مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

الرؤية للتصوف.. بين النظر التاريخي الاجتماعي والنظر الأصولي الشرعي

د. احمد غاني، باحث متخصص في علم الأصول ومقاصد الشريعة

   تتعدد المقاربات في الفكر الإسلامي للتصوف، فمن مقاربة شرعية نصية إلى مقاربة أصولية مقاصدية إلى مقاربة لغوية إلى مقاربة أدبية إلى مقاربة تاريخية اجتماعية إلى غير ذلك من المقاربات، ومعنى التصوف الذي يتحدد أكثر من خلال دوره يختلف من مقاربة لأخرى. ولكن هدفنا في هذا المقال هو مقاربة تكامل معنى التصوف بتحديد دوره انطلاقا من النظر التاريخي الاجتماعي ومن النظر الأصولي الشرعي. وحتى هذا الأفق المقارباتي فإنه واسع لا يسمح مثل هذا المقال به، لذلك سنكتفي بنموذجين متميزين يمكن أن ندرك من خلالهما موقف هذين النظرين من التصوف، بل وأن نكتشف من خلالهما مظاهر من الإبداع في الرؤية للتصوف وموقعه في المجتمع، وهذان النموذجان هما ابن خلدون بالنسبة للنظر التاريخي الاجتماعي والشاطبي بالنسبة للنظر الأصولي الشرعي. هذان النموذجان اللذان كانا متعاصرين. فقد شكل الشاطبي وابن خلدون أنموذجا في هذا التكامل المعرفي لفقه التصوف وموقعته في المجتمع الإسلامي.

مدخل تمهيدي

   لابد أن نشير أولا إلى الإطار التاريخي الذي نشأ فيه النموذج الخلدوني، فقد جاء في فترة يمكن أن نجزم فيها بأن التصوف في المغرب أخذ بعده المجتمعي، ولم يكن فقط ظواهر فردية معزولة تتمثل في هذا الرباط هنا وتلك الزاوية هناك، ونقصد بهذا الإطار دولة بني مرين. غير أنه من المفيد في البداية أن نرفع هذه المغالطة التاريخية التي يلوح بها البعض والتي يريد من خلالها أن يجرنا نحو الرؤية الإيديولوجية للتصوف التي تشوه كل معالم الصرح الصوفي، ونقصد بذلك ما يقال من أن التصوف لا يظهر إلا في عصر الأزمات. نعم من المسلم به أن فترة المرينيين بالمغرب، وهو المجال الذي تحرك فيه ابن خلدون كثيرا، لم تكن فترة استقرار، كما أن الأندلس موطن الشاطبي كانت تعيش التشرذم والتشتت والقلاقل، ولكن ما يجب أن ننتبه إليه هو أن انتشار التصوف وأخذه للصبغة الاجتماعية لم يكن وليد الطفرة، بل كان نتيجة تطور تاريخي توسعي خلال قرنين قبل ذلك، أي في فترة أوج قوة الدولة المغربية. إذ يمكن رصد ظاهرة انتشار التصوف من خلال المراجع والمصادر التاريخية بداية من القرن السادس الهجري .

– لقد اتخذ التصوف أسسه القوية خلال ق 6هـ والذي يعتبره المؤرخون قرن التصوف بامتياز. ويمكن الرجوع في هذا الجانب إلى:

كتاب محمد بن عبد الكريم التميمي (ت 603هـ/ 1206م): المستفاد في مناقب العباد بمدينة فاس وما يليها من البلاد.

كتاب ابن زيات التادلي (ت 627ه/1229م): التشوف إلى رجال التصوف. الذي تحدث فيه عن رجالات التصوف في القرن 6 هـ، و سنكتشف من خلاله أن التصوف صار تصوف مجتمع ككل بدليل كثرة التراجم لرجال التصوف من علماء وعامة، وبالتالي صار التصوف ظاهرة اجتماعية. وتوجد مؤلفات أخرى يضيق المجال عن ذكرها.

أما بالنسبة للعصر المريني فيمكن الرجوع إلى الكتب الآتية:

– كتاب أحمد العزفي (ت 716هـ/ 1317م): “دعامة اليقين في زعامة المتقين”

– كتاب ابن قنفذ القسنطيني (ولد في حدود سنة 740 هـ): “أنس الفقير وعز الحقير.”

– كتاب ابن أبي زرع الفاسي(726 هـ/1326 م): “الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية”

– كتاب محمد بن مرزوق التلمساني(ت 781 ه/ 1379): “المسند الصحيح الحسن في مآثر مولانا أبي الحسن.”

إن هذه المراجع التاريخية تؤكد لنا ما سبق أن أشرنا إليه من أننا أصبحنا أمام ظاهرة تصوف المجتمع، بل وتصوف أعلى الهرم في السلطة ، ونشير بسرعة لما يؤكد ذلك :

– سيظهر التصوف المجتمعي جليا مع الدولة المرينية حيث سينتسب الفقهاء إلى التصوف.

–  انتسب الملوك المرينيون أنفسهم للولاية وللصلاح.

– السلطان عبد الحق المريني كان كثير الأوراد والأذكار، وإذا سمع بصالح أو عالم، قصده لزيارته.

– كان السلطان أبو سعيد المريني معظماً للعلماء موقراً للصالحين يتواضع بين أيديهم.

– ذكر ابن مرزوق لقاء السلطان أبي الحسن المريني بالشيخ عثمان بن أبي عفيف من صوفية أحواز مراكش، فقال عن الأمير بأنه تزحزح له، وأزال المخدة عن يمينه، وأجلسه إلى جانبه، ثم قال السلطان في حقه :”هذا رجل تعلق بجناب الله فوجب إكرامه”.

– حاول السلطان أبو عنان أن يتصل بالشيخ الصوفي أبي العباس ابن عاشر، وتعذر اللقاء بينهما، وعبر السلطان أبو عنان عن أسفه لعدم اللقاء. فوجه السلطان أبو عنان إليه أحد أولاده مصحوبا بكتاب، وجرت بينهما مراسلات تدل على أن تصوف ابن عاشر كان تصوف مواطنة يشد أزر إمارة المومنين.

– استكثر ملوك بني مرين من بناء المدارس وبناء الزوايا والربط، وخصوصا السلطان أبو عنان المريني الذي كان من المولعين ببناء الزوايا. ووقفوا عليها الأوقاف المغلة فأمسكوا بذلك من رمق العلم، واحيوا مراسمه.

تكامل النظر التاريخي المجتمعي والنظر الأصولي الشرعي

   لقد عاش أبو زيد عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون الحضرمي(732-808) في عصر أصبح فيه التصوف ظاهرة مجتمعية، بل فكرا مجتمعيا يشكل لحمة تصل بين الفئات المجتمعية وبين إمارة المومنين. وكان الصوفي في هذه الفترة فاعلا اجتماعيا ومواطنا إيجابيا، يحب الخير للبلاد والعباد ويساهم في البناء من موقعه ومن زاوية رؤيته، ويمكن أن نتذكر في هذا الشأن. أن علماء فاس أوفدوا الولي الصالح أبا محمد الفشتالي للتشفع عند أبي يحيى المريني بعدما ثار السكان على عامله، فاستجاب الأمير لوسطاته. وكان أبو يحيى المريني يقدره حتى أنه أوصى بأن يدفن بجواره.

   ولكن لنا أن نتساءل هل انعكس هذا الواقع على مقاربة ابن خلدون فجاءت مقاربته للتصوف مقاربة اجتماعية وليست فقهية أصولية فقط ؟

   من الطبيعي أن يتحدد معنى التصوف في فكر ابن خلدون انطلاقا من الموقف النظري المعرفي الخالص الذي يصدر عنه في جل مؤلفاته، ومن المعروف أن ابن خلدون تعرض للتصوف في كتابه المقدمة، الذي كان تأسيسا لعلم الاجتماع وعلم العمران البشري، إلا أن تخصيصه لكتاب عن التصوف الذي هو “شفاء السائل لتهذيب المسائل” جاء كذلك بدافع مجتمعي، هذا الدافع هو النقاش الذي عرفه المجتمع الأندلسي أولا، ثم انتقل بفضل الشاطبي ليحرك الساحة الثقافية بالمملكة المغربية، فقد حفظت لنا المصادر أن الإمام الشاطبي (ت790ه) راسل شخصيتين علميتين بفاس يتساءل عن قضية ضرورة النموذج الروحي، أي الشيخ الصوفي الحي لسلوك الطريق الصوفي، وقد كتب كتابين لهذا الغرض:

– الكتاب الأول توجه به إلى أبي عبد الله محمد بن ابراهيم ابن عباد الرندي (ت 792ه).

– الكتاب الثاني توجه به إلى أبي العباس أحمد بن القاسم عبد الرحمن الفاسي الشهير بابن القباب (ت 778ه).

   وقد أجاب ابن عباد الشاطبي برسالتين: الأولى مطولة نقلها صاحب المعيار المعرب الونشريسي (ج 12). أما الثانية فمختصرة وهي الرسالة السادسة عشرة من رسائل ابن عباد الصغرى .

   لقد نقل الونشريسي في المعيار المعرب (ج 11) كذلك جواب أبي العباس القباب، وقد ذكر ابن خلدون أن هذه المسألة شارك فيها علماء آخرون .

   أشار ابن خلدون في مقدمة كتابه شفاء السائل إلى كتاب الشاطبي دون أن يذكر اسمه حيث يقول: “أما بعد فقد أوقفني بعض الإخوان أبقاهم الله على تقييد وصل من عدوة الأندلس يخاطب بعض الأعلام من أهل مدينة فاس… [1]، وحدد ابن خلدون موضوع هذا الكتاب بقوله [2]: ونقل مناظرة مريدين جرت في ذلك ردا وقبولا، وحشرت معقولا ومنقولا : ما بين مسوغ لهذا السلوك من غير شيخ [3] يقتدي المريد به، ولا إمام يأتم بأدبه، وبين مشترط شيخا يروض السالك، ويحذره ما شاهد في طريقه إلى الله من المهالك “.

   ومما يدل على أن المسألة أخذت بعدا كبيرا، ولم تكن فقط مسألة نقاش بين أفراد، قول ابن خلدون [4]: فطال في تلك المناظرة الجدال، وجلب للاحتجاج العلماء والأبدال، وذهبت النصفة بينهما والاعتدال، والحق وإن فقدوه فقريب مما اعتقدوه “.

   ليس مرادنا الوقوف مع شفاء السائل وآراء ابن خلدون الصوفية، وإنما نريد أن نتوقف مع بعض خصوصيات النظر الخلدوني للتصوف والتي لابد أن نشير إلى أنها وإن غلب عليها البعد التاريخي والوصفي فإنها كانت تسعى إلى ربط مقاصد التصوف بمقاصد العمران، وحددت موقع التصوف في المجتمع وأثر التغييرات الاجتماعية على موقع التصوف ودوره المجتمعي.

   من المعلوم أن ابن خلدون ابن شرعي متميز للثقافة الإسلامية، بيد أنه تفرد بأنه توصل إلى نتائج متميزة عن نتائج من سبقوه ممن طبقوا المعرفة الإسلامية لفهم المجتمع الإسلامي.

   لقد وظف ابن خلدون مقاصد الشريعة في مقاربة التصوف، ولكن في ارتباط مع مقاصد العمران، فمقاصد الشريعة عند ابن خلدون هي لتحقيق مقاصد العمران المادي والروحي، وليس المادي فقط، إذ أن ابن خلدون بين بعبارة صريحة بأن رعاية المقاصد الشرعية المتفق عليها لا تعنى بحفظ المصالح المتعينة للأفراد فقط بقدر ما هي معنية بحفظ العمران البشري، فقد قال في بداية المقدمة : “ما يذكره الفقهاء في تعليل الأحكام الشرعية بالمقاصد في أن الزنا مخلط للأنساب مفسد للنوع، وأن القتل أيضاً مفسد للنوع، وأن الظلم مؤذن بخراب العمران المفضي لفساد النوع، وغير ذلك من سائر المقاصد الشرعية في الأحكام، فإنها كلها مبنية على المحافظة على العمران”[5].

   كما أنه يرى أن دور ممارسة السياسة الشرعية هو: “حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة”.

   ولهذا يربط ابن خلدون بين مقاصد العمران ومقاصد الشريعة قائلا في المقدمة :”واعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري وهي الحكمة العامة المراعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال”.

   من هنا كان حضور التصوف كفاعل مجتمعي كفيل بتسهيل الأمر لتفعيل هذه السياسة الشرعية وهو ما تفطن له بنو مرين فجعلوا من التصوف مؤطرا اجتماعيا يساهم في تخليق المجتمع وفي تحقيق مصالح الآخرة .

   إن مقاصد العمران الروحي لا تتحقق إلا بتحقيق مقاصد الآخرة التي هي أهم مقاصد التصوف ، وقد حرر ابن خلدون فقرة هامة فيما يتعلق بهذا الشأن جاء فيها: “واعلم أن الدنيا كلها وأحوالها عند الشارع مطية للآخرة،ومن فقد المطية فقد الوصول ،وليس مراده(أي الشارع) فيما ينهى عنه أو يذمه من أفعال البشر أو يندب إلى تركه إهماله بالكلية أو اقتلاعه من أصله ،وتعطيل القوى التي ينشأ عليها بالكلية،إنما قصده تصريفها في أغراض الحق جهد الاستطاعة ،حتى تصير المقاصد كلها حقا وتتحد الوجهة” [6].

   إن هذا الربط بين الأوامر والنواهي الشرعية ومقاصد وجود الإنسان في الدنيا، وربطها بمقاصد الآخرة، وكون الشارع يستهدف أن تصير المقاصد كلها حقا، وتتحد الوجهة، هو تأسيس للرؤية الصوفية المعتدلة المتوازنة التي يعرضها ابن خلدون في شفاء السائل .

   لقد انطلق ابن خلدون في شفاء السائل من منطلق تاريخي فوصف مجتمع الصحابة بأنه مجتمع الاهتمام بأعمال الباطن، وهذا هو مجال الاشتغال الصوفي، فقال في شفاء السائل : “ثم إن الصحابة رضوان الله عليهم لما شرح الله صدورهم للإسلام، وقبلوا من الهداية، ما كانوا فيه على بينة من ربهم، صرفوا الاهتمام إلى أعمال الباطن أكثر من أعمال الظاهر…” [7].

   وابن خلدون هنا يربط عصر الصحابة بمفهوم التصوف، وممّا يؤكّد ذلك قوله عندما حدّد مفهوم التصوّف في شفاء السائل: “التصوّف رعاية حسن الأدب مع الله في الأعمال الباطنة والظاهرة بالوقوف عند حدوده مقدّما الاهتمام بأفعال القلوب” [8].

   لقد رأى ابن خلدون أن هذه الرؤية المجتمعية تنسحب على عصر التابعين وعصر تابعي التابعين، فقال في شفاء السائل :”ثم لما درج الصحابة رضوان الله عليهم، وجاء العصر التالي لعصرهم فتلقى أهله هدي الصحابة مباشرة وتلقينا وتعليما، وقيل لهم: التابعون، ثم قيل لأهل العصر الذين بعدهم أتباع التابعين” [9].

   وهو نفس المعنى الذي عبر ابن خلدون عنه في المقدمة في الفصل الذي خصصه للتصوف حيث يقول :”هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة ،و أصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة و كبارها من الصحابة و التابعين و من بعدهم طريقة الحق والهداية…” [10].

   غير أن ابن خلدون سيقرر أن التغييرات الاجتماعية سرعان ما ستفعل فعلها في المجتمع، مما سيجعله يتغير من مجتمع يهتم بفقه القلوب إلى مجتمع يعتني بالمراسم الدينية مع إغفال أعمال القلوب وهو ما يشير إليه بقوله :”ثم اختلف الناس وتباينت المراتب، وفشا الميل عن الجادة، والخروج عن الاستقامة، ونسي الناس أعمال القلوب وأغفلوها، وأقبل الجم الغفير على صلاح الأعمال البدنية، والعناية بالمراسم الدينية من غير التفات إلى الباطن ولا اهتمام بصلاحه” [11].

   إن هذا التغيير الجذري في المجتمع يعتبره ابن خلدون سبب نشوء مصطلح التصوف لذلك فهو يقول :”فانفرد خواص السنة المحافظون على أعمال لفلوب، المقتدون بالسلف الصالح في أعمالهم الباطنة والظاهرة بالصوفية “

   لقد لجأ ابن خلدون إلى نقل نص للقشيري ليبرز أن التصوف كان خاضعا للفعل الإجتماعي، فالتصوف قد يمتد أحيانا حتى يشمل المجتمع كله (الأمة)، وقد ينحسر أحيانا أخرى في طائفة معينة من الأتباع، فقد نقل عن أبي القاسم القشيري قوله : “ثم تتابعوا جيلا بعد جيل، وأمة بعد أمة، يهتدي الخلف منهم بالسلف، ويؤدي ما لقن عن شيوخه لمن وفقه الله من أتباعه “[12].

   إن انحسار التصوف المجتمعي لم يكن يعني عند ابن خلدون غياب سلطته على الضمير الجمعي، فحضور نماذج صوفية كان دائما محل تقدير اجتماعي، لذلك فهو يقول :”مع أن الجمهور يرونهم بعين التجلة، ويغبطون البضائع الخالصة لهم عن الأهواء والأفئدة، عقائد إسلامية لقنوها وتدارسوها، ومحبة بالطبع في الزكاء والخير لو ساعدت العزائم عليها، فلا يختلج في نفس مسلم عقل أبويه يدينان الدين إلا أن الحق في طريقهم والهدى في اتباعهم، غير أن فقد الأعوان وقلة المساعدين مدعاة إلى الكسل وسلم إلى البطالة، والنفوس أبدا مع الجم الغفير، وتقليد الآباء ومشيخة العصر في القول والعمل، ولو استيقنت السعادة في طريق الخواص، لولوعها بحب العاجل”[13].

   إننا نجد تقاطعات بين فكري ابن خلدون والشاطبي في النظر إلى مسألة التصوف، وإن كان كل واحد منهما قد وظف رؤيته في إطار اشتغاله وإن لم يخل نظرهما معا من رؤية اجتماعية. فمثلا نجد الشاطبي يتحدث عن أثر التغير الاجتماعي في خلق الغربة الصوفية فيقول : “ولم تزل الأصول يندرس العمل بمقتضاها لكثرة الاشتغال بالدنيا والتفريع فيها، حتى صارت كالنسي المنسي، وصار طالب العمل بها كالغريب المقصي عن أهله، وهو داخل تحت معنى قوله عليه الصلاة و السلام :”بدأ هذا الدين غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء … ومن ههنا يفهم شأن المنقطعين إلى الله فيما امتازوا به من نحلتهم المعروفة”. وهي نفس الغربة وهجران الأهم الذي ذكره ابن خلدون في شفاء السائل قائلا عن الصوفية :” ثم إن هذه الطائفة المختصين برعاية أحوال الباطن وفقه القلوب مازالوا يقلون في كل عصر، ويخفون في كل قطر بفشو المخالفات، وانحطاط النفوس في متابعة الأهواء وطاعة الخواطر، حتى صار طريقهم ثقيلا على القلوب بمخالفة الجبلة الطبيعية، وإرسال العنان في الشهوات الملائمة، واستيلاء المطامع والأمنيات .” [14].

   وهو الأمر الذي يؤكده كذلك بقوله عن فقه الباطن في شفاء السائل :”وبقي النوع الآخر الذي هو الأهم على كل أحد في نفسه قليلا أو مهجورا، وربما خشي بعض علمائه لأجل ذلك دروسه وذهاب أهله، فيجهل حكم الله في أفعال القلوب وحركات البواطن التي هي أهم على المكلف، وأقرب به إلى النجاة”[15].

   إننا نجد اتفاقا بين الشاطبي وابن خلدون حول علة انسحاب فقه القلوب من عملية التأطير الاجتماعي، والتأكيد على أن هذا الانزياح من الجمع بين فقه الظاهر وفقه الباطن إلى الاكتفاء بفقه الظاهر ناتج عن التحول الذي طرأ في المجتمع، فالشاطبي يقول في الموافقات :”…وإنما عني الفقهاء بتحرير الحدود والأحكام الجزئية التي هي مظان التنازع والمشاحة، والأخذ بالحظوظ الخاصة، والعمل بمقتضى الطوارئ العارضة، وكأنهم واقفون للناس في اجتهادهم على خط الفصل بين ما أحل الله وما حرم، حتى لا يتجاوزوا ما أحل إلى ما حرم الله” [16].

   وأما ابن خلدون فيقول في شفاء السائل :”وشغل الفقهاء بما تعم به البلوى من أحكام المعاملات والعبادات الظاهرة حسبما طالبهم بذلك منصب الفتيا وهداية الجمهور ” [17].

   لقد اتفق كل من ابن خلدون و الشاطبي على أن الاشتغال الفقهي هو اشتغال على قضايا الحلال والحرام كما يتعامل معها الجمهور، إلا أن رؤية ابن خلدون التي تستحضر العمران البشري ستجعله يرجع لفقه القلوب أهميته عندما يتحدث عن دور الانهماك في الشهوات والترف والفساد في القضاء على العمران المادي والحضارة المادية، فيقول ابن خلدون بأنه :”من مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات، والاسترسال فيها لكثرة الترف، فيقع التفنن في شهوات البطن من المآكل والملاذ، ويتبع ذلك التفنن في شهوات الفرج بأنواع المناكح… “[18].

   ويربط بين طاعة الشهوات وبين أسباب انهيار الحضارة المادية المرتبطة بالترف، و المفصولة عن الأخلاق فيقول في مقدمته :”ذلك أن الترف والنعمة إذا حصلا لأهل العمران دعاهم بطبعه إلى مذاهب الحضارة والتخلق بعوائدها، والحضارة كما علمت هي التفنن في الترف واستجادة أحواله… وإذا بلغ التأنق في هذه الأحوال المنزلية الغاية تبعه طاعة الشهوات، فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان كثيرة لا يستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها، أما دينها فلاستحكام صبغة العوائد التي يعسر نزعها، وأما دنياها فلكثرة الحاجات والمؤونات التي تطالب بها العوائد ويعجِز الكسب عن الوفاء بها” [19].

   هنا تعود الحاجة إلى التصوف في المجتمع كوسيلة لإنقاذ العمران المادي عن طريق إحياء العمران الروحي، إذ أن التصوف خلق، بل منافسة في الأخلاق، وابتعاد عن طاعة الشهوات، وهو ماعرف به التصوف. فالتصوف خلق ومن زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف.

هوامش:

[1] كتاب شفاء السائل لتهذيب لابن خلدون المسائل بتحقيق د.محمد مطيع الحافظ ص 33

[2] نفسه، ص35

[3] للمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع يمكن الرجوع الى كتاب الشيخ في التراث الصوفي للدكتور احمد غاني

[4] كتاب شفاء السائل لتهذيب لابن خلدون المسائل بتحقيق د.محمد مطيع الحافظ ص 36

[5] مقدمة ابن خلدون فصل التصوف

[6] مقدمة ابن خلدون فصل التصوف

[7] كتاب شفاء السائل لتهذيب لابن خلدون المسائل بتحقيق د.محمد مطيع الحافظ ص 36

[8] م .س

[9] م .س

[10] المقدمة .فصل التصوف

[11] المقدمة .فصل التصوف

[12] م.س

[13] م.س

[14] كتاب شفاء السائل لتهذيب لابن خلدون المسائل بتحقيق د.محمد مطيع الحافظ ص 36

[15] م.س

[16] الشاطبي :الموافقات ص156ج4

[17] م.س

[18] م.س

[19] م.س

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق