مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

السياسة الأخلاقية: مفهوم الحرية نموذجا

السياسة الأخلاقية: مفهوم الحرية نموذجا*[1]

لاشك أن تطور النظريات والتصورات الفكرانية مرتبط بتباين المنطلقات القيمية، فتأخذ المفاهيم والممارسات كينونة خاصة داخل مجالات التداول العامة، الأمر الذي ينبغي التفطن معه إزاء توظيف المفاهيم والدلالات وإسقاطها داخل بيئات تختلف في ثوابتها عن تلك المتواجدة داخل فكرانيات مغايرة، مما يستدعي العمل على توطين المصطلحات والمفاهيم بما يحصن الذات الإسلامية من الانسلاخ وراء مرجعيات مفصولة عن أصولها الدينية، وهو ما تنبه إليه أحد أعلام الفكر الفلسفي في المغرب الدكتور طه عبد الرحمان، الذي عمل على إعادة قراءة التراث الفلسفي وتفكيك عناصره الجوهرية، وتحديد معالمه الأساسية، نحو صياغة فلسفة أخلاقية إسلامية يكون لها من قوة الصناعة والإبداع ما تنأى به عن تقليد غيرها.

   استعرض الفيلسوف المجدد التصورات العامة الحديثة للحرية، مبرزا المحددات المفهومية لكبرى المرجعيات المؤثرة في السياسة العامة لدول العالم، وذلك من خلال وضع أحد المفاهيم الأساسية الأكثر تداولا ضمن المطالب الحقوقية بالنسبة للشعوب، على اختلاف المرجعيات التي تؤسس لهذا المطلب الحيوي، وقد شاء الأستاذ إلا أن يفصح عن مكنون الدلالات التي يتضمنها مصطلح الحرية، عبر تقويم الانحرافات التي وقعت فيها أكبر التيارات الفكرية في الفلسفة السياسية الحديثة، وهي اللبيرالية والديمقراطية والجمهورية والإشتراكية. بإبراز التصور الحقيقي للحرية من منطلق الدين الإسلامي، والطرق الكفيلة للنهوض باستعداد الأفراد والجماعات للوصول إلى تمثل مدلول الحرية وفق مقاربة تزكوية، سبيلها الاستغراق في العمل التعبدي على وجه الإخلاص، والتوجه الكلي للمولى عز وجل، بإسقاط الحظوظ العاجلة وإفراغ المحل من الرغبات الحاجبة لنور الإدراك، وهو العمل الذي يحرر إرادة الباحث على أن تتسلط عليها إرادة الغير، ويخلصه من تبعيته.

 وحتى يتمكن الأستاذ الفيلسوف من مراجعة التصورات الفكرية لمفهوم الحرية داخل هذه التيارات الفلسفية الحديثة، لابد من وضع قوانين محددة تكشف عن مدى الانحرافات التي تستبطنها التوجهات المعلن عنها، ومناقضتها لما ينبغي أن يكون عليه الحال بالنسبة لكل عامل في مجال تداولي يأخذ بأسباب الدين المنزل: وهي كالتالي:

*   قانون التذكر: يقتضي هذا القانون أن من تذكر الله تذكره الله، ومن نسي الله نسيه ، وأنساه نفسه.

*   قانون التأنيس: أن الفرد لا يكون له من الإنسانية إلا بقدر ما يتصف به من الأخلاق المستمدة من الفطرة التي خلق عليها.

*   قانون التناهي: يقتضي أن الإنسان تبقى على الدوام تابعة للقدرة الإلهية.        

1- الحرية الليبرالية: مقتضاها هي أن لا يتدخل أحد في فعل ما تريد حيث سكت القانون.  

أ- مخالفة قانون التذكر: نسيان التبعية الأصلية والانسياق وراء التبعية المادية المتمثلة في الاستعباد لشهوة السوق.

ب- مخالفة قانون التأنيس: مقتضاه أن الحرية بالنسبة للبيرالي هي ما يحدده الإنسان بنفسه، وليس ما هو مفروض عليه من الخارج، باعتبار أن الأخلاق الموروثة عن الكنيسة أوالمجتمع أو الدولة هي أخلاق تحكم وتحجر،  تُضَيِّقُ على الإنسان مساحات حريته، وإذا كان التصور اللبيرالي يعطي للفرد تحديد نوعية الحريات التي يريد تحقيقها، فإن هذا التوجه المفصول عن الدين يفضي إلى البحث عن مرجعية أخرى يستمد منها اللبيرالي تصوراته، ولن يكون ذلك إلا محض الشهوة، على أن إرادة الليبرالي في جعل نفسه مصدرا شرعيا، ومحل تأليه للذات الإنسانية، انقلب إلى استعباد لها، بحيث وقعت تحت سطوة شهوة التمتع المادي، فعوض أن يتشوف الإنسان إلى القيم التي تسمو بروحه، انحدر إلى حضيض المطالب المادية الصرفة.   

ج- مخالفة قانون التناهي: مقتضاه أن اللبيرالي يتوهم أنه سيد نفسه، ولاشيء يتحكم في قراراته واختياراته، والواقع أن هناك ضغوطات خارجية وداخلية تتحكم في توجيه إرادة الإنسان، حيث يكون مضطرا لا مختارا.

2- الحرية الجمهورية: هي أن لا يتسلط عليك أحد ولو جاز له أن يتدخل في فعل ما تريد.

أ- مخالفة قانون التذكر: نسيان السيادة للحق تعالى وإسنادها للشعب.

ب- مخالفة قانون التأنيس: أن التصور الجمهوري للحرية ثم تأسيسها على الفكر السياسي للفيلسوف الإيطالي ميكافيل الذي اشتهر بكونه أول من دعى بأنه لا صلة بين السياسة والأخلاق.

ج- مخالفة قانون التناهي: أن الجمهوري يعتبر القانون مصدر إقامة الحريات، وأن التشريعات القانونية هي التي تولد فضاءات الحرية.

3- الحرية الديمقراطية: الحرية أن تشارك في تدبير الشأن العام.

أ- مخالفة قانون التذكر: نسيان أن السيادة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وإسنادها إلى الشعب، الذي يقرر بمحض إرادته القوانين التي يريدها لنفسه، باعتباره مصدر السلطة التشريعية في الدولة، إلا أن القرارات التي تتأسس عليها الديمقراطية تتبع فيها قاعدة الأغلبية، بحيث إن الأقليات الممتنعة تقع في استبداد الأغلبية.

ب- مخالفة قانون التأنيس: إن الحرية الديمقراطية قامت على مبدأ التعاقد الاجتماعي، بحيث إن حياة الجماعة تمت عبر تعاقد جماعي للأفراد، تنازل بموجبه كل واحد منهم إلى سلطة المؤسسة، مقابل ضمان المحافظة على حياتهم، وعليه فإن الحرية الديمقراطية قطعت صلتها بأي أخلاق يمكن للإنسان أن يكون مفطورا عليها، وأسندتها إلى أخلاق وضعية تستمد شرعيتها من الإجماع بين المتعاقدين.

ج- مخالفة قانون التناهي: اعتبر الديمقراطي أنه بإمكان هذا التعاقد الجماعي أن يرفع نسبة المشاركة السياسية والإلزام السياسي، كما اعتقد أن بقدوره أن ينمي الثقة لديهم في النخب السياسية إلا أن الأمر كان على خلاف ذلك، بل إن جملة من الآراء المتعاقد بشأنها تحمل مضامين فاسدة، فتقع الجماعة تحت سلطة الهوى والشهوة.

4- الحرية الاشتراكية: أن تحصل القدرة على المشاركة في تدبير الشأن العام.  

أ- مخالفة قانون التذكر: نسيان أن السيادة لله تعالى فلم تسندها إلى عامة الشعب موافقا أو منازعا كما هو في التصور الديمقراطي والجمهوري، وإنما إلى الطبقة الكادحة أو –البروليتاليا- باعتبارها تتعرض للاستغلال والاستلاب الديني والاقتصادي والسياسي.

 ب- مخالفة قانون التأنيس: اعتبرت الاشتراكية أن الدين عبارة عن جملة من الأفكار والأحكام الوهمية كما حدد ذلك ماركس، على أن الظروف التي واجهت الإنسان أضعفت قدرته، وجعلته يستند إلى عالم الغيبيات تنفيسا عن سوء حاله، وفي رفض الأخلاق المشدودة بالوحي فتح لمجال الأخلاق الوضعية التي هي متغيرة على حسب الاتجاهات والمصالح التي تبدوا للمتعاقدين.

قانون التناهي: أن الأهداف التي قامت عليها الاشتراكية من تغيير المجتمع اقتصاديا، وإقامة ثورة جذرية تنمحي من خلالها الطبقية المجتمعية، لم يتم تحقيقها على أرض الواقع، إذ سرعان ما اصطدمت هذه الاشتراكية بصلابة الواقع، ووقعت في نقيض ما كانت تصبو إليه، حيث اضطرت أن تسلم نفسها لحزب واحد يتولى قيادتها، الذي ما لبث أن أقام دولة مركزية استبدت بكل السلطات، وأنشأت مجتمعا مجندا لخدمتها.

الملاحظ أن هذه التصورات للحرية تتفق على حمل مفهوم الحر على معنى السيد، بحيث إن المواطن لا يكون حرا إلا إن سيدا، فالحرية الديمقراطية والاشتراكية عبارة عن إثبات سيادة الذات على نفسها، والحرية الليبرالية والجمهورية عبارة عن نفي سيادة الغير على الذات، وقد توهمت هذه التوجهات أن للإنسان القدرة أن يختار سلوكه، وكونه متحكما في كلية نفسه، ودرج المؤلف يحدد تعريفا خاصا للحرية، وهي أن تتعبد للخالق باختيارك وأن لا يستعبدك الخلق في ظاهرك أو باطنك.

وللخروج من آفات هذه التوجهات الفكرانية عمل الدكتور طه عبد الرحمان على تبني مقاربة تزكوية، يتم بموجبها محو تلك الانحرافات التي أصابت هذه التصورات، وذلك بإعادة تشكيل مفهوم الحرية وفق رؤية أخلاقية يأخذ فيها مفهوم الحرية مدلولا خاصا لا يتناقض مع مقومات الدين السماوي، بحيث يستبدل النسيان بالتذكر والبتر الأخلاقي بالاستئناس، والوهم باليقين بأن القدرة الإنسانية تبقى تابعة للقدرة الإلهية.   

 قراءة في كتاب سؤال العمل، الفصل الرابع المعنون بالعمل الديني وأخلاق الحرية.  *

[1]– سؤال العمل بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم، المركز الثقافي العربي، ط. الأولى: 2012.

د. طارق العلمي

  • أستاذ باحث في الرابطة المحمدية للعلماء، متخصص في المجال الصوفي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق