«الغنوصية» من الكلمة اليونانية «جنوصيص gnosis»، ومعناها «علم» أو «معرفة» أو «حكمة» أو «عرفان». وتُستخدَم الكلمة الأخيرة في المعجم العربي للإشارة للغنوصية. والغنوصية حركة فلسفية وتعاليم دينية متنافرة أخذت شكل أنساق أسطورية جميلة في غاية التنوع وعدم التجانس، انتشرت في الشرق الأدنى القديم في القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد. ورغم عدم تجانس أساطيرها وتعاليمها وأفكارها، بل تنافرها، فيمكن القول بأن كل الأنساق الغنوصية تدور في إطار الحلولية الكمونية. وتنطلق الحلولية الغنوصية عادةً من رؤية اثنينية ازدواجية صارمة ترى أن هناك إلهين وليس إلهاً واحداً: إلهاً خفياً خيِّراً (إله العهد الجديد) وإلهاً ظاهراً شريراً (إله العهد القديم). والإله الظاهر هو أيضاً الإله الصانع الذي خلق هذا العالم المادي.
ويُفرِّق الغنوصيون بين الجسم والنفس (سيكي) والروح (نيوما). هذه النيوما هي الذات داخل الذات وهي ليست من مخلوقات الإله، فهي سابقة على الخلق، قديمة قدم الكون والإله، بل هي جزء من العالم النوراني، عالم الإله الخفي. وهذا هو الجوهر الأصلي لفكرة آدم في المنظومات الغنوصية، فهو ليـس بمخلـوق وإنما هو قديم قـدم الكون والإله، لا يحكمه الزمن ولا يدركه الموت. وهذا هو جـوهر فكـرة أصحاب الغـنوص من الروحــانيين (النورانيين)؛ هذه النخبة من البشر الذين قد يبدون للعوام (من البشر العاديين الجسمانيين الذين لا نفس لهم ولا روح فيهم أو النفسانيين الذين لا روح نورانية فيهم) كما لو كانوا مثلهم مع أنهم في واقع الأمر ينتمون إلى عالم الخلود النوراني.
ولكن هؤلاء النورانيين، رغم طبيعتهم الإلهية، قُذف بهم في هذا العالم المادي الشرير وهذا الزمان الرديء لا لذنب اقترفوه أو لشر متأصل فيهم وإنما بسـبب خلل كوني. وهم يعيشون في هذا العالم ولكنهم ليسوا منه، يعرفون تمام المعرفة أنه عالم مخلوق زائف وأن الموت نفسه زائف فهم من أصحاب الخلود يتذكرون دائماً طبيعتهم الإلهية، وأن الخلاص لن يتم ولن يبلغ الإنسان الكمال (الذي هو اسم آخر للنجاة والخلاص) إلا من خلال معرفة خفية باطنية (غنوص) فيما يتصل بالحقيقة الكلية الشاملة والمبدأ الواحد المطلق الذي يحكم الكون بأسره ويعبِّر عن الواحدية الكـونية. وهي معرفة أو عرفــان بالإنسان، معرفـة الروح (نيوما) لنفسها، تُفضي إلى معرفة بالإله لأن الإله هو في نهاية الأمر الإنسان والإنسان هو الإله، أو على الأقل ينتميان كلاهما لعالم واحد وقد صيغا من نفس المادة أو الجوهر، ولذا فإن الخلاص والكمال هو اتحاد الذات الإنسانية مع الألوهية اتحاداً جوهرياً (ومن ثم سُمِّيت فلسفة هيجل «فلسـفة غنوصية»). وهكـذا تتحوَّل الإثنينية الصارمة إلى واحدية صارمـة. هذه المعرفة ستحرِّر الإنسان الإلهي من قيود الوجود المادي ومن الـزمن والطبيعـة ومن كل الأنفـس المخلوقة الأخرى ومن العـالم المخلـوق.
والغنوصية ذات أصول يهودية، وأصبحت بُعداً أساسياً في اليهودية الحاخامية وفي تراث القبَّالاه. ولكننا نذهب إلى أنها، في واقع الأمر، هي النموذج المتكرر والكامن وراء معظم (إن لم يكن كل) الفلسفات والأنساق الحلولية الكمونية الواحدية (الروحية والمادية) عبر التاريخ، ومن ذلك العلمانية الشاملة، وهي أهم تعبير عن الواحدية الكمونية وعن النزعة الطبيعية المادية وأكثرها تبلوراً، ولذا أصبحت كلمة «غنوصية» في اللغات الغربية عَلماً على المذاهب الباطنية وعلى الهرطقات الجـوهرية التي تقف على الطرف النقيض من العقائد السـماوية التوحيدية.
المرجع: كتاب/ موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية للدكتور عبد الوهاب المسيري.
مج:2/الطبعة الثانية 2005. الناشر: دار الشروق القاهرة.