مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةأعلام

العارف بالله: الشيخ أحمد التجاني مؤسس الطريقة التجانية

حورية بن قادة باحثة مساعدة بمركز الإمام الجُنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة.

في مقام الحضور والمشاهدة، تتوالى أنوار التجلي الإلهي على قلب العارف، وتنكشف غيوم الأستار عن سماء الحقيقة، فيفنى المشاهد بسره في معاينة الجمال القدسي، وعندئذ تسطع شموس المعارف والإلهامات في ساحة القلب، ويتوالى الإمداد والإشراق مع دوام التجلي...، إنه مقام أهل الصدق والإخلاص من خواص الحق تعالى المقربين، وأوليائه العارفين، ﴿رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون﴾.[1]

ومن بين هؤلاء الشوامخ، والشيوخ الواصلين، الشيخ العارف، القدوة الكامل، القطب الجامع، والغوث النافع: أبو العباس أحمد بن الولي الكبير العالم الخير أبو عبد الله محمد (فتحا) بن المختار بن أحمد بن محمد (فتحا) ابن سالم الشريف الحسني الكاملي التجاني، يرفع نسبه إلى الإمام محمد  الملقب بالنفس الزكية ابن مولانا الحسن ابن مولانا علي- كرم الله وجهه-.[2]

ولادته ونشأته:

ولد- رضي الله عنه- سنة خمس ومائة وألف بقرية "عين ماضي"- وهو موطن أمه السيدة عائشة السنوسية التي تنسب إلى عشيرة "تجان" بصحراء الجزائر، والتي نزح إليها أحد أجداده قادما إليها من ناحية آسفي بالمغرب الأقصى، ونشأ بها في عفاف وأمانة، وحفظ وصيانة، وتقى وديانة، محفوظا بحفظ الله سبحانه، محروسا بالعناية، محفوظا بالرعاية، كريم الأخلاق والخلال، مقبلا على الجد والاجتهاد، مائلا إلى العزلة والانفراد، مشتغلا بالقراءة، معتادا للتلاوة، فحفظ القرآن الكريم في صغره حفظا جيدا وهو ابن سبعة أعوام...[3]

علمه ومجاهدته:

كان فقيها مالكيا، اشتغل بطلب العلوم الأصولية والفروعية والأدبية حتى رأس فيها، وحَصّل أسرار معانيها، وقرأ على الشيخ المبروك بن أبي عافية التجاني المضاوي مختصر خليل، والرسالة، ومقدمة ابن رشد، والأخضري، فكان يُدرس ويُفتي.[4]

كما كان- رحمه الله تعالى- من العلماء العاملين، والأئمة المجتهدين، ممن جمع بين شرف الجرثومة والدين، وشرف العلم والعمل اليقين، والأحوال الربانية الشريفة، والمقامات العلية المنيفة، والهمة العالية السماوية، والأخلاق الزكية الرحمانية، والطريقة السنية، والعلم اللدني، والسر الرباني النافذ التام،  فكان الوارث الجامع، المربي النافع، الدال على الله بحاله ومقاله، الداعي إليه بإذنه بخلاله وفعاله...[5]

وأما مجاهدته- رضي الله عنه- فلا خلاف بين أئمة العصر وممن أدركه أنه كان من المصطفين من عباد الله، وممن نشأ في طاعة الله تعالى، فقد كان من المجتهدين في الدين والخائفين من رب العالمين، محافظا على التقوى والورع، باذلا مجهوده في ذلك، قابضا عنان الخوض فيما لا يعنيه، سالكا أشرف المسالك، إلا أنه بعدما شبّ وترعرع وتضاعف نور قلبه، وجاءه الفتح المبين من ربه، قاده التوفيق الرباني إلى البحث عن السر الإلهي الصمداني، فاشتغل بمطالعة كتب القوم بالانكباب عليها، والتدريس للعلوم، والإفادة بها، حتى انقطع إلى الله تعالى وتاقت همته بالله، فرفض جميع العلائق، فزاده ذلك نورا على نور، وارتقى لشهوده مرتبة أرباب الصدور، وأخذ الطريق عن أربابها، فاستوجب بذلك الوراثة والإمامة، فلم يتقدم في عصره أحد أمامه، كما قيل:

                  فأصبح عين الوقت والقول قوله              ولا أحد في الناس يبلغ قدره[6]

من شيوخه وتلامذته:

  وقد كان السيد أحمد التجاني من أعظم الأئمة، ممن أجمع العلماء على تعظيمه وتوقيره واحترامه من غير مدافع ولا منازع من أرباب الصدق، وإليه انتهت رئاسة هذا الشأن في تربية السالكين، وتهذيب المريدين، ولم يكن أحد قد بلغ ما بلغ رضي الله عنه...

ومن شيوخه الذين تتلمذ عليهم في قرية عين ماضي: العارف مبروك بن بوعافية المضاوي التجاني، ولما بلغ الحادية والعشرين من عمره، رحل إلى المغرب- موطنه الأصلي-، فالتقى هناك ثلة من شيوخ التصوف، وأخذ عن علماء القرويين بفاس، وبقي يجول بقصد الزيارة والبحث عن أهل الخير والصلاح...، وأول من لقي حينئذ من المشايخ الكُمّل: القطب الطيب الوازاني بوازن، وتبرك به، وأخذ عنه، وأذن له في تلقين الأوراد، إلا أنه امتنع من التلقين لاشتغاله بنفسه، ولقي أيضا القطب أحمد الصقلي، إلا أنه لم يأخذ عنه شيئا، ولقي الولي الصالح محمد بن الحسن الوانجلي- من بني وانجل من جبال الزبيب- وتبرك به ولم يأخذ عنه، ولقي بفاس العارف بالله العربي ابن عبد الله معن الأندلسي، وتبرك به ودعا له بالخير، ثم أخذ الطريقة القادرية على بعض المشايخ، ليتحول عنها إلى الطريقة الناصرية التي أخذها عن الولي الصالح محمد بن عبد الله التزاني، الشهير بالريف، ثم تركها بعد حين أيضا، ثم أخذ طريقة القطب أحمد الحبيب السجلماسي الصديقي عن بعض من له الإذن فيها...، ثم انتقل من المغرب قاصدا بلد الأبيض في ناحية الصحراء، حيث ضريح الولي الكبير والقطب الشهير عبد القادر بن محمد الملقب بسيدي الشيخ، ومكث هناك خمسة أعوام مشتغلا بالقراءة والعبادة والتدريس والتلاوة...، ثم ارتحل منها إلى تلمسان وأقام بها مدة يدرس فيها التفسير والحديث وغيرهما، ويعبد ربه تبارك وتعالى، إلى أن لاحت عليه بوارق الفتح ومباديه، وظهر عليه من الخوارق ما دان له به شانيه ومعاديه، وذلك أوائل سنة إحدى وثمانين ومائة وألف...، ثم انتقل من تلمسان قاصدا الحج سنة ست وثمانين، فمرّ بتونس، فحبسته الأقدار هناك سنة كاملة، ثم بعدها حجّ وزار سنة سبع وثمانين، ولم يزل يبحث في طريقه عن العلماء والأخيار، ويتبرك بهم في سائر النواحي والأقطار، حتى تبرك بعدد كثير منهم، فلقي بزواوة الشيخ أبا عبد الله سيدي محمد (فتحا) ابن عبد الرحمن الأزهري، وأخذ عنه الطريقة الخلوتية، وهو أخذها عن الشيخ الحفناوي، وبتونس الشيخ عبد الصمد الرحوي، وبمصر الشيخ محمود الكردي المصري العراقي وأخذ عنه، وأخذ أيضا بمكة عن الشيخ أبي العباس أحمد بن عبد الله الهندي المكي،  ثم لما رجع من حجه ووصل تلمسان سنة ثمان وثمانين، أقام بها مجتهدا في العبادة والدلالة على الله تعالى...، ثم سافر منها إلى مدينة فاس بقصد زيارة قطبها وقطب المغرب بأسره المولى إدريس رضي الله عنه، وذلك سنة إحدى وتسعين، فوصل إليها وزاره، وبقي فيها يتردد لزيارته مدة، ثم رجع إلى تلمسان وأقام بها مدة، ثم ارتحل منها لناحية الصحراء سنة ست وتسعين، ونزل بقرية القطب الكبير السيد أبي سمغون، ثم سافر منها إلى بلاد توات، فلقي بعض الأولياء بها، منهم: سيدي محمد الفضيل، وأخذ عنهم بعض الأمور الخاصة، واستفادوا منه علوما وأسرارا في الطريق، ثم رجع إلى قرية أبي سمغون وأقام بها واستوطنها، وفيها وقع له الفتح الكبير... [7]

وبعد هذه المرحلة، رجع التجاني إلى موطنه الأصلي بالمغرب وهو يحمل رسالة الطريقة الخلوتية التي أخذها عن الشيخ الإمام العارف أبا عبد الله محمد بن عبد الرحمن، ولقنها لجملة من تلامذته وأتباعه، وفي مقدمتهم: علي برادة الذي التقى به بتلمسان وانتقلا معا إلى فاس عام 1191ھ، ثم منها إلى زاويته بـ"أبي سمغون" لإرشاد العباد مقبلا على العبادة وفق شروط وأسس الطريقة الجديدة...[8]

بعض من كلامه وأقواله:

وكلامه- رضي الله عنه- وأقواله هي عبارة عن أجوبة على أسئلة كان يطرحها عليه تلامذته، ومن أبرزهم علي حرازم برادة، وله رضي الله عنه كلام في شتى المعارف والأذواق لا يعد ولا يحصى، نذكر منه على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:

فقد سئل- رضي الله عنه- عن علم التصوف ما هو؟ فأجاب بقوله: "اعلم أن التصوف هو امتثال الأمر، واجتناب النهي في الظاهر والباطن من حيث يرضى لا من حيث ترضى.[9]

وقال مرة عندما سئل عن معنى الولاية والولي: "الولاية عامة وخاصة، فالعامة: هي من آدم عليه السلام إلى عيسى عليه السلام، والخاصة هي من سيد الوجود صلى الله عليه وسلم إلى الختم، والمراد بالخاصة من اتصف صاحبها بأخلاق الحق الثلاثمائة على الكمال، ولم ينقص منها واحدا، كما قيل: إن لله ثلاثمائة خلق من اتصف بواحد منها دخل الجنة، وهذا خاص بسيد الوجود صلى الله عليه وسلم ومن ورثه من أقطاب هذه الأمة الشريفة...[10]

وسئل- رضي الله عنه- عن حقيقة الشيخ الواصل ما هو؟ فأجاب بقوله: "أما حقيقة الشيخ الواصل، فهو الذي رفعت له جميع الحجب عن كمال النظر إلى الحضرة الإلهية نظرا عينيا وتحقيقا يقينيا، فإن الأمر أوله محاضرة، وهو مطالعة الحقائق من وراء ستر كثيف، ثم مكاشفة وهو مطالعة الحقائق من وراء ستر رقيق، ثم مشاهدة وهو تجلي الحقائق بلا حجاب لكن مع خصوصية، ثم معاينة وهو مطالعة الحقائق بلا حجاب ولا خصوصية، ولا بقاء للغير، وهو مقام فناء الفناء، فليس في هذا إلا معاينة الحق في الحق للحق بالحق...[11]

لقد جمع مترجمنا بين علو الهمة وحفظ الحرمة ونفوذ العزم، وحفظ الشريعة وحدودها، ونفي إرادته وقطع الحظوظ والعلائق عن نفسه، فانقطع إلى الله بمراعاة حقه، فانكشفت له الحقائق، وعمل على نفي الرخص والتأولات، وشمر عن ساعد الجد، وكف نفسه ما لا يعنيه، وتمسك بالكتاب والسنة، وما درج عليه سلف الأمة، وتوجه بكليته إلى الله تعالى، فكفاه عما سواه...

وهكذا عمل على غرس هذه القيم والأخلاق والآداب الإسلامية الفاضلة في نفوس مريديه، وبذلك استطاعوا أن يبنوا مجتمعا تسود فيه روح الفضيلة والمودّة والمحبّة، وغيرها من صفات حميدة ساعدت في تماسك المجتمع، وتثبيت دعائم التكافل الاجتماعي فيه، فتأثّر بهم من حولهم من الناس فالتحقوا بركبهم، وهذا الأمر ساعد كثيرا على نشر هذه الطريقة في أنحاء مختلفة من بقاع العالم،  فانتشرت طريقته رضي الله عنه في بلاد المغرب والسودان، وسائر جهات إفريقيا انتشارا عظيما لم تنتشره طريقة غيرها في تلك الجهات، وحصل بها النفع العظيم والإرشاد التام.

وفاته:

توفي رحمه الله تعالى صبيحة يوم الخميس سابع عشر شوال الأبرك سنة ثلاثين ومائتين وألف، وحضر جنازته من لا يحصى من علماء فاس وصلحائها وأعيانها وفضلائها وأمرائها، وصلى عليه إماما: الفقيه العلامة أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الدكالي، وازدحم الناس على حمل نعشه، ودفن بزاويته المشهورة من حومة البليدة، وضريحه بها مشهور معظم، مزار، متبرك به.[12]

ومن أراد الاطلاع على التعريف به وبطريقته وما يناسب ذلك من فوائد الفوائد، فعليه بكتاب: "جواهر المعاني" لتلميذه علي برادة، وكتاب: "الرماح" المطبوع على هامشه لسيدي عمر الفوتي خليفة خليفته رضي الله عنهم أجمعين ونفعنا ببركاتهم آمين.

 

الهوامش:

 

[1]- سورة المجادلة، الآية: 28.

[2]- سلوة الأنفاس، أبو عبد الله محمد بن جعفر بن إدريس الكتاني (1274-1345ھ)، تحقيق: عبد الله الكامل الكتاني، وحمزة بن محمد الكتاني، ومحمد بن حمزة بن علي الكتاني، دار الثقافة، الدار البيضاء، ط1، 1425ھ-2004م، 1/196.

[3]- المصدر السابق، 1/24.

[4]- شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، محمد بن محمد مخلوف (ت1360ھ)، تحقيق: علي عمر، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط1، 1428ھ-2007م، 2/379.

[5]- جواهر المعاني وبلوغ الأماني، علي حرازم ابن العربي براده، تحقيق: عبد اللطيف عبد الرحمن، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1417ھ-1997م، 1/23.

[6]- المصدر السابق، 1/29.

[7]- سلوة الأنفاس، أبو عبد الله محمد بن جعفر بن إدريس الكتاني، 1/197-198.

[8]- الإحياء والتجديد الصوفي في المغرب، أحمد بوكاري، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، مطبعة فضالة، المحمدية، ط1، 1427ھ-2006م، 2/11-12.

[9]- جواهر المعاني، 2/286.

[10]- المصدر السابق، 2/286.

[11]- نفسه، 1/117.

[12]- سلوة الأنفاس، 1/199.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق