وحدة الإحياءقراءة في كتاب

الفقه الإسلامي في طريق التجديد.. قراءة تحليلية نقدية

يعبر عنوان الكتاب*، موضوع القراءة، عن إرادة أصيلة للصدع بمهمة جليلة تتمثل في الدعوة إلى تجديد الفقه الإسلامي. وهو التجديد الذي لا يعد أمرا طارئا بقدر ما يشكل امتدادا لتراث علمي وحضاري أصيل طبع الفكر الإسلامي قديمه وحديثه بالنظر الموصول في العلاقة التفاعلية بين الوحي والعقل.. النص والاجتهاد.. المنقول المعقول.. المأثور والرأي.. وهذه قراءة تحليلية نقدية لأهم أفكاره وقضاياه.

لقد تعددت آراء العلماء بشأن إحياء الدين وتجديده، سعيا لملء منطقة الفراغ التشريعي أو منطقة العفو..[1] ولو أن من العلماء من تحفظ على مصطلح منطقة الفراغ التشريعي بدعوى أنه يوحي بترك مجال من مجالات نشاط الإنسان مهملا غير خاضع لأحكام الشريعة، وهو ما قد ينم عن وجود قصور ونقص في الشريعة، فرجحوا أن يطلق عليها “منطقة العفو” استلهاما لقول النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم: “الحلال ما أحل الله والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه”، وقد جرى النظر إلى  مصطلح العفو، تبعا لذلك، كمفهوم غير دقيق لا يعبر تماما عن المقصود[2] بدعوى أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قد ملأها في عهده بتصرفات الإمامة، وأن أولي الأمر من بعده مفوض لهم ملؤها بما يناسب زمانهم وظروفهم، وليسوا ملزمين، في ذلك، بالتقيد إلا بالمنهج العام والمبادئ والمقاصد المؤطرة وليس بالأحكام الجزئية، وهذا باب واسع للاجتهاد في الدين والتجديد فيه.

برزت الإرهاصات الأولى للإحياء الديني مع الإمام الغزالي، رحمه الله، الذي نادى بفكرة إحياء علوم الدين لتتجدد الدعوة إلى إحياء الفقه الإسلامي من طرف العديد من العلماء والمفكرين الإسلاميين المعاصرين، مع التشديد على أن الإحياء إنما يطال الفكر الديني وليس جوهر الدين، سعيا إلى إحيائه في نفوس المسلمين والتجديد في فهم أبعاده المختلفة عبر قراءات حديثة تأخذ بعين الاعتبار التحولات الزمانية والمكانية ومقتضياتها، سعيا لتفعيل الدين وتحويله إلى واقع حياتي معاش..[3] استنادا إلى قوله تعالى: “يأيها الذين ءامنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم” [الأنفال: 24].

يذهب مؤلف هذا الكتاب الهام الأستاذ محمد سليم العوا إلى أن تجديد الدين وإحيائه ينهض بوظيفة حضارية أوسع من العملية الاجتهادية نفسها. ولعلها الحقيقة التي جعلته لا ينظر إلى العلاقة بينهما كمجرد علاقة بين غاية ووسيلة، بقدر ما أراد لها أن تكون علاقة تفاعل إيجابي خلاق..

ولأنه يعتبر، كغيره من العلماء، أن الاجتهاد يمثل واجبا شرعيا، فقد عمل على تقديم تعريف ومضمون عملي له استخلصه من التراث الإسلامي مفاده أن الاجتهاد هو بذل الجهد العقلي والفكري في التعرف على الحكم الشرعي لما يعرض للفقيه أو المفتي أو القاضي من مسائل، انطلاقا من مرجعية الكتاب والسنة، واعتمادا على قواعد أصول الفقه وعلم المقاصد وانطلاقا من فقه الواقع.

وكان طبيعيا أن أسس لتجديد الفقه من خلال الحديث الشريف الذي رواه أبو داوود وغيره عن أبي هريرة، أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قال: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”، إذ لا يتحقق هذا المطلوب شرعا في المجال الفقهي إلا بقيام كل جيل من أجيال المسلمين بأداء واجب الاجتهاد الذي به يعرف المسلمون حكم شريعتهم فيما يحدث من وقائع لا يتناولها صريح النصوص القرآنية والنبوية، وعد هذا الواجب قائما  باستمرار دور العلماء وقيام أئمة الهدى بمهمة البلاغ والبيان، وبانصراف جهود أبناء الصحوة الإسلامية إلى العمل لصالح المشروع الحضاري الإسلامي، خصوصا الفئة الجادة المتنورة منهم التي جمعت بين العلم الصحيح والعمل به والدعوة إليه.

انسجاما مع عنوان الكتاب: (الفقه الإسلامي في طريق التجديد) نجد أن المؤلف شديد الانشغال بهم الرد على من يقفون موقف المشكك أو المعادي من حركة التجديد الفقهي في الأمة، وقد عمل على رصد عدد مهم من الآراء الاجتهادية المعاصرة سواء منها الفقهية التأصيلية أو الحركية، التي غالبا ما يتوجها بنظراته الاجتهادية..

ونظرا لصعوبة الإحاطة بكل الآراء الاجتهادية لكثرتها وورودها من دون ترتيب؛ من خلال عناوين متفرقة بلا تبويب، ونظرا لجودة مضامينها وقيمتها العلمية على المستوى المنهجي والمعرفي نرى ضرورة ترتيبها وتبويبها تحقيقا للمزيد من التماسك والوضوح المنهجي..

على المستوى المنهجي؛ اعتبرت دراسة حركات التجديد والمجددين من بين الأولويات المنهجية والوسائل المعينة على فهم كيفيات التعامل مع الكتاب والسنة، خصوصا من حاول منهم الانعتاق من أسر الفهوم المسبقة التي عملت على تكريس الواقع، في محاولة للانطلاق المنهجي من أجل بناء معرفة إسلامية تستمد من قيم الوحي وتستصحب فهوم السلف بعيدا عن كل أشكال الانغلاق والتقديس..[4]

 لاشك أن النفس الاجتهادي للمؤلف يخدم هذا الاتجاه المتحرر من سلطان التقليد المذموم، والمتجه، بالمقابل، نحو التجديد المنضبط بقواعد الشريعة وأصول فقهها، تعزيزا لحركة التشريع الإسلامية العصرية[5].

 ولعل أولى الخطوات المطلوبة، على طريق  بناء المنهجية الإسلامية المعاصرة، تكمن في تقديم دراسات تقويمية جادة تعرض وتقوم البناء المعرفي لحركات التجديد ومناهج المجددين[6]، وهنا تكمن أهمية المقاربة التي قدمها محمد سليم العوا، والتي تناول من خلالها العديد من الاجتهادات المعاصرة خصوصا تلك التي كانت موضوع اختلاف وجدل، ليحدد مجموعة من الآليات والضوابط للتعامل؛ سواء مع المسائل الفقهية أو مع الاجتهادات المتولدة عنها  نحددها في ما يلي:

  • التفرقة بين واجب الاجتهاد الذي يقع على العلماء المؤهلين له، وبين الجرأة على الدين التي يقع فيها كثير من “المتنطعين”..
  • القدرة على الاجتهاد: أي أن يكون العلماء مؤهلين لذلك، ومتوفرين على العلم الشرعي والعلم بالتخصصات الأساسية الأخرى، مع ضرورة الانطلاق من الكتاب وصحيح السنة النبوية..
  • العناية والاستئناس بالثروة الفقهية التي أنتجها الأئمة الأربعة وغيرهم من الأئمة المعتبرين، دون التقيد باجتهاداتهم..
  • تجاوز تبرير الواقع الفاسد أو تسويغ العادات المستوردة..
  • طلب الحق حيثما وجد، واتباعه أيا كان مصدره، وأن ينزل الناس منازلهم في القيادة الفكرية والدينية بقدر قربهم من الحق أو بعدهم عنه، وهذه الآلية التي يطرحها المؤلف من شأنها معالجة العصبية المذهبية، على أن تحقق ذلك يرتبط، إلى حد بعيد، بطبيعة المناخ الثقافي والسياسي والديني الذي يعايشه المجتهد والمتبع..
  • اعتماد مناهج الاستدلال والبحث التي أرساها واعتمدها المسلمون على امتداد تاريخهم، لكن هذا لا يمنع من الاستفادة من مناهج البحث الحديثة (على المستوى الاجتماعي والأنتروبولوجي والقانوني والسياسي…) لتطوير الاجتهادات المعاصرة، وهذا يوافق احتفاء الكاتب بدعوة جمال البنا إلى ضرورة تأسيس مجامع فقهية تضم علماء الشريعة والمتخصصين والفنيين[7]..
  • آلية التطوير والمراكمة، حيث يرى المؤلف أن آلة الرصد والتجميع في بلاد المسلمين قاصرة عن متابعة ما يجري على الصعيدين الفكري والفقهي، لذلك يرى ضرورة  المتابعة المستمرة التي تنتج علما متجددا وخبرة متراكمة بجهود العلماء المعاصرين في الاجتهاد والتجديد..
  •  اعتماد التمحيص والتبين، بشأن الخلط بين قواعد الإسلام المتعلقة بسياسة الدولة وتنظيماتها وسلطاتها، وبين التجارب التي مرت بالدولة الإسلامية على امتداد  تاريخها؛ إذ “لا يجوز الحكم على الإسلام بسلوك أتباعه حكاما كانوا أو محكومين، والواجب الحكم على الناس بمدى قرب سلوكهم أو بعده عن شريعة الإسلام ومبادئه وقيمه” ونحن إذ نوافق هذا الرأي إلا أننا نسجل صعوبة وضع فواصل أو حدود فكرية ونفسية تمكن من التعاطي الموضوعي والإيجابي مع مختلف تجارب الحكم الإسلامي.

تفرض الأولويات المنهجية تحديد المسائل والمباحث التي ستكون موضوعا للاجتهاد أو تلك التي تحتاج إلى تعميق الاجتهاد بشأنها، فهي ترد بحسب حاجات المسلم فردا كان أو جماعة، غير قابلة للحصر ولا يمكن ترتيبها ترتيبا نظريا مجردا يصلح لكل زمان ومكان، الترتيب يتم بالنظر إلى حال كل مجتمع وبحسب الضرورات القائمة فيه والحاجات الملحة التي تفرض نفسها على أهله علما ان صحة ترتيب هذه الضرورات والحاجيات تتوقف على صحة نظر كل فرد مع الأخذ بعين الاعتبار اختلاف الآراء ووجهات النظر.

في سياق تناول المؤلف لواجب الاجتهاد صنف الأحكام إلى نوعين؛ الأحكام الشرعية التفصيلية التي أوضحها النص القرآني وقد تناولها على سبيل المثال؛ (كالميراث وشؤون الزواج، الرضاعة والفطام، وكيفية وقوع الطلاق…) لا يتغير حكمها بتغير الزمان والمكان ولا تحتاج الأمة بشأنها إلى اجتهاد جديد، والأحكام المجملة الكلية؛ (كالعقود والديون والربا وطاعة أولي الأمر، والشورى ومختلف المسائل السياسية…)  التي تحتاج اجتهادا متجددا للتفصيل فيها حسب أحوال الناس ومقتضيات المصلحة..

الجهاز المفاهيمي

 الملاحظ أن الكاتب استخدم مفاهيم تنتمي إلى الحقل الفقهي التقليدي (الفقه، الاجتهاد، التأصيل، المقاصد، المصالح، المفاسد، الشورى، أهل الحل والعقد، أهل الشورى، الإحياء…) كما وظف مفاهيم حديثة تنتمي إلى الحقل القانوني والسياسي (المواطنة، الديمقراطية، الانتخاب، التداول الحر، التعددية السياسية…) أو في تجاور وتقابل معها مثل: (الفقه السياسي الحديث الإسلامي – فقه القانون العام، فقه المعاملات – فقه القانون الخاص، فقه العبادات – فقه التدين…) وقد يُعترض عليه بدعوى أن صهر هذه المفاهيم في سياق واحد دونما اعتبار لامتداداتها الثقافية والحضارية لا يخلو من تعسف ومجازفة، لكن الحاصل أن الكاتب يحاول التأسيس للتعايش بين الحقلين بناء على تقارب المعاني والمضامين وانتقاء ما هو نافع من التجارب التي أنتجت هذه المفاهيم، وقد أسعفه في ذلك تكوينه العلمي الشرعي والقانوني، غير أن وضوح هذه المعاني في ذهن محمد سليم، للاعتبارات التي سقناها، لا يؤدي بالضرورة إلى استيعابها بالشكل أو المستوى المطلوب لدى القارئ والمتتبع في حال غياب الإحاطة بجذورها وأبعادها الفكرية.

أطروحة البحث

 صاغ الأستاذ محمد سليم العوا أطروحته حول واجب الاجتهاد من أجل تجديد الفقه الإسلامي -وإن لم يحدد الإشكالية موضوع الدراسة والبحث في مقدمة كتابه بشكل دقيق- من خلال تأملاته وقراءاته لواقع الفقه والاجتهاد في الأمة الإسلامية، وانطلاقا من تساؤلاته التي لامست التناقض الموجود بين تمثلات الناس الفكرية والفقهية وواقعهم المتحرك ومن أهمها:

هل يعقل أن يعجز الدين عن مواجهة الأطوار الجديدة التي تشهدها البشرية؟ وهل يعقل أن يظل المسلمون مقيدون بما قاله العلماء في وصف أنظمة الحكم التي عاصروها وعلاقة المسلمين بغير المسلمين خلال فترة السلم والحرب؟ كما حاول الإجابة على أسئلة  حملة المشروع الحضاري داخل تيار الصحوة الإسلامية حول المرأة والأسرة والنظم السياسية والاجتماعية والمالية وعلاقة المسلمين بغير المسلمين، وحول إمكانية القبول بالنظم الحديثة (حقوق الإنسان، المواطنة، تداول السلطة، تمتيع المرأة بحقوقها الاجتماعية والسياسية…).

كما لم يتقيد الكاتب بمنهجية محددة؛ حيث غاب الخيط الناظم لأغلب قضايا فصول كتابه التي تناولها بشكل متفرق[8]، لذلك نقترح تبويبا للفصول التي تناولت المسائل الاجتهادية، والصيغة التي نقترحها لا تعني أن هناك تراتبية من حيث الأهمية بالدرجة الأولى، لكن نتصور أن لها بعدا إجرائيا عمليا، مع التركيز على فقه النظام السياسي الإسلامي لما شهده من جدال كبير ونقاش عام لازال مستمرا لحد الآن وهذا لا ينفي أهمية باقي الأبواب الفقهية:

باب فقه السياسة الشرعية أو فقه النظام السياسي الإسلامي[9]

 وقد خصه المؤلف بمساحة كبيرة في كتابه متناولا العديد من الاجتهادات المعاصرة ذات الصلة، معتبرا إياه من الموضوعات بالغة الأهمية التي تتطلب من أهل التخصص المزيد من العناية، وبذل الجهد لتقديم فقه سياسي متكامل يسعف الأمة الإسلامية على العيش سياسيا في ظل شريعة الإسلام. ومع أن هذا الفقه كان موضوعا للعديد من الدراسات والأبحاث، إلا أن العديد منها جاء مشوبا بالغموض واضطراب الرؤيا، الأمر الذي حدى بالكاتب إلى تقديم مقاربة فكرية وفقهية اجتهادية من خلال المباحث التالية:

1.الحكومة الإسلاميةّ /الإسلاميون والحكم

يشدد المؤلف على أن القول بأن الطريق الوحيد إلى الإصلاح على هدى الإسلام يتوقف على وصول الإسلاميين إلى الحكم اعتقاد خاطئ؛ لأن في ذلك اختزال للفكرة الإسلامية نفسها وتجريدها من شموليتها. فمع أن النصوص القرآنية تلزم المسلمين بإعمال الشورى وتأمرهم بالعدل وتنهاهم عن الظلم والتظالم، إلا أننا لا نجد نظاما محددا منصوصا عليه لكيفية كفالة الحريات العامة والمساواة بين الناس، وإجراءات عملية توضح كيفية  مساءلة ومحاسبة الحكام وتوليتهم وعزلهم..

 ويقترح الكاتب ترجمة هذا الأصل: أي الشورى إلى لغة العصر السياسية، معتبرا أن تطبيقات الديمقراطية هي البديل والوسيلة المثلى لتولية الحكام وعزلهم، من منطلق أن البشرية لم تعرف نظاما أفضل من نظام الانتخاب الحر المباشر  لتولية الحكام وعزلهم، ولا يرى إلزاما أبديا للبيعة الناتجة عن هذا الانتخاب، فأبدية البيعة مرتبطة بواقع العصر الذي أنتج فيها الفقه الإسلامي تاريخيا وليست قواعد تشريعية ملزمة للمسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها..

2.الشورى

 يرى الأستاذ محمد سليم العوا أن الشورى واجبة ابتداء، وملزمة انتهاء بخلاف ما ذهب إليه بعض العلماء من أنها مندوبة أو مستحبة ومعلمة، وهو القول الوحيد الذي ينبغي أن يعتمد كمرجعية في بناء النظام السياسي العصري، كما يعتبر الشورى قاعدة من قواعد الإسلام تنظم شؤون الحياة كلها وليست الشؤون السياسية فقط، والمقصود منها ليس حل صراع مفترض بين الحكام والمحكومين وإنما تمكين الأمة من أن تقرر ما تراه صالحا بطريقة تمنع الاستبداد:

 وجوابا على التساؤل: “من يكون أهل الشورى[10]؟” هل هم أنفسهم الذين عرفوا في الفكر السياسي الإسلامي باسم أهل الحل والعقد، وهل يتغيرون أم هم معينون بصورة دائمة؟ يرى الكاتب أن الأمر يتعلق بمسألة خلافية، تندرج ضمن الأمور التفصيلية والتنظيمية التي لا تحصى، لذلك ينبغي أن تترك لاجتهاد الأمة تقرر فيها حسب الزمان والمكان ومقتضيات المصلحة والمفسدة، لكن هناك من يذهب خلاف مذهب الكاتب في نظرته المنفتحة إلى الديمقراطية وآليات تطبيق الشورى وإن وافقه على كونها إطارا ينظم مختلف شؤون الحياة، حيث يرفض هذا الرأي وضع مفهوم الديمقراطية مقابل مصطلح الشورى لاعتبارات مهمة ترتبط بقضية فصل الدين عن الدولة في النظام الديمقراطي. [11]

  لذلك تساءل: هل يمكن في ظل نظام ديمقراطي تطبيق شريعة الإسلام؟ وكيف يمكن تصور قيام أحزاب سياسية في ظل النظام الديمقراطي إذا كانت مبادؤها تصطدم أساسا مع أصول عقيدة الإسلام ومقاصده في الحياة؟ وهل الحريات العامة للأفراد والجماعات في ممارسة أنواع الرذائل وعدم التزام الدولة بالنظام الأخلاقي الإسلامي تدخل ضمن النظام الديمقراطية؟ رغم مشروعية هذه التساؤلات التي حاول الأستاذ العوا جاهدا الإجابة على جزء منها، إلا أن الحركات الإسلامية العاملة في المجال السياسي هي المعنية أكثر بتعميق البحث والاجتهاد في مقاربتها عمليا..

وفي صلة بمبدأ الشورى عرض المؤلف لولاية الفقيه بالنقد مرجحا عليها ولاية الأمة؛[12] فمع تمكن ظاهرة “الصحوة الإسلامية” من  كسر حاجز الجمود برزت إلى الحياة اجتهادات عديدة في الفكر الإسلامي السياسي عند أهل السنة وعند أهل الشيعة الإمامية، ولعل من المسائل المهمة التي لفت إليها العوا في هذا الإطار مساهمة مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران من خلال دروسه المشهورة عن الحكومة الإسلامية في إعادة تأسيس ولاية الفقيه وتفصيلها وجعلها بديلا عن انتظار عودة الإمام المعصوم، وإذا ما سعى بعض علماء الشيعة بسبب الجدل الذي تطرحه ولاية الفقيه على مستوى التطبيق[13]، إلى البحث عن صيغة مغايرة يقبلها الكافة ويحصل حولها الإجماع من السنة والشيعة حيث لم يعد نظام الخلافة بصورته التقليدية يحقق المصلحة السياسية العامة للمسلمين في هذا العصر، وعلى رأسهم محمد مهدي شمس الدين الذي قال بنظرية “ولاية الأمة” محاولا الجمع بين رأي السنة الذي يقر بحق الأمة في الاختيار أو البيعة، ورأي الشيعة التي تقول بغيبة الإمام ليخلص إلى أن الأمة يحق لها أن تسترد ولايتها بشكل إرادي عن طريق انتخاب أو تعيين الحكام لفترة محددة، وهكذا تصبح الحكومة الإسلامية المقيمة للشريعة حكومة توليها الأمة وتغيرها بإرادتها الحرة..

 من خلال استحضار هذا النموذج وغيره كالاجتهاد الذي ذهب إليه آية الله شريعتمداري وآية الله حسين علي منتظري[14]. يحاول الكاتب التأسيس التقريب بين أهل السنة والشيعة من خلال التوافق الفكري والفقهي حول نموذج معياري لنظام الحكم الإسلامي، وهو رهان يبدو بعيد المنال..[15].

3.مدى واقعية شعار الإسلام هو الحل؟!

دأب العاملون للمشروع الإسلامي على التبشير بصلاحية الإسلام لكل زمان ومكان حين يتم التمكين له في الأرض، حيث سيقوم بمعالجة كل الأوضاع المختلة، ونجد في هذا الكتاب الهام مراجعة وتصحيح لهذه الفكرة التي آمن بها الكاتب بدوره زمنا بعد سنين من الدرس العلمي وممارسة العمل الإسلامي، حيث اكتشف وجود فارق كبير بين الشعار والبرنامج الإصلاحي العملي، مرجحا الدعوة إلى قيام مشروع حضاري مستقل ومتميز يتخذ من الإسلام أساسا ووعاء، يتجه نحو تطوير عناصر التغيير للواقع الفاسد.

4.التعددية السياسية أو الحزبية

         يرد الكاتب على الموقف التقليدي الذي يعترض على التعددية الحزبية بدعوى أنه “لا حزبية في الإسلام[16]“، مؤكدا أنّ تاريخ الإسلام عرف فرقا سياسية ومذهبية عدة (الخوارج، الشيعة، المعتزلة…) كما عرف مدارس فقهية، ولم يكفر أحد من أهل العلم الصحيح أحدا لمخالفته في المذهب العقيدي أو الفقهي، ليستخلص أن منظومة القيم السياسية في الإسلام تستوعب الاختلاف السياسي وتنظمه[17]؟ مشددا على أن حرمان بعض الأمة من الحق في العمل السياسي الحر يمثل مفسدة كبرى؛ وأن النظام السياسي الإسلامي لا يضيق نظامه السياسي بالتعددية الحزبية، ما لم يقم ذلك على نقض لمبدإ صريح وثابت من مبادئ الإسلام..

وفي هذا السياق يسجل الكاتب أن الاختلاف كأساس ديني وحق إنساني أصيل يمثل جوهر التعددية[18]، معتبرا أن الأحزاب السياسية تمثل[19]ضمانة أساسية للحريات العامة والخاصة في مواجهة كل مظاهر الاستبداد بما يشكل شرطا لتقدم المجتمعات الإسلامية..

5.حدود المشاركة السياسية للمرأة؟

محص الكاتب ما استدل به المعترضون على مشاركة المرأة في العمل العام من آيات قرآنية؛ كاشفا أن سياقها ومدلولها لا يفهم منه منع المرأة من تولي المناصب السياسية واشتغالها بالعمل العام، ومبرزا كيف أن العديد من النصوص القرآنية تؤسس للمساواة بين الرجال والنساء في الخلق وفي الحقوق والواجبات، وهو أصل دلت السنة النبوية على احترامه، وعليه يبنى القول الصحيح بحق المرأة كالرجل سواء بسواء في المساهمة في العمل العام، لا تمنعها عنه إلا الصوارف الخاصة التي قد تصرف الرجل بدوره..

 وبعد أن أوضح اللبس الحاصل في مسألة فهم التراتبية الظاهرية بين شهادة المرأة وشهادة الرجل، واتصالها بقدرات المرأة العقلية والسياسية، أثار مسألة عرضت الفقه الإسلامي للكثير من النقد فيما يتصل بعدم المساواة بين المرأة والرجل في دية القتل الخطأ بعد أن أخذ بهذا الرأي جمهور الفقهاء زمنا طويلا..

  غير أن من مظاهر التجديد في الفقه الإسلامي المعاصر استقرار الرأي على خلاف ذلك، من منطلق أن القرآن والسنة والإجماع والقياس كلها تخلو من أي دليل صحيح صريح على صحة هذا القول، ومن ذلك قول الرسول الأكرم -صلى الله عليه وسلم-: “المسلمون تتكافأ دمائهم”، وقد دافع عن هذا الرأي كثير من العلماء المعاصرين المعتبرين كالشيخ محمد رشيد رضا والشيخ  محمود شلتوت والشيح محمد الغزالي، والشيخ يوسف القرضاوي..

 كما تناول المؤلف بالبحث الفقهي مظهرا آخر من مظاهر عدم المساواة بين المرأة والرجل في الحقوق، يتعلق الأمر بقوانين الجنسية في البلاد الإسلامية التي تمنح جنسية الدولة لأبناء المواطن الرجل وتحجبها عن أبناء المواطنة (المرأة) ليستقر رأيه على أن المقرر في الفقه الإسلامي أن سلطة الدولة في التشريع في شأن المباحات مقيدة بوجوب تحقيق المصلحة العامة، ومتى أعملتها كان هذا الاستعمال صحيحا واجب النفاذ، وإذا كان استعمال سلطتها في الأمر المباح مؤديا إلى مفسدة فإنه يكون باطلا غير نافذ، وما دام المقرر في النظم القانونية الحديثة أن من واجب المشرع أن يتنزه عن العبث وأن يعمد إلى تحقيق النفع ويتجنب التسبب في الإضرار بالمواطنين، وبالتالي وجب إلغاء النصوص التي تفرق بين المرأة المواطنة والرجل المواطن من حيث نقل الجنسية إلى الأبناء، ويرى من الواجب أن يتجه الاجتهاد الفقهي المعاصر إلى تقرير المساواة بهذا الشأن.

كما انتقد الكاتب بقوة من يعترضون على حق المشاركة السياسية للمرأة استنادا على الحديث الشريف: “لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة” مؤكدا أن هذا النص يستخدم في غير موضعه ويستدل به على أمر لا حجة فيه عليه، كاشفا أن الترشح والانتخاب ليس طلبا لولاية أو تعيينا فيها، على اعتبار أن عضو مجلس الشعب نائب عن الأمة ووكيل عنها، بحيث يعرض على الناس ما يوجب هذه الوكالة وهو تقديم خدمات لموكليه: أي مواطني دائرته، ولكن ليس له عليهم ولاية من أي نوع كان، ومعيار الترشح يتم بناء على الكفاءة وأداء المهمة الشورية وتحقيق الصالح العام..

 انطلاقا من هذه اعترض على رفض ترشح الأقباط للانتخابات، ليخلص في بحثه إلى أن أركان الولاية  بمفهومها الشرعي غير متوافرة الآن في أي دولة من الدول، انطلاقا من تغير مفهوم الحكم وآلياته ومؤسساته؛ فما عادت هذه الولاية لأحد أصلا،  كما أن الأمور حسب رأيه تدار سياسيا بحكم الأغلبية البرلمانية بغض النظر عن صفة النائب جنسه أو دينه.[20] وقد تجاوز الأستاذ محمد سليم العوا بصدد ولاية المرأة ما سمح لها به بعض العلماء من ولايات خطيرة كالقضاء والإمارة، إلى حد السماح لها بتولي رئاسة الدولة إذا ما توفرت لها الأهلية والكفاءة، غير أن رأيه هذا يتعارض مع ما سبق أن خلص إليه بشأن مباشرة وتدبير الشؤون الحربية والدينية التي تعد جوهر الولاية العامة، إلا إذا كان الأمر يختلف في حال تفويض السلطات إلى الأجهزة المختصة ومتابعتها؟

باب فقه الأسرة

 اعتبر الكاتب أن هذا الفقه من الفقه المهمل بين عامة المسلمين[21]، لاسيما على مستوى العلاقات الأسرية؛ أي علاقة الرجل بزوجته وبناته ومن يتعامل معهن من النساء في حياته العامة، حيث الغالب اعتبار النساء في مرتبة أدنى من مرتبة الرجال،  لذلك توقف كثيرا عند السيرة النبوية التي اعتبرها بمثابة إطار أمثل للاقتداء ومدرسة راقية لتعلم حسن التعامل مع النساء وفقه أصول وفلسفة تربية الأبناء، ويرى أن ذلك من الأولويات التي ينبغي أن يعمل عليها العلماء والفقهاء ويبصروا الناس بها.

 ويمكن أن ندرج ضمن هذا الباب ما تناوله بشأن فقه المرأة من خلال بعض مظاهر التجديد الفقهي التي بحثت مسألة الزواج العرفي ومسألة الخلع[22]، لكن ما أثاره كثيرا هي مسألة ختان الإناث بمصر فوسع النظر فيها فقهيا وطبيا لانعكاساتها الخطيرة على الصعيد المجتمعي والصحي بالنسبة للمرأة[23]، واستقر رأيه على أن السنة الصحيحة لا حجة فيها على مشروعية ختان الأنثى، وما يحتج به من أحاديث حول ختان الإناث كلها ضعيفة لا يستفاد منها حكم شرعي، مشددا على أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد عادة تركها الإسلام للزمن ولتقدم العلم أمر تهذيبها أو إبطالها، مؤكدا على  أن من واجب الدولة في مصر وفي غيرها من البلاد الإسلامية التي تشيع فيها هذه العادة إصدار تشريع يمنع ممارستها، وقد ساهمت دعوته هاته في إصدار وزارة الصحة المصرية لقرار بالمنع رغم طعن بعض الأطراف فيه.

وبشأن فقه المواريث الذي يتميز بوضوح أحكامه وصرامته نجد المؤلف يتناول المستجدات الملحة التي تعامل معها الفقه الإسلامي المعاصر، وأهمها تحول جنس الوارث من الأنثى إلى الذكر، وهذا واقع تشهده العديد من البلدان العربية الإسلامية (المعالجة الطبية لحالة الخنثى)، ولتوضيح المسألة تناول إجابة شيخه العلامة محمد مصطفى شلبي التي راجعه فيها، بعد أن استقر رأيه فيها، بعد البحث والتمحيص الفقهي، إلى أن الجراحة إن بنيت على تغير في التوازن الهرموني سابق على الوفاة فللولد نصيب الذكر؛ لأن الجراحة تكشف ما كان مستورا عنا وهو أن للمورث ولد ذكر (وهذا يشبه الحمل المستكن من جهة عدم معرفتنا نوعه وقت الوفاة)..

 وإذا كان التغير في التوازن الهرموني لاحقا لتاريخ الوفاة فالتركة على ما قسمت عليه لأن الموجود وقت الوفاة كان أنثى حقيقية، ولا شأن للميراث بما لم يكن موجودا وقت الوفاة مما حدث بعدها لأسباب لا يعلمها إلا الله، وما استوقفه أيضا في هذا الاتجاه رد شيخه محمد مصطفى شلبي على من دعا إلى تطبيق قواعد توريث البنات – كما هي عند الشيعة الإمامية، على اعتبار أن هذا المذهب سوى بين البنت وبين الابن. وقد رأى الشيخ شلبي أن الحكم المقترح إدخاله في قانون المواريث لا ينسجم مع بقية أحكامه، بل ويتعارض مع أكثرها، ولأن فقه المذاهب السنية مستمد مباشرة من كتاب الله والأحاديث الصحيحة واجتهادات الصحابة المتفق عليها ويعترفون بإرث العصبات بناء على السنة العملية الصحيحة، خلافا لحديث طاووس… وقد توقف الشيخ شلبي عند حقيقة مهمة مفادها أن أحكام المواريث عند الشيعة ترتبط، إلى حد كبير، بمذهبهم في الخلافة،[24]واعتبر أن ما أكده فقهاء السنة في هذا الجانب ليس كسلا فكريا أو استكانة للمألوف ما دامت واضحة بناء على صريح النصوص.

باب الفقه الجنائي الإسلامي

  نوه الأستاذ محمد سليم العوا إلى أن الفقه الجنائي الإسلامي بات يحظى باهتمام متزايد من طرف الباحثين المعاصرين. بعدما طال إهماله لأسباب سياسية وتاريخية كرسها القعود عن الاجتهاد فيه. ومن بين مظاهر التجديد ما توقف عنده الكاتب بخصوص جرائم الحدود؛[25]كشرب الخمر والسرقة، وتقنين أحكام الشريعة بشأن تقرير عقوبة الحد على جريمة السرقة، وقواعد الإثبات الجنائي، إلى جانب جريمة الردة التي اعتبر أن العقاب الموقع عليها عقاب تعزيري؛ لأن الردة إذا بقيت في نطاق الاعتقاد الشخصي للمرتد وبشكل سري، فلا حق لأحد في البحث في السرائر والتفتيش في ضمائر الناس ومدى اتفاقها أو اختلافها مع صحيح العقيدة الإسلامية. أما المجاهرة بالاعتقادات المخالفة للإسلام فهي التي تعد ردة تعرض صاحبها للعقوبة التعزيرية يقررها التشريع المطبق في الدولة الإسلامية التي تقع في نطاقها هذه الجريمة، بحيث لا يجوز توقيع هذه العقوبة إلا بعد محاكمة علنية عادلة مع كفالة حق الدفاع للمتهم بالردة.[26]

باب فقه علاقة المسلمين بغير المسلمين[27] 

 شهد هذا الفقه اجتهادات كثيرة، ومن بين المسائل التي واجهت الباحثين في هذا الإطار مسألة تقسيم العالم إلى دارين: دار الإسلام ودار الحرب، وفي هذا السياق لا يتردد الأستاذ العوا في الدعوة إلى تجاوز الاجتهاد القائل بهذا التقسيم.. مرجحا تقسيما جديدا للعالم يميز بين دار العهد والموادعة..

وفيما يتعلق بموقف الفقه الإسلامي من المكتسبات القانونية والحقوقية  للدول الغربية وكيفية التعامل معها (حقوق الإنسان، المؤتمرات الدولية حول الصحة العالمية والقضايا الاجتماعية والاقتصادية والمدنية)، عرض الكاتب لمسألتين أساسيتين: الأولى تشير إلى أن  الوطن العربي والعالم الإسلامي بوجه خاص ينبغي أن يولي أهمية للإطار التنظيمي والعملي لممارسة حقوق الإنسان أكبر بكثير من الأهمية التي تعطى للجانب النظري الموضوعي، المتمثل في إثبات قبول الإسلام لهذه الحقوق أو سبقه في تقريرها. أما بالنسبة لمدى جواز المشاركة في  المؤتمرات الدولية (المتعلقة بالأسرة، الطفل، السكان)، فقد أكد أنّ المشاركة فيها ضرورية لبيان حكم الإسلام في المسائل التي تتناولها من ناحية، ومن ناحية أخرى للعمل على الإفادة من جديد المكتشفات ورصد التطورات الحديثة في العالم لتنمية مسيرة تجديد الفقه الإسلامي من ناحية أخرى..

باب فقه المعاملات المالية

تطرق فيه الكاتب لموقف الفقه الإسلامي من المسائل الحديثة التي شهدتها المعاملات المالية كشهادات الاستثمار بأنواعها، وعقود التأمين التي اختلفت الآراء حولها، وقد عرض لرأي كل من شيخه محمد مصطفى شلبي ورأي مجمع البحوث ورأي الدكتور هيثم الخياط (التأمين على المرض)،  ليبرز ما إذا كان التعامل بهذه العقود  جائز شرعا[28] أم لا؟

فبالنسبة لعقود التأمين التي تعد نتاجا للنظم القانونية الغربية، فقد أثارت جدلا كبيرا بين فقهاء العصر وانقسمت الآراء بشأنها بين مانع بإطلاق أو مجيز بإطلاق، وبين من أباح بعض صورها ومنع صورا أخرى..

 بعد أن أشار الكاتب إلى العلماء الذين تناولوا هذه المسألة بالبحث كالشيخ علي الخفيف والشيخ محمد أبو زهرة والشيخ مصطفى أحمد الزرقا… توقف عند بحث علمي وفقهي موسع للدكتور محمد هيثم الخياط بخصوص عقود التأمين الصحي، خلص فيه إلى أن التأمين على المرض يعد من قبيل التعاون على البر الذي أمر الله -عز وجل- به، وبينه الرسول الكريم بأمثلة عملية درءا لعادية المرض وعلاج مصيبته..

 ولذلك فهو يرى في قيام مؤسسات تعاونية إلى جانب الدولة شكلا من أشكال التعاون المحمود، خصوصا مع انتفاء الجهالة والغرر والبعد عن شبهة المراهنة أو المقامرة، ويرى أن الفائدة المادية التي يستفيدها من يساهم في ضخ الأموال إلى صندوق المؤسسة التأمينية من غير المستفيدين من التطبيب لا تؤثر في مشروعية هذا العمل.

ويخلص المؤلف إلى أن هذا البحث مهما كان موقف القارئ من اجتهاد صاحبه يعد نموذجا آخر من نماذج التجديد الفقهي الذي يعيد إلى الفقه الإسلامي نضارته، وقدرته على تنظيم الحياة بما يحقق طاعة الله وجلب مصالح الناس ويدرأ عنهم المفاسد.

باب فقه الصحة

اعتبره الدكتور العوا من الموضوعات التي تقتضي نظرة تجديدية وتتطلب تصحيح وضعنا الاجتماعي من خلال الفهم الصحيح والعمل السليم بها، وقد تناول في هذا الباب أهم ماورد في رسالة الدكتور هيثم الخياط التي جاءت مشتملة على ثلاثة مباحث أساسية:

أولا نعمة الصحة التي فصل فيها من خلال الحديث عن عناية الإسلام بالكثير من أوجه النظافة…كما تناول عنصرا مهما يساهم في حفظ المنظومة الصحية على المستوى الجنسي والنفسي والأسري والمجتمعي يتعلق الأمر بالزواج، مع التطرق لأهمية التغذية الحسنة والمتوازنة في تعزيز الصحة.

وفي المبحث الثاني عرض لتفسير قاعدة “لا ضرر ولاضرار” من خلال وقوفه على تجليات هذا الحديث الشريف وتطبيقاته في المجال الصحي. وبعد تأكيده على أن الإسلام يحرم الإضرار بالنفس ويوجب اتخاذ جميع سبل الوقاية من الأمراض، ذكر بعض النتائج الفقهية لهذا البحث من أهمها؛ أن من واجب المرء في حق أسرته أن يتخذ كل أسباب وقايتهم من الأمراض من خلال الحرص على إبعادهم عن مصادر العدوى ووجوب تطعيمهم ضد الأمراض المعدية، وحثهم على كل ما ينفعهم في معاشهم..

وفي المبحث الثالث تناول هيثم الخياط أهمية التماسك الاجتماعي في تحقيق الرعاية الصحية وحفظ الصحة العامة، وقد تطرق إلى بعض ملامحه الراقية في الإسلام من خلال التوادد والتراحم والتعاطف وإصلاح ذات البين، كما اعتبر صلاة الجماعة والشورى الواجبة دينا من الضمانات الأساسية لهذا التماسك وتحقيق مصلحة المجتمع[29].

 وفي نهاية هذا الباب توقف الدكتور العوا مليا عند رأي الدكتور الخياط الاجتهادي بخصوص تحديد بداية شهر الصوم ونهايته، خصوصا وأن هذا الموضوع يتجدد الخلاف حوله مع حلول شهر رمضان المبارك، واستقر رأي الخياط، بعد بحث فقهي وعلمي مطول، إلى أن الأفضل الجمع بين تحديد موعد مغيب القمر بالحساب، وبين الاستعانة بعلماء الفلك الموثوق في علمهم ودينهم للقيام بهذه العملية بالمرصد المكي، وفي حال تعذر ذلك؛ (أي غم عليهم) يعتد بالحساب الذي هو إلى اليقين أقرب، ويرى من الأفضل أن يقوم عدد من الراصدين بشرق العالم الإسلامي وغربه برصد الهلال لحظة مغيبه كما حددها الحساب وتبليغ رؤيتهم إلى المرصد المكي خصوصا إذا غم الهلال في مكة، وأن لا ينحصر ذلك خلال شهر رمضان وذي الحجة، بل أ ن يتم ذلك مطلع كل شهر.

ختاما

يمكن القول أن الدكتور محمد سليم العوا، سواء اتفقنا أو اختلفنا معه بخصوص ما أورده من اجتهادات فقهية وعلمية، لا يدعو فقط إلى تجديد الفقه الإسلامي، وإنما يقدم مشروعا تجديديا لا تكتمل حركة التجديد إلا به، وقد رسم معالمه ومنهجية تنزيله، أما المضامين والمتون فتتحدد وتقدر تبعا لنظرة كل مجتهد وتبعا لحركة الاجتهاد في الأمة. ويمكن أن نلخص مشروعه في العناصر التالية:

  •  ضرورة إنشاء مدرسة فكرية لتجديد الفقه وتيسير تطبيق الشريعة الإسلامية من طرف العلماء المؤهلين، وهو على هذا المستوى يلتقي مع دعوات سابقة إلى تأسيس مجامع للفقه تضم العلماء والخبراء والفنيين في مختلف التخصصات، ولكن الجديد أن واجب الاجتهاد لا يكتمل عنده إلا بقيام مدرسة لتجديد الفقه الإسلامي؛ روادها ومريدوها: العلماء وطلاب العلم والدعاة والمفكرون.. ومهامها الأساسية: القيام بقراءة توفيقية بين حقائق الدين الثابتة وواقع الناس المتحرك. أما مسؤولية إشاعة هذا الفقه والفكر المتجدد فتقع على عاتق الجميع..

الهوامش:


* . محمد سليم العوا، “الفقه الإسلامي في طريق التجديد”، منشورات الزمن، سلسلة رقم: 22، سفير الدولية للنشر، الطبعة الثانية 2008، مع مقدمة خاصة بالطبعة المغربية. وهو كتاب من القطع الكبير عدد صفحاته: 429.

1. طه جابر العلواني. “الأزمة الفكرية المعاصرة”. المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط 4، 1994 ص: 38-39 بتصرف.

2. سعد الدين العثماني.  “تصرفات الرسول، صلى الله عليه وسلم، بالإمامة”. منشورات الزمن، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2002 . انظر، ص: 88-89.

  3. ماجد الغرباوي. “إشكاليات التجديد”. بيروت: دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2001، لبنان، ص: 103 بتصرف.

 5. عمر عبيد حسنة. “الشاكلة الثقافية..”، المكتب الإسلامي ط 1 – 1993، ص: .117

6. محمد سليم العوا، مرجع سابق، ص: 265.

7. عمر عبيد حسنة، نفس المرجع، ص: 118.

 8. محمد سليم العوا، مرجع سابق، ص: 74 وما بعدها.

10. حيث نجد  الكاتب يتحدث عن التعددية الحزبية السياسية ثم ينصرف إلى تناول الشورى ثم يعود مجددا للحديث عن الحزبية وعن التعددية، وفي فصل آخر تطرق لولاية المرأة السياسية ضمن فقه المرأة وقبله خصص فصلا للحديث عن الولاية السياسية للأقباط والمرأة ضمن فقه نظام الحكم السياسي الإسلامي، ومن الأفضل لو تم  تناولها ضمن هذا الفصل وأن تجمع كل الأفكار المرتبطة بهذا المبحث الاجتهادي تحقيقا للوحدة الموضوعية.

11. مراعاة للسياق المنهجي والوحدة الموضوعية  كان من الأفضل أن تجمع كل المسائل السياسية ذات الصلة بهذا الباب، حيث ورد العديد منها متفرقا  وكل ما يرد في كل الأبواب الفقهية هو بحسب الترتيب الذي نقترحه وليس بحسب ما ورد في الكتاب للاعتبارات التي سقناها.

14. يفضل الكاتب الحديث عن أهل الشورى وهم في رأيه فريقان يتكامل عملهما، المختصون في الموضوع الذي يكون محلا للشورى ومن أهل الرأي والفكر والنظر من مختلف فئات الأمة وطبقاتها، أما مفهوم أهل الحل والعقد الذي قصد به العلماء رؤساء الجيوش وزعماء القبائل ورؤوس العشائر وأهل العلم والفتيا والاجتهاد، فهو مفهوم تاريخي تأثر بالسياق التاريخي لتأسيس الدولة الإسلامية ونظام الحكم، لمزيد من التفصيل انظر، ص: 127_128.

15. محسن عبد الحميد، الإسلام والتنمية الاجتماعية، سلسلة قضايا الفكر الإسلامي(3) المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الثالثة 1995، ص: 82 وما بعده، بتصرف.

17. أشار الأستاذ العوا لمسألة جمود الفكر السياسي الإسلامي عند أهل السنة حيث انحصرت البحوث في تناول الخلافة والبيعة ووجوب الطاعة وأنواع الإمارة في انفصال تام عما يحدث في الحياة العملية على امتداد أنظمة الحكم الإسلامي، وكذلك عند أهل الشيعة الإمامية فظلت البحوث تدور حول اشتراط العصمة في الأئمة، وعدم جواز إقامة الدولة الإسلامية في ظل غيبة الإمام الثاني عشر.

18. حيث تصلح للتطبيق على نطاق محلي ولا تصلح للتطبيق العالمي وخير مثال على ذلك أن علماء الشيعة في لبنان طوروا آليات التعامل مع الدولة الحديثة ومؤسساتها ولم يستنسخوا فكرة الحكومة الإسلامية المؤقتة، لاعتبارات ترتبط بالواقع السياسي للبنان (المذاهب الدينية والطوائف).

 19. يرى آية الله شريعتمداري أن للشعب أن يحكم نفسه بنفسه وينتخب ممثليه للبرلمان بالاقتراع الحر وأن التشريعات لابد أن تنسجم مع توجهات الأغلبية إن كانت من المسلمين وبالتالي لا يجوز لهذه القوانين مخالفة الإسلام، وهو يخالف ما ذهب إليه آية الله خوميني، إذ أنه يرفض الحكم الفردي أو حكم طبقة أو فئة واحدة (فئة الفقهاء المجتهدون أو المراجع العلمية)..

 20. هناك من علماء الشيعة من يرفض القول بولاية الفقيه كسيد كاظم الجابري في كتابه: “أساس الحكومة الإسلامية” ويستند على عدة حجج، ومن بينها أن الولاية لم تثبت في الشريعة الإسلامية لفقيه معين إنما لجميع الفقهاء الجامعين للشرائط،  انظر: ص: 191-193- الدار الإسلامية، بيروت، 1989

21. كما حاول أن يفسر قول الذين ينكرون وجود تجمعات حزبية في الدولة الإسلامية بحجة أن ذلك يهدد الوحدة الإسلامية ويؤسس للفرقة التي تذمها النصوص القرآنية والنبوية، بأن ذلك يرجع إلى الفهم الخاص للنصوص الإسلامية التي تتحدث عن الوحدة الإسلامية وعن الفرقة والتي  تنسحب معانيها إلى التعدد السياسي في إطار الوحدة الوطنية أو القومية، وإلى تأثر فكر الحركات الإسلامية بالواقع السيئ للأحزاب السياسية العربية، خصوصا على مستوى انتقادها للمنزلقات التي وقعت فيها عند معالجتها للقضية الوطنية أو في تعاملها مع القوى الأخرى.

24. محمد سليم العوا، الفقه الإسلامي  في طريق التجديد، انظر، ص: 109 وما بعدها.

25. نفس المرجع، ص: 84_85.

26. استحضر ذ. العوا قول الشيخ ابن تيمية في موقف الإسلام من الأحزاب السياسية في عملها وفق الكتاب والسنة واجتماعها على الخير واجتناب الباطل،  ويرى أن يذهب الاجتهاد المعاصر إلى القول بذلك.

31. وقد أقره في رأيه هذا صفوة من العلماء كالشيخ يوسف القرضاوي والشيخ محمد الغزالي والمفكر محمد عمارة، وقد ساهم رأيه هذا في إخماد فتنة طائفية بعد نشره

32.  محمد سليم العوا، المرجع نفسه ص: 179 وما بعدها.

33. لمزيد من التفصيل راجع ص: 163 وما بعدها وص: 319 وما بعدها.

34. المرجع نفسه، ص: 185 إلى ص: 203.

35. حيث منعوا الإرث بالتعصب ليمنعوا العباس عم الرسول -صلى الله عليه وسلم- من ميراثه، وسووا بين البنت والابن لتنفرد الزهراء -رضي الله عنها- بميراث الرسول، ولما لم يكن لرسول الله مال يورث عنه انتقل الإرث إلى الخلافة، ومنها تنتقل إلى أولادها ويحرم منها العباس… لمزيد من التفصيل انظر، محمد سليم العوا، المرجع نفسه÷338 وما بعدها.

36. لمزيد من التفصيل انظر ص:245 وما بعدها وص: 256 وما بعدها.

39. يعتبر د. العوا أن فكرة “إهدار الدم” لا يجوز أن يقرها الاجتهاد المعاصر.

40. يمكن أن ندرج ضمن هذا الباب ما سبق أن تناوله الكاتب  من مسائل مختلفة كمسألة زواج المسلمة بأجنبي  وانعكاساتها على جنسية الأبناء أو حق المواطنة وعقد الذمة.وتقسيم العالم إلى دارين: دار الحرب ودار السلم وكيف تعامل المسلمون مع مكتسبات الغرب بشأن حقوق الإنسان  والمؤتمرات الدولية، وقد  اقتصرنا على تناول بعضها ويمكن الرجوع من أجل المزيد من التفصيل إلى ص: 137 وما بعدها.

43. لمزيد من التفصيل حول هذه المسألة انظر ص: 365 وما بعدها.

44. انظر، ص: 395 وما بعدها.

Science

دة. لبنى أشقيف

دكتورة باحثة في القانون العام- كلية الحقوق
جامعة القاضي عياض، مراكش

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق