مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكشذور

العلم المعتبر شرعا

يقول الإمام الشاطبي رحمه الله:

“العلم الذي هو العلم المعتبر شرعا – أعني الذي مدح الله ورسوله أهله على الإطلاق – هو العلم الباعث على العمل الذي لا يخلي صاحبه جاريا مع هواه كيفما كان، بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه، الحامل له على قوانينه طوعا أو كرها ومعنى هذه الجملة أن أهل العلم في طلبه وتحصيله على ثلاث مراتب :
           المرتبة الأولى : الطالبون له ولما يحصلوا على كماله بعد، وإنما هم في طلبه في رتبة التقليد فهؤلاء إذا دخلوا في العمل به، فبمقتضى الحمل التكليفي، والحث الترغيبي والترهيبي. وعلى مقدار شدة التصديق يخف ثقل التكليف . فلا يكتفي العلم ههنا بالحمل، دون أمر آخر خارج مقوله، من زجر، أو قصاص، أو حد، أو تعزير، أو ما جرى هذا المجرى. ولا احتياج ههنا إلى إقامة برهان على ذلك، إذ التجربة الجارية في الخلق قد أعطت في هذه المرتبة برهانا لا يحتمل متعلقه النقيض بوجه.
           والمرتبة الثانية: الواقفون منه على براهينه، ارتفاعا عن حضيض التقليد المجرد، واستبصارا فيه، حسبما أعطاه شاهد النقل، الذي يصدقه العقل تصديقا يطمئن إليه، ويعتمد عليه، إلا أنه بعد منسوب إلى العقل لا إلى النفس، بمعنى أنه لم يصر كالوصف الثابت للإنسان، وإنما هو كالأشياء المكتسبة، والعلوم المحفوظة، التي يتحكم عليها العقل، وعليه يعتمد في استجلابها، حتى تصير من جملة مودعاته. فهؤلاء إذا دخلوا في العمل خفّ عليهم خفة أخرى زائدة على مجرد التصديق في المرتبة الأولى، بل لا نسبة بينهما. إذ هؤلاء يأبى لهم البرهان المصدق أن يكذبوا، ومن جملة التكذيب الخفي، العمل على مخالفة العلم الحاصل لهم، ولكنهم حين لم يصر لهم كالوصف، ربما كانت أوصافهم الثابتة من الهوى والشهوة الباعثة الغالبة أقوى الباعثين. فلا بد من الافتقار إلى أمر زائد من خارج. غير أنه يتسع في حقهم فلا يقتصر فيه على مجرد الحدود والتعزيرات، بل ثم أمور أخر كمحاسن العادات، ومطالبة المراتب التي بلغوها بما يليق بها وأشباه ذلك. وهذه المرتبة أيضا يقوم البرهان عليها من التجربة. إلا إنها أخفى مما قبلها، فيحتاج إلى فضل نظر موكول إلى ذوي النباهة

في العلوم الشرعية، والأخذ في الاتصافات السلوكية.
           والمرتبة الثالثة: الذين صار لهم العلم وصفا من الأوصاف الثابتة، بمثابة الأمور البديهية في المعقولات الأول، أو تقاربها، ولا ينظر إلى طريق حصولها، فإن ذلك لا يحتاج إليه، فهؤلاء لا يخليهم العلم وأهواءهم إذا تبين لهم الحق، بل يرجعون إليه رجوعهم إلى دواعيهم البشرية، وأوصافهم الخلقية “.

            وهذه المرتبة هي المترجم لها، والدليل على صحتها من الشريعة كثير، كقوله تعالى: (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه)، ثم قال: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) الآية، فنسب هذه المحاسن إلى أولي العلم من أجل العلم لا من أجل غيره وقال تعالى: (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم)، والذين يخشون ربهم هم العلماء، لقوله: (إنما يخشى الله من عباده العلماء)، وقال تعالى: (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق) الآية، ولما كان السحرة قد بلغوا في علم السحر مبلغ الرسوخ فيه، وهو معنى هذه المرتبة، بادروا إلى الانقياد والإيمان، حين عرفوا من علمهم أن ما جاء به موسى عليه السلام حق، ليس بالسحر ولا الشعوذة، ولم يمنعهم من ذلك التخويف ولا التعذيب الذي توعدهم به فرعون. وقال تعالى: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون)، فحصر تعقلها في العالمين، وهو قصد الشارع من ضرب الأمثال. وقال: (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى) ثم وصف أهل العلم بقوله: (الذين يوفون بعهد الله) إلى آخر الأوصاف، وحاصلها يرجع إلى أن العلماء هم العاملون، وقال في أهل الإيمان – والإيمان من فوائد العلم: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) إلى أن قال: (أولئك هم المؤمنون حقا)، ومن هنا قرن العلماء في العمل بمقتضى العلم بالملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فقال تعالى: ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هوفشهادة الله تعالى وفق علمه ظاهرة التوافق، إذ التخالف محال، وشهادة الملائكة على وفق ما علموا صحيحة، لأنهم محفوظون من المعاصي، وأولو العلم أيضا كذلك من حيث حفظوا بالعلم، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم إذا نزلت عليهم آية فيها تخويف أحزنهم ذلك وأقلقهم، حتى يسألوا النبي صلى الله عليه، وسلم كنزول آية البقرة: (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه) الآية، وقوله: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ) الآية، وإنما القلق والخوف من آثار العلم بالمنزل. والأدلة أكثر من إحصائها هنا. وجميعها يدل على أن العلم المعتبر هو الملجىء إلى العمل به”.

الموافقات في أصول الشريعة

 للإمام أبي اسحاق الشاطبي المالكي (ت 790).

1/47 -1/48.

تحقيق فضيلة الشيخ عبد الله دراز
دار الكتب العلمية بيروت.                                     

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق