينة “سبتة” من بلاد المغرب الأقصى، في النصف من شعبان سنة (476هـ)، كما ذكر ابنه محمد وأنه وجد ذلك بخط والده، وسمع من مشيخة مدينته، وتفقه ببعض رجالها، ورحل إلى الأندلس فأخذ بقرطبة عن أبي الحسين بن سراج وأبي عبد الله بن حمدين وأبي القاسم بن النخاس وابن رشد وغيرهم، ورحل منها إلى مرسية فقدمها سنة (508هـ)، ولم يلبث أن رحل إلى المشرق مثلما يفعل غيره من طلاب العلم، وفي هذا إشارة إلى ازدهار الحركة العلمية في الأندلس، وظهور عدد كبير من علمائها في مختلف ميادين العلم والثقافة. 
عاد عياض إلى “سبتة” غزير العلم، جامعًا معارف واسعة؛ فاتجهت إليه الأنظار، والتفَّ حوله طلاب العلم وطلاب الفتوى، فتفقه ودرس وتعلم وناظر حتى فاق أقرانه وذاع صيته. وكان من أعلم الناس باللغة وكلام العرب وأنسابهم. وقد كانت حياته في عنفوان دولة المرابطين، ونشأ في أكثر أيامهم ازدهارا وأحفلها بالمجد والتوسع والسلطان.
وقد كانت له اليد الطولى في كافة العلوم، من حديث وفقه وأصول ولغة وغيرها، وله المصنفات العديدة التي انتفع بها الناس؛ كـ”الترتيب” الذي يُعَدُّ أكبر موسوعة تتناول ترجمة رجال المذهب المالكي ورواة “الموطأ” وعلمائه، وكتاب “الشفا بتعريف حقوق المصطفى” ولعله أشهر مؤلفات القاضي عياض وأكثرها تداولا بين الناس، وهو كتاب في شمائل نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم-، ويُعدّ من أحسن الكتب المعرّفة به، وقيل فيه: (لولا الشفا لما عُرف المصطفى/ ولولا عياض لما عرف المغرب)، بالإضافة إلى كتابه “الغنية” و”إكمال المعلم بفوائد صحيح مسلم”. كما اشتهر بكونه من أعلم الناس باللغة وكلام العرب وأنسابهم.. جلس للمناظرة وله نحو ثمان وعشرين سنة. وولي القضاء وله خمس وثلاثون، حتى وصل إلى قضاء سبتة ثم غرناطة، فذاع صيته وحمد الناس سيرته.
 وبعد حياة حافلة بالعطاء العلمي توفي القاضي عياض مغرّباً عن وطنه – رحمه الله- في سنة أربع وأربعين وخمس مائة (544هـ) في رمضان، وقيل: في جمادى الآخرة منها بمراكش.
 أشعرية القاضي عياض:
ومؤلفات عياض وإن كانت ليست مؤلفات عقدية ولكنها تضمنت معلومات مهمة في موضوع العقائد.. يقول الحسين شواط: (كان عياض رحمه الله إماما في أصول الدين والعلوم المتعلقة بها، متكلما بارعا، قوي الحجة واضح البرهان، ولكنه يكره الكلام والخوض في الجدل في العقائد لغير حاجة، وقد تلقى هذا العلم على كبار علماء عصره ودرس فيه أهم مصادره.. وزخرت مصنفاته بمباحث محررة تتعلق بهذا الباب وتدل على إمامة القاضي فيه؛ وبخاصة في كتابيه الشفا وإكمال المعلم بفوائد صحيح مسلم، فقد عني عياض رحمه الله عناية كبرى بإثارة الفوائد المتعلقة بمسائل الاعتقاد مع البسط والتحرير والتوسع والتحقيق…)[2].
لقد اعتبر عياض أن الفكر الأشعري هو المعبر عن عقيدة أهل السنة، ولذلك وجب احتضانه والانتصار له، معتبرا أبا الحسن الأشعري إمام أهل السنة ومقيم حجتهم حيث يقول عنه: (وصنف لأهل السنة التصانيف وأقام الحجج على إثبات السنة وما نفاه أهل البدع من صفات الله تعالى ورؤيته وقدم كلامه وقدرته، وأمور السمع الواردة من الصراط والميزان والشفاعة والحوض وفتنة القبر مما نفت المعتزلة وغير ذلك من مذاهب أهل السنة والحديث، فأقام الحجة الواضحة عليها من الكتاب والسنة والدلائل الواضحة العقلية، ودفع شبه المبتدعة ومن بعدهم من الملحدة والرافضة، وصنف في ذلك التصانيف المبسوطة التي نفع الله بها الأمة، وناظر المعتزلة وكان يقصدهم بنفسه للمناظرة)[3]. 
وقد شرح عياض من وجهة نظره كيف أن المذهب السلفي في العقيدة تحول في صورته الأشعرية إلى اتجاه سني جديد قائم على أسس نظرية متينة، فأعلن أنه: (بعد أن ألف أبو الحسن الأشعري، وكثرت تواليفه، وانتفع بقوله، وظهر لأهل الحديث والفقه ذبُّه عن السنن والدين، تعلق بكتبه أهل السنة وأخذوا عنه، ودرسوا عليه، وتفقهوا في طريقه، وكثر طلبته وأتباعه لتعلم تلك الطرق في الذب عن السنة وبسط الحجج والأدلة في نصر الملة، فسموا باسمه، وتلاهم أتباعهم وطلبتهم، فعُرفوا بذلك، وإنما كانوا يُعرفون قبل ذلك بالمثبتة سمة عرفتهم بها المعتزلة؛ إذ أثبتوا من السنة والشرع ما نفوه، فبهذه السمة أولا كان يعرف أئمة الذب عن السنة من أهل الحديث)[4].
يقول محقق كتابه “الترتيب” العلامة ابن تاويت: (احتجاج عياض المتكرر في كتاب الشفا بآراء أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر الباقلاني وأبي بكر ابن فورك وأبي المعالي إمام الحرمين الجويني يثبت كل ذلك صلته الوثيقة بمذهب الأشعرية وبكتبهم، وقراءاته لمؤلفاتهم في الاعتقاد ووصفه للباقلاني وأبي بكر ابن فورك بقوله (من أئمتنا) دال على أنه أشعري المذهب. ومناقشاته العميقة لآراء المعتزلة والفرق الاعتقادية الإسلامية على اختلاف مذاهبها وللفلاسفة والصوفية والخوارج- تطلع الدارس لعياض على معرفته الواسعة بالمذاهب الاعتقادية وآراء أصحابها.. وصلة القاضي عياض بعلم الكلام وما يتبعه من جدل ومناظرة ومعرفته بدقائق آراء المخالفين لأهل السنة فيه، تصل بنا إلى أن المدرسة التي أخرجت القاضي عياضا وشيوخه الذين تعلم عليهم الكلام وأصول الدين، وكثير من العلماء المغاربة الذين اشتغلوا بعلم الكلام واشتهروا به وترجم لهم في ترتيب المدارك – نقول هذه المدرسة كانت على علم تام بالجدل والمناظرة وأصول الدين والكلام على مذهب أبي الحسن الأشعري، وأن كتب الأشاعرة في علم الكلام كانت معروفة بين رجالها يتدارسونها في كافة أنحاء المغرب..)[5].
ومواقفه تلك هي التي جعلته يتواجه مع السلطة الموحدية الجديدة أيام قيامها على أنقاض الدولة المرابطية، يقول محمد شواط: (لقد ضرب القاضي عياض ـ رحمه الله ـ مثلا رائعا بمواقفه العظيمة في الدفاع عن عقيدة الإسلام العظيمة التي تشبع بها ونافح عنها بلسانه وبنانه وسنانه. فما أن ظهرت أخبار الموحدين وعلمت مخالفاتهم العقيدية والسلوكية وتكفيرهم لغيرهم ومبالغتهم في سفك الدماء وقتل الفقهاء ومهاجمة مذهب مالك، حتى جمع القاضي عياض أعيان سبتة ونبه الناس إلى مخاطر الموحدين على العقيدة وإفسادهم في الدين، وحذرهم من مغبة الدخول في طاعتهم والسماح لهم بدخول مدينتهم. وكان يومئذ رئيسهم بأبوته ومنصبه، فاجتمعوا تحت قيادته. وخاض بهم الحرب ضد الموحدين حتى ردهم عن دخول سبتة)[8].
وقد تضمنت مصنفات عياض جملة وافرة من المباحث المتعلقة بعقائد أهل البدع والرد عليهم، وهو في الغالب لا يذكر ذلك ابتداء، وإنما يسوقه تبعا لما يقرره من عقيدة أهل السنة. وهو يستفيد من كل مناسبة للرد على أهل الأهواء، وقد يضيف إلى ذلك فوائد أخرى عنهم كالتعريف ووجه التسمية والمصادر التي تتضمن الكلام على معتقداتهم ونحو ذلك. وتعتبر كتب عياض رافدا مهما لكتب مقالات الفرق والملل والنحل. وقد تناولت ردود القاضي نقولات معظم الفرق الكبرى المعروفة غير أنه قد ركز بصفة خاصة على نقض مقالات المعتزلة في تحكيمهم العقل على الشرع، كما رد على الخوارج والشيعة والكرامية والسالمية والمجسمة والجهمية والمتصوفة. 
– ومن آرائه الاعتقادية في هذا الجانب:
1- ذكر القاضي عياض أن عصمة الدم تحصل بقول لا إله إلا الله، فقال: (اختصاص عصمة النفس والمال بمن قال لا إله إلا الله؛ تعبير عن الإجابة إلى الإيمان وأن المراد بهذا مشركو العرب وأهل الأوثان.. فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفى بعصمته بقول لا إله إلا الله إذ كان يقولها في كفره)[9].
2- وفي شرحه لكلمة التوحيد التي تضمنها الأذان قال: (وصرح بإثبات الوحدانية والإلهية ونفي ضدها من الشركة المستحيلة في حقه، وهذه عمدة الإيمان والتوحيد) فمراده بالإثبات؛ إثبات الوحدانية في قوله إلا الله ومراده بالنفي نفي الإلهية عما سوى الله[10].
3- ما يتعلق بالنبوة؛ فقد نبه على ذلك فقال: (والإيمان به- صلى الله عليه وسلم- هو تصديق نبوته ورسالة الله له، وتصديقه في جميع ما جاء به وما قاله، ومطابقة تصديق القلب بذلك شهادة اللسان بأنه رسول الله، فإذا اجتمع التصديق بالقلب والنطق بالشهادة بذلك باللسان، ثم الإيمان به والتصديق له كما ورد في الحديث نفسه من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أمرت أن أقاتل الناس..الحديث).
 وزاده وضوحا في حديث جبريل؛ إذ قال: (أخبرني عن الإسلام. قال النبي- صلى الله عليه وسلم: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله..الحديث) وذكر أركان الإسلام[11].
ومن خلال دفاعه عن الأشعري ومذهبه لا يتوانى القاضي عياض عن توجيه انتقاداته لبعض الآراء المخالفة لمذهبه فيقول: (إذا كانت مدرسة السلف أثبتت الصفات الخبرية بلا تشبيه وبمعنى معلوم وكيف غير معلوم فإن بعض الأشاعرة فوضوا في معناها، بينما ذهب معظم متأخريهم إلى تأويلها وحملها على غير معناها الظاهري مخافة الوقوع في التشبيه)[12].
 وبالرجوع إلى آراء القاضي عياض يتأكد لنا بأن عياضا قد سار في نفس الاختيار الأشعري؛ إذ نجده يتبنى القول بالمجاز في صورته الأشعرية درءا للوقوع في التجسيم حيث علق على بعض الأحاديث التي تحدثت عن اليد قوله: (وهذا ومثله مما لا يجوز حمله على الجارحة لأنها لا تليق إلا بمخلوق محدود والله جل اسمه متعال عن ذلك..)[13].
ويقول د.جمال علال البختي: (إن إثباتنا لأشعرية القاضي عياض تتأسس على مفهوم التبني للنسقية العامة، وهذا لا يمنع أن يكون لعياض مواقف جزئية تقترب من آراء مدرسة السلف، لأن المدرسة الأشعرية لم تناقض التوجه السلفي برمته بل اعتبرت نفسها المعبرة عن اعتقاد أهل السنة والجماعة..)[14].
الهوامش:
[1] انظر ترجمته في مقدمة كتابه ترتيب المدارك وتقريب المسالك في أعلام مذهب الإمام مالك- القاضي عياض- تحقيق ابن تاويت الطنجي وغيره- طبعة وزارة الأوقاف.- موسوعة أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض للمقري- الذهبي في السير/35-205-206- تذكرة الحفاظ-ج/4-68- تاريخ قضاة الأندلس-ص:101- وفيات الأعيان لابن خلكان-ج/3-483.
[2] الغنية، القاضي عياض، ص:226.
[3] – أعلام المسلمين(72): القاضي عياض (عالم المغرب وإمام أهل الحديث في وقته)- الحسين بن محمد شواط- دار القلم/دمشق-الطبعة الأولى/1999-ص:186.
 [4] ترتيب المدارك-ج/5-ص:24.
[5] نفسه.
[6] نفسه.
[7] نفسه.
[8] نفسه.
[9] القاضي عياض- الحسين شواط-ص: 256-257- انظر تفاصيل ذلك في مقال بمجلة دعوة الحق-العدد/100.
[10] إكمال المعلم شرح صحيح مسلم للقاضي عياض-د.ت- ج/1-ص: 246
[11] نفسه.
[12] جهود المالكية في تقرير توحيد العبادة – تأليف: عبد الله بن فهد بن عبد الرحمن العرفج – دار التوحيد للنشر-ص:124
[13] نفسه.
 [14] مقال بمجلة الفرقان المغربية-العدد:63- القاضي عياض والأشعرية بسبتة قبل فترة الترسيم-ص:38-50
[15] نفسه.
إعداد: منتصر الخطيب

التعريف بالقاضي عياض (ت 544هـ)[1]:

الواقف على تاريخ الأشعرية بالغرب الإسلامي لا بد أن تستوقفه مدينة سبتة بكثرة المتكلمين الأشاعرة فيها، من أبرزهم: أبو طاهر إسماعيل الأزدي (ت.400هـ)، وأبو محمد عبد الله بن أحمد التميمي (ت.501هـ)، وأبو القاسم المعافري (ت.502هـ)، وأبو الحجاج  يوسف بن موسى الكلبي الضرير (ت520هـ)[2]…ويأتي على رأس هؤلاء كذلك القاضي عياض بن موسى اليحصبي السبتي (ت.544هـ).

هو أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى بن عياض بن محمد اليحصبي، المحدث الحافظ، واشتهرت أسرته بـسبتة؛ لما عُرف عنها من تقوى وصلاح، وولد بمدينة “سبتة” من بلاد المغرب الأقصى، في النصف من شعبان سنة (476هـ)، كما ذكر ابنه محمد وأنه وجد ذلك بخط والده، وسمع من مشيخة مدينته، وتفقه ببعض رجالها، ورحل إلى الأندلس فأخذ بقرطبة عن أبي الحسين بن سراج وأبي عبد الله بن حمدين وأبي القاسم بن النخاس وابن رشد وغيرهم، ورحل منها إلى مرسية فقدمها سنة (508هـ)، ولم يلبث أن رحل إلى المشرق مثلما يفعل غيره من طلاب العلم، وفي هذا إشارة إلى ازدهار الحركة العلمية في الأندلس، وظهور عدد كبير من علمائها في مختلف ميادين العلم والثقافة. 

عاد عياض إلى “سبتة” غزير العلم، جامعًا معارف واسعة؛ فاتجهت إليه الأنظار، والتفَّ حوله طلاب العلم وطلاب الفتوى، فتفقه ودرس وتعلم وناظر حتى فاق أقرانه وذاع صيته. وكان من أعلم الناس باللغة وكلام العرب وأنسابهم. وقد كانت حياته في عنفوان دولة المرابطين، ونشأ في أكثر أيامهم ازدهارا وأحفلها بالمجد والتوسع والسلطان.

وقد كانت له اليد الطولى في كافة العلوم، من حديث وفقه وأصول ولغة وغيرها، وله المصنفات العديدة التي انتفع بها الناس؛ كـ”الترتيب” الذي يُعَدُّ أكبر موسوعة تتناول ترجمة رجال المذهب المالكي ورواة “الموطأ” وعلمائه، وكتاب “الشفا بتعريف حقوق المصطفى” ولعله أشهر مؤلفات القاضي عياض وأكثرها تداولا بين الناس، وهو كتاب في شمائل نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم-، ويُعدّ من أحسن الكتب المعرّفة به، وقيل فيه: (لولا الشفا لما عُرف المصطفى/ ولولا عياض لما عرف المغرب)، بالإضافة إلى كتابه “الغنية” و”إكمال المعلم بفوائد صحيح مسلم”. كما اشتهر بكونه من أعلم الناس باللغة وكلام العرب وأنسابهم.. جلس للمناظرة وله نحو ثمان وعشرين سنة. وولي القضاء وله خمس وثلاثون، حتى وصل إلى قضاء سبتة ثم غرناطة، فذاع صيته وحمد الناس سيرته.

 وبعد حياة حافلة بالعطاء العلمي توفي القاضي عياض مغرّباً عن وطنه – رحمه الله- في سنة أربع وأربعين وخمس مائة (544هـ) في رمضان، وقيل: في جمادى الآخرة منها بمراكش.

 أشعرية القاضي عياض:

ومؤلفات عياض وإن كانت ليست مؤلفات عقدية ولكنها تضمنت معلومات مهمة في موضوع العقائد.. يقول الحسين شواط: (كان عياض رحمه الله إماما في أصول الدين والعلوم المتعلقة بها، متكلما بارعا، قوي الحجة واضح البرهان، ولكنه يكره الكلام والخوض في الجدل في العقائد لغير حاجة، وقد تلقى هذا العلم على كبار علماء عصره ودرس فيه أهم مصادره.. وزخرت مصنفاته بمباحث محررة تتعلق بهذا الباب وتدل على إمامة القاضي فيه؛ وبخاصة في كتابيه الشفا وإكمال المعلم بفوائد صحيح مسلم، فقد عني عياض رحمه الله عناية كبرى بإثارة الفوائد المتعلقة بمسائل الاعتقاد مع البسط والتحرير والتوسع والتحقيق…)[3].

لقد اعتبر عياض أن الفكر الأشعري هو المعبر عن عقيدة أهل السنة، ولذلك وجب احتضانه والانتصار له، معتبرا أبا الحسن الأشعري إمام أهل السنة ومقيم حجتهم حيث يقول عنه: (وصنف لأهل السنة التصانيف وأقام الحجج على إثبات السنة وما نفاه أهل البدع من صفات الله تعالى ورؤيته وقدم كلامه وقدرته، وأمور السمع الواردة من الصراط والميزان والشفاعة والحوض وفتنة القبر مما نفت المعتزلة وغير ذلك من مذاهب أهل السنة والحديث، فأقام الحجة الواضحة عليها من الكتاب والسنة والدلائل الواضحة العقلية، ودفع شبه المبتدعة ومن بعدهم من الملحدة والرافضة، وصنف في ذلك التصانيف المبسوطة التي نفع الله بها الأمة، وناظر المعتزلة وكان يقصدهم بنفسه للمناظرة)[4]. 

وقد شرح عياض من وجهة نظره كيف أن المذهب السلفي في العقيدة تحول في صورته الأشعرية إلى اتجاه سني جديد قائم على أسس نظرية متينة، فأعلن أنه: (بعد أن ألف أبو الحسن الأشعري، وكثرت تواليفه، وانتفع بقوله، وظهر لأهل الحديث والفقه ذبُّه عن السنن والدين، تعلق بكتبه أهل السنة وأخذوا عنه، ودرسوا عليه، وتفقهوا في طريقه، وكثر طلبته وأتباعه لتعلم تلك الطرق في الذب عن السنة وبسط الحجج والأدلة في نصر الملة، فسموا باسمه، وتلاهم أتباعهم وطلبتهم، فعُرفوا بذلك، وإنما كانوا يُعرفون قبل ذلك بالمثبتة سمة عرفتهم بها المعتزلة؛ إذ أثبتوا من السنة والشرع ما نفوه، فبهذه السمة أولا كان يعرف أئمة الذب عن السنة من أهل الحديث)[5].

يقول محقق كتابه “الترتيب” العلامة ابن تاويت: (احتجاج عياض المتكرر في كتاب الشفا بآراء أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر الباقلاني وأبي بكر ابن فورك وأبي المعالي إمام الحرمين الجويني يثبت كل ذلك صلته الوثيقة بمذهب الأشعرية وبكتبهم، وقراءاته لمؤلفاتهم في الاعتقاد ووصفه للباقلاني وأبي بكر ابن فورك بقوله (من أئمتنا) دال على أنه أشعري المذهب. ومناقشاته العميقة لآراء المعتزلة والفرق الاعتقادية الإسلامية على اختلاف مذاهبها وللفلاسفة والصوفية والخوارج- تطلع الدارس لعياض على معرفته الواسعة بالمذاهب الاعتقادية وآراء أصحابها.. وصلة القاضي عياض بعلم الكلام وما يتبعه من جدل ومناظرة ومعرفته بدقائق آراء المخالفين لأهل السنة فيه، تصل بنا إلى أن المدرسة التي أخرجت القاضي عياضا وشيوخه الذين تعلم عليهم الكلام وأصول الدين، وكثير من العلماء المغاربة الذين اشتغلوا بعلم الكلام واشتهروا به وترجم لهم في ترتيب المدارك – نقول هذه المدرسة كانت على علم تام بالجدل والمناظرة وأصول الدين والكلام على مذهب أبي الحسن الأشعري، وأن كتب الأشاعرة في علم الكلام كانت معروفة بين رجالها يتدارسونها في كافة أنحاء المغرب..)[6].

ومواقفه تلك هي التي جعلته يتواجه مع السلطة الموحدية الجديدة أيام قيامها على أنقاض الدولة المرابطية، يقول محمد شواط: (لقد ضرب القاضي عياض ـ رحمه الله ـ مثلا رائعا بمواقفه العظيمة في الدفاع عن عقيدة الإسلام العظيمة التي تشبع بها ونافح عنها بلسانه وبنانه وسنانه. فما أن ظهرت أخبار الموحدين وعلمت مخالفاتهم العقيدية والسلوكية وتكفيرهم لغيرهم ومبالغتهم في سفك الدماء وقتل الفقهاء ومهاجمة مذهب مالك، حتى جمع القاضي عياض أعيان سبتة ونبه الناس إلى مخاطر الموحدين على العقيدة وإفسادهم في الدين، وحذرهم من مغبة الدخول في طاعتهم والسماح لهم بدخول مدينتهم. وكان يومئذ رئيسهم بأبوته ومنصبه، فاجتمعوا تحت قيادته. وخاض بهم الحرب ضد الموحدين حتى ردهم عن دخول سبتة)[7].

وقد تضمنت مصنفات عياض جملة وافرة من المباحث المتعلقة بعقائد أهل البدع والرد عليهم، وهو في الغالب لا يذكر ذلك ابتداء، وإنما يسوقه تبعا لما يقرره من عقيدة أهل السنة. وهو يستفيد من كل مناسبة للرد على أهل الأهواء، وقد يضيف إلى ذلك فوائد أخرى عنهم كالتعريف ووجه التسمية والمصادر التي تتضمن الكلام على معتقداتهم ونحو ذلك. وتعتبر كتب عياض رافدا مهما لكتب مقالات الفرق والملل والنحل. وقد تناولت ردود القاضي نقولات معظم الفرق الكبرى المعروفة غير أنه قد ركز بصفة خاصة على نقض مقالات المعتزلة في تحكيمهم العقل على الشرع، كما رد على الخوارج والشيعة والكرامية والسالمية والمجسمة والجهمية والمتصوفة. 

– ومن آرائه الاعتقادية في هذا الجانب:

1- ذكر القاضي عياض أن عصمة الدم تحصل بقول لا إله إلا الله، فقال: (اختصاص عصمة النفس والمال بمن قال لا إله إلا الله؛ تعبير عن الإجابة إلى الإيمان وأن المراد بهذا مشركو العرب وأهل الأوثان.. فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفى بعصمته بقول لا إله إلا الله إذ كان يقولها في كفره)[8].

2- وفي شرحه لكلمة التوحيد التي تضمنها الأذان قال: (وصرح بإثبات الوحدانية والإلهية ونفي ضدها من الشركة المستحيلة في حقه، وهذه عمدة الإيمان والتوحيد) فمراده بالإثبات؛ إثبات الوحدانية في قوله إلا الله ومراده بالنفي نفي الإلهية عما سوى الله[9].

3- ما يتعلق بالنبوة؛ فقد نبه على ذلك فقال: (والإيمان به- صلى الله عليه وسلم- هو تصديق نبوته ورسالة الله له، وتصديقه في جميع ما جاء به وما قاله، ومطابقة تصديق القلب بذلك شهادة اللسان بأنه رسول الله، فإذا اجتمع التصديق بالقلب والنطق بالشهادة بذلك باللسان، ثم الإيمان به والتصديق له كما ورد في الحديث نفسه من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أمرت أن أقاتل الناس..الحديث).

 وزاده وضوحا في حديث جبريل؛ إذ قال: (أخبرني عن الإسلام. قال النبي- صلى الله عليه وسلم: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله..الحديث) وذكر أركان الإسلام[10].

ومن خلال دفاعه عن الأشعري ومذهبه لا يتوانى القاضي عياض عن توجيه انتقاداته لبعض الآراء المخالفة لمذهبه فيقول: (إذا كانت مدرسة السلف أثبتت الصفات الخبرية بلا تشبيه وبمعنى معلوم وكيف غير معلوم فإن بعض الأشاعرة فوضوا في معناها، بينما ذهب معظم متأخريهم إلى تأويلها وحملها على غير معناها الظاهري مخافة الوقوع في التشبيه)[11].

 وبالرجوع إلى آراء القاضي عياض يتأكد لنا بأن عياضا قد سار في نفس الاختيار الأشعري؛ إذ نجده يتبنى القول بالمجاز في صورته الأشعرية درءا للوقوع في التجسيم حيث علق على بعض الأحاديث التي تحدثت عن اليد قوله: (وهذا ومثله مما لا يجوز حمله على الجارحة لأنها لا تليق إلا بمخلوق محدود والله جل اسمه متعال عن ذلك..)[12].

ويقول د.جمال علال البختي: (إن إثباتنا لأشعرية القاضي عياض تتأسس على مفهوم التبني للنسقية العامة، وهذا لا يمنع أن يكون لعياض مواقف جزئية تقترب من آراء مدرسة السلف، لأن المدرسة الأشعرية لم تناقض التوجه السلفي برمته بل اعتبرت نفسها المعبرة عن اعتقاد أهل السنة والجماعة..)[13].

 

الهوامش:

 

[1] انظر ترجمته في مقدمة كتابه ترتيب المدارك وتقريب المسالك في أعلام مذهب الإمام مالك- القاضي عياض- تحقيق ابن تاويت الطنجي وغيره- طبعة وزارة الأوقاف.- موسوعة أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض للمقري- الذهبي في السير/35-205-206- تذكرة الحفاظ-ج/4-68- تاريخ قضاة الأندلس-ص:101- وفيات الأعيان لابن خلكان-ج/3-483.

[2] الغنية، القاضي عياض، ص:226.

[3] – أعلام المسلمين(72): القاضي عياض (عالم المغرب وإمام أهل الحديث في وقته)- الحسين بن محمد شواط- دار القلم/دمشق-الطبعة الأولى/1999-ص:186.

 [4] ترتيب المدارك-ج/5-ص:24.

[5] نفسه.

[6] مقدمة كتاب “ترتيب المدارك”.

[7] القاضي عياض- الحسين شواط-ص: 256-257- انظر تفاصيل ذلك في مقال بمجلة دعوة الحق-العدد/100.

[8] جهود المالكية في تقرير توحيد العبادة – تأليف: عبد الله بن فهد بن عبد الرحمن العرفج – دار التوحيد للنشر-ص:124

[9] نفسه.

[10] إكمال المعلم شرح صحيح مسلم للقاضي عياض-د.ت- ج/1-ص: 246

[11] مقال بمجلة الفرقان المغربية-العدد:63- القاضي عياض والأشعرية بسبتة قبل فترة الترسيم-ص:38-50

[12] نفسه.

[13]  نفسه.

 

                                                     إعداد: منتصر الخطيب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق