وحدة الإحياءدراسات محكمة

العلم قبل القول والعمل

فِكْر الإنسان ووجدانه هما حلقة الوصل بين الوحي والكون وحقائقهما من جهة، وبين ذات الإنسان وواقعه من جهة ثانية. وعليه فإن حسن عيش الإنسان فردا واجتماعا فوق هذا الكوكب يتوقف على ثلاثة أضرب من السلامة والضبط والدقة والفاعلية:
1. سلامة وضبط ودقة وفاعلية المناهج التي تم بها بناء الفكر والوجدان وهندستهما؛
2. سلامة وضبط ودقة المناهج والمعارف التي يتم بحسبها الحوار مع الكون ومع الوحي والاستمداد منهما؛
3. سلامة وضبط ودقة وفاعلية مناهج وطرائق التجسير بين الفكر والواقع من خلال تنزيل ثمرات ما سلف.

ولئن تساوى الناس في الحق في الأخذ من الكون ومن الوحي وفي الحق في الوعي بهما، فإن تفاوتات كبيرة تقوم بينهم في الجوانب المنهاجية والتصورية والقيمية المعيارية، وهذه التفاوتات هي التي تتجلى في واقع الناس وتحدد مواقعهم في مصاف الأمم.. وفيما يلي من كلمات، محاولة جزئية للوقوف على جوانب من هذه الإشكالية (Problématique).

 1. سلامة وضبط ودقة وفاعلية المناهج والنماذج التي بها يتم بناء الفكر والوجدان وهندستهما.. فالتمثلات والرؤى وأضرب التوق الكامنة، بمثابة المفاعل التصوري الذي يصهر ويصنّف وينظم كل ما يرد على الإنسان من داخله أو يفد عليه من خارجه، وهو مفاعل له أهمية حاسمة في مجالات المعرفة والشعور إذ هو المحدد لطبيعتهما ووجهتهما..وقد بدأت كثير من الأبحاث المعرفية المعاصرة تولي هذه القضية اهتماما متزايدا، غير أنه لم يبلغ بعد درجة الكفاية التي ينم عنها ويؤشر عليها مدى عبور ثمرات هذه الأبحاث إلى المناهج والبرامج التربوية، وإلى الجوانب الفنية والإعلامية وكذا الإنتاجية. إن إرساء قواعد الفكر وأسس الوجدان وهندستهما يدخل بامتياز في ما نبه إليه القرآن الكريم حين الحديث لأول مرة تُعلمُ في تاريخ البشرية، عن صناعة الإنسان في كل من قوله تعالى في حقّ موسى عليه السلام (ولتصنع على عيني) (طه: 39) وقوله سبحانه: (واصطنعتك لنفسي) (طه: 41)، وهي صناعة تتم حسب مناهج ونماذج تختلف من حيث قدرتها على إطلاق طاقات الإنسان، ومن حيث الوجهة التي سوف تضيفها لهذه الطاقات، وهو اختلاف ناجم أساسا عن مدى استدماج هذه المناهج والنماذج للحقائق الموجودة في الكون مرجع الحركة، والوحي مرجع الوجهة، وتناسقها معها..

وقد أدى عدم إيلاء هذه القضية الأهمية اللازمة، إلى أن يكون بناء الفكر والوجدان في كثير من محطات تاريخ البشرية عشوائيا تلفيقيا، أو أحيانا تحكميا، مما أنتج وينتج مشاكل وآفات ليست بالقليلة.      

ورغم أن القرآن والسنة النبوية في فضائنا الحضاري غنيان بالبينات والإشارات الهادية بهذا الخصوص، فإنها لم تُتَلق بشكل كاف ومؤسس، وهو أمر وجب استدراكه.

2. سلامة وضبط ودقة المناهج التي يتم بحسبها الحوار مع الكون ومع الوحي والاستمداد منهما..
فالكون وفق المنظومة القرآنية مسخر للإنسان، وهو محيط به، متحاور معه باستمرار، حوارَ أمرٍ إذ هو مأمور بمقتضى وحي الله له بذلك (وأوحى في كل سماء أمرها) (فصلت: 12)، (يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها) (الزلزلة: 5)، والكون يُجري حواره الدائم مع الإنسان من خلال بنائيته وبيان آياته ومواءمته للإنسان، كما أن الوحي وفق المنظومة نفسها، مُيَسّر للإنسان، مُفصَّل قد صرّفت آياته وبُيّنت ورُتِّلت وفق نضد تكاملي بديع، وهو كريم يعطي السائل بحسب إقباله واستعداده، فهو إذن بهذا الاعتبار دائم الحوار أيضا مع الإنسان، استشعر ذلك من استشعره وذهل عنه من ذهل عنه. غير أن هذا الحوار من جهة الكون والوحي شطرُ الحوار فقط، ولا يكمل إلا بشروع الإنسان في الشطر الآخر وهو حواره الواعي معهما، والذي بمقتضاه يسائلهما ويستنطقهما منتجا بحواره مع الكون علوم التسخير التي تُمَكِّن من الحركة للعيش والارتفاق، ومنتجا بحواره مع الوحي علوم التيسير التي تُمَكِّن من الوجهة للسير والاهتداء، ولا رشاد للحركة الفاعلة إلا باقترانها بالوجهة السليمة، وكما أن سلامة وضبط ودقة مناهج الاستمداد من الكون تحتاج إلى تأهيل وهندسة وفق برامج وخطط متنامية عبر الجهد والزمن، فكذا مناهج الاستمداد من الوحي. غير أن الذهول عن هذه المقتضيات في مجال علوم التيسير بالذات، باد للعيان، مما وجب العمل الناجز لاستدراكه.

3. سلامة وضبط ودقة وفاعلية مناهج وطرائق التجسير بين الفكر والواقع نحو تنزيل سليم لثمرات ما سلف.. لا يخفى أن هذا التجسير أمر عملي إجرائي بامتياز يقتضي وضوحا في عناصره الثمانية، وهي: 1. التوجيه؛ هو الجانب الاستراتيجي التقديري. 2. التخطيط؛ هو عبارة عن تصميم في مجالات الإنسان والمجال والزمان والإمكان لبيان كيفية تنزيل هذه الاستراتيجيات على أرض الواقع، وبرامج ذلك وما يحف بها من إجراءات وضبط وتدقيق. 3. التشريع؛ وهو عبارة عن الشرائع والقوانين المؤطرة والميسّرة والحامية لعمليات التنزيل. 4. التنظيم؛ وهو عبارة عن كيفية تدبير سائر عمليات التنزيل والموارد البشرية والتقنية والمادية المعينة على ترتيب ذلك. 5. التعيين للمسؤولين عن هذا التنزيل أفرادا ومؤسسات، وفق مؤشرات وظيفية واضحة. 6. التمكين؛ فلا معنى للتعيين دون منح الإمكانات المادية والمعنوية المسعفة في القيام بوظائف ومقتضيات التنزيل. 7. الإنجاز؛ أي لكل ما سلف. 8. التقويم؛ وهو الذي يمكّن من النظر في ثمرات هذا التنزيل وتطويرها.

وواضح أن هذه المناهج والطرائق تحتاج في عالمنا عامة وفي عالمنا الإسلامي خاصة إلى مزيد من الضبط والتدقيق والتّفعيل، فنحن هنا أمام آفاق أُنُفٍ لفقه التنزيل، آفاق لم يستمر ارتيادها بشكل كاف، مما وجب أيضا استدراكه في المجالات العلمية والعملية.

إن ما يُستمدّ من الوحي كما من الكون مرتهن بالمعمار الفكري والوجداني للمستمِدّ، وبمناهج الاستمداد، وكذا بمناهج تنزيل ثمرات هذا الاستمداد. وهو ورش ثلاثي لا شك أنه يستلزم في عالمنا الإسلامي أعمالا كثيرة مستأنفة.

الدكتور أحمد عبادي

• الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق