مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

الخطاب الصوفي ملاحظات حول الكتابة والممارسة والاصطلاح للدكتور طه عبد الرحمان

إن من يجرد النظر في مسألة الخطاب الصوفي يحصل ملاحظات ثلاث، أولاها تتعلق بالكتابة الصوفية، والثانية لها تعلق بالممارسة الصوفية، والثالثة تتعلق بالاصطلاح الصوفي.

1-الملاحظة على الكتابة الصوفية الحديثة

إن  من يتأمل الكتابة الصوفية الحديثة يجد أنها كتابة واهمة، وأن الوهم الذي يتطرق إليها على ضربين: أحدهما الوهم التجريدي، والثاني: الوهم التزييفي.

أ-وهم التجريد

يتجلى هذا الوهم في كون الدراسات العلمية التي اشتغلت بالتاريخ للتصوف ودخلت في التحليل لخطابه، أو تولت التنظير لمضمونه، لم يجد أصحابها لزاما عليهم أن يخوضوا غمار التجربة الفعلية التي يركبها الصوفي، بحجة أن عملهم لا يستلزم إلا استيفاء المقتضيات النظرية التي توجب الانفصال والانقطاع عن الموضوع المدروس، فإذا كانت هذه الحجة قد تسلم لهؤلاء في المجالات التي جمدت فيها الحياة، فضلا عن جمود الروح، فإنها لا تسلم لهم في مجال يتدفق حيوية ويفور روحانية، مثل مجال التربية الصوفية، فلا تعرف دراساتهم النظرية في هذه التجربة الثرية الفياضة إلا القشور، أما اللب فلا تجد رائحته ولا تذوق طعمه، فضلا عن أن بعض الدارسين يقع في أمحل المحالات، إذ إنهم يقرون بامتناع هذه التجربة الحية على الصياغة النظرية مع بقائهم على التوسل بهذه الصياغة المجردة في طلب الكشف عن الحقيقة الروحية لهذه التجربة.

ب-وهم التزييف

يتجلى في كون بعض الإنتاجات الأدبية التي أخذت تسطو على التراث الصوفي، وتخطف منه القبسات تلو القبسات، إحساسا بجمال مبانيه الذي يضاهى، وبجلال معانيه الذي لا يسامى، أبى أصحابها أن يكلفوا أنفسهم عناء الدخول في التجربة الروحية التي أثمرت هذه القبسات والإشراقات واقعين بذلك في أشنع التناقضات، إذ إنهم يدعون طلب الصدق في التجربة الإبداعية التي يخوضون مع بقائهم على رفض التحقق الفعلي بما يغتصبون من رقائق العارفين وحقائقهم، ولو أنهم صدقوا حق الصدق في تجربتهم الإبداعية، لعلموا أن ما يجدونه في نفوسهم من شعور جمالي لا صلة له إطلاقا بالشعور الجمالي الذي ولد هذه الإشارات المختطفة واللطائف المغتصبة، فشعورهم الجمالي هو على الحقيقة ؛ساس جسدي مغرق في الهوى، إحساس يبقى دون طور العقل، بينما الشعور الجمالي عند الصوفية هو وجدان روحي مشرق بالمجاهدة، وجدان لابد أن يعلو على طور العقل، وشتان بين جمال هو دون العقل وجمال فوق العقل، فالأول ينزل بالإنسان إلى درك البهيمية، والثاني يرفعه إلى أفق الملائكية، فإذا تجرأ المتأدب وتكلف الجمع في إنتاجه بين لمسات الجمال الحسي وقبسات الجمال الروحي، فهو كمن يجمع بين النقيضين، جاعلا بذلك من هذا الإنتاج عملا بلغ النهاية في الزيف والتزييف.

   وإذا صح أن الكتابة الصوفية الحديثة واهمة، وأن هذا الوهم إما أن يكون وهما تجريديا كما هو الشأن في الكتابة الصوفية العلمية، أو وهما تزييفيا كما هو الأمر بالنسبة للكتابة الأدبية، صح معه أننا نحتاج إلى صرف هذا الوهم المزدوج حتى تصفو لنا الكتابة الصوفية الحقيقية، وهذا بالذات ما استهدفه الأستاذ محمد المصطفى عزام في كتابه الذي بين أيدينا، فقد أراد إعادة الكتابة الصوفية إلى صلتها بالأسباب العملية والتجريبية، فانطلق في مشروعه التحديدي للكتابة الصوفية من مبدأين أساسيين: أحدهما، أن العلم بالتصوف لا يقوم بدون عمل، والثاني: أن المعنى الصوفي لا يحصل بغير تحقق.

المبدأ الأول القاضي بارتباط الدرس الصوفي بالعمل: أوجب هذا المبدأ على الكاتب أن ينخرط في سلك التربية الروحية، يتخذ أستاذا مربيا يلزمه بوظائف مخصوصة وأعمال مرسومة، فيجلس إليه متلقيا منه الإشارات ومسترقا إليه النظرات، كما يجلس إلى الذاكرين في حلقهم، مستجلبا لأحوالهم ومستمتعا بأذواقهم، حتى حصل من العمل ما يجعل كلامه في التصوف كلام من هو على بينة من الأمر. أو قل كلاما مسددا لا كلاما مجردا كما نعهده في الكتابة الصوفية العلمية، ولا عجب أن يرد هذا الكتاب مفهوم “التأويل” إلى أصله العملي، فيسميه ب “التأول” ويعرف لنا التأول بأنه: «هو التطبيق العملي لأوامر الشرع، عملا بالأركان أو ذكرا باللسان». فأين من هذا التعريف المجرد الذي كان لاصقا بالتأويل وما زال، وهو أنه النظر الاعتباري في الأحكام الشرعية الذي يخرجها من ظاهرها إلى معان خفية فيها.

المبدأ الثاني القاضي بارتباط المعنى الصوفي بالتحقق: أوجب هذا المبدأ على الكاتب أن يعمل وينسى أنه يعمل، بمعنى أن يجاوز مرتبة الدخول في العمل إلى مرتبة الاشتغال بتطهير النفس من التعلقات بما فيها التعلق بالأعمال التي يأتيها، لأن هذا التطهير هو وحده الضامن لتحصيل أسباب صحة القصد وتمام الحضور في الأفعال والأقوال، حتى حصل من طهارة النفس ما يجعل كلامه في التصوف صادقا لا كلاما زائفا كما نعهده في الكتابة الصوفية الأدبية، فلا يكفي في تحصيل في تحصيل الكتابة الصوفية الأدبية الصادقة مجرد الدخول في العمل كما هو الشأن في الكتابة الصوفية العلمية، بل يحتاج صاحبها إلى التجرد من التعلق بهذا العمل حتى تنعكس ثماره في الوجدان نقية لا يشوبها ميل، وصافية لا يكدرها هوى، ولا بدع إذ ذاك أن نجد محمد المصطفى عزام يثبت إلى جانب “التأول” الذي هو التطبيق العملي للشرع، فتكون المعاني الصوفية هي ثمرات التحقق بالعمل.

وبإيجاز فإن المؤلف قد وضع لنا أصول الكتابة الصوفية الصحيحة، فجمع فيها بين ما يجب استيفاؤه في الكتابة الصوفية العملية وهو الدخول في العمل، وبين ما يجب استيفاؤه في الكتابة الأدبية وهو تطهير النفس، فجاءت مقاربته للخطاب الصوفي مسددة بالعمل ومؤيدة بالصدق.

2-الملاحظة على الممارسة الصوفية 

إن من يعمل النظر في المواقف الحديثة من هذه الممارسة، يجد أن أغلب هذه المواقف تنسب التصوف إلى الماضي، بدعوى أنه استنفد إمكاناته كلها، وأنه لم يعد قادرا على أن يدفع عن المجتمع الإسلامي آفاته ولا عن المجتمع العالي انحرافاته.

أ-دعوى عجز التصوف عن إفادة المجتمع الإسلامي الحديث

مرد هذه الدعوى إلى هيمنة التوجه ألتسييسي على الخطابات الفكرية في هذا المجتمع، مع أن الأصل في الحقيقة الإسلامية هو التوجه الأخلاقي، ولا يعنينا كيف وقع نسيان هذا التوجه الأصيل في الإسلام، ولا كيف وقع استنقاص شأنه باستحواذ التسييس عليه، وإنما تكفينا الإشارة إلى أن هذا النسيان أثر سلبا في هذه الخطابات الفكرية في المجتمع الإسلامي، فجعلها تقع في النسيج على منوال الخطابات غير الإسلامية، فتبدو بين يديها مهلهلة لا تقوى على مضاهاتها ومضطربة لا تقدر على مواجهتها، لأن التسييس المادي أصيل في الخطابات غير الإسلامية، لعلمانيتها وفكرانيتها، بينما هو دخيل على الخطابات الإسلامية لشرعانية الدين الإسلامي وروحانيته، والحق أنه لا يليق بهذه الخطابات الإسلامية إلا التأنيس الأخلاقي، ولو أن هذه الخطابات عملت على تطوير هذا الجانب بإنشاء فلسفة أخلاقية شاملة تبرز الأسباب المعنوية للظواهر المجتمعية التي لم تبرزها إلى الآن إلا الأسباب المادية. فلسفة إنسانية متكاملة تشحذ لها الهمم وتسخر لها الطاقات، لأتت بصنيع لا يستغنى عنه، فضلا عن أنها تفتح لأهلها طريقا لتوحيد رؤاهم وتجميع شتاتهم.

 ب-دعوى عجز التصوف عن إفادة المجتمع العالمي الحديث

مردها إلى هيمنة التوجه التشييئي على الإنتاجات الصناعية والتقنية في هذا المجتمع، مع أن الأصل في فلسفة هذا المجتمع هو التوجه التأنيسي، ولا أدل على هذه الهيمنة من أن مدلول التأنيس انقلب في هذا المجتمع الكوني إلى نقيضه، فصار يدل في النزعات الإنسانية الغربية على إخلاد الإنسان إلى الأرض والاطمئنان إلى الحياة المادية الصرف، وإذا نحن تبينا كيف أن هذه الهيمنة التشييئية بلغت من الرسوخ درجة صارت معها قوانين العقلانية تنعطف بأشد الضرر حيث يظن آتيه بأجل النفع، أدركنا كيف أن هذا الرسوخ التشييئي الأقصى الذي أصاب المجتمع العالمي لا تقدر على استئصاله إلا تجربة تأنيسية تبلغ في القوة مبلغه، ولا تجربة أقوى رسوخا من التجربة الروحية التي يأتي بها التصوف، فتكون هي وحدها القادرة على محو التشييئ الذي أحاط بإنسان هذا المجتمع الكوني من كل جانب، فجعله صلب الطبع، قاسي القلب، أما ما سواها من التجارب الوجدانية التي تتخذ هذا اللون أو ذاك من ألوان الرفض والمخاصمة، فليس لها من القوة ما تغالب به المدد الروحي، أو تستبدل بهذا التشييئ الذي هو ثمرة العقلانية المجردة، تشييئا هو ثمرة ما دون هذه العقلانية، ولا غرابة إذ ذاك أن نجد بعض اليقظين من المفكرين المعاصرين يذكرون العالم بهذه التجربة الإنسانية الأصيلة وبأبطالها، ويدعونه إلى العودة إلى استثمارها في مواجهة أخطار هذا التشييئ الجارف.

وإذا ظهر أن الاستدلال على ماضوية التصوف يستند إلى دعوى عدم إفادته للمجتمع الإسلامي الحديث، وعلى دعوى عدم إفادته للمجتمع العالمي المعاصر، فإن الأستاذ محمد المصطفى عزام يعمل على إبطال هاتين الدعويين.

-أما بصدد الدعوى الأولى، فبين لنا كيف أننا نحتاج إلى العمل الصوفي لجمع شتات المجتمع الإسلامي، فقد قام بالبحث عن أصول التصوف الإسلامي فيما قبل اتساع الشقة بين الفرق والمذاهب الإسلامية، وذلك باستخراج أصول التأويل القرآني في العصر النبوي وعند الصحابة والتابعين، ذلك التأويل الذي اتسم بتمام الجمع بين العلم والعمل، مبرزا جانب السمو الخلقي، الذي تجلى في نماذج السلف الصالح، فتبين من خلال تحليلات هذا الباحث الدقيقة تلك الإشارات الأخلاقية واللطائف النورانية، إرادته بل إصراره على يدلنا على الطريق لجمع شمل المسلمين، ألا وهو الرجوع بالخطاب الفكري الإسلامي إلى أصوله الأخلاقية التي بدأت مبكرا في الممارسة الإسلامية، فإذا كنا إذن نريد أن نجمع شمل الأمة الإسلامية، فلن يتأتى لنا ذلك بلغة التسيّس لأن الفرقة موروثة عنها، وإنما بلغة التخلق لأنها تخلو من أسباب هذه الفرقة، بل تلغيها.

-وأما بصدد الدعوى الثانية، فإن المؤلف يبين لنا كيف أننا نحتاج إلى العمل الصوفي لإخراج العالم من شيئيته، وذلك بأن ننظر إليه لا بوصفه يحتوي أشياء مملوكة نتعامل معها لقضاء مآرب مخصوصة، وإنما بوصفه مجموعة كلمات إلهية أو مجموعة آيات أي علامات دالة، كل علامة تحمل معنى من معاني الألوهية، فإذا خرج العالم عن أن يكون مجرد وسائل لتلبية الحاجات وإشباع الرغبات، وأصبح حاملا لمقاصد إلهية توجب علينا طلبها والعمل بها، فإن الناظر في أحواله وتقلباته يعتبر هذه المقاصد، ويقوم إلى استثمارها في توجيه تطوراته، ولا يقف عند حد جعل العالم كلمات إلهية، بل يجعل هذه الكلمات بمثابة الكلمات القرآنية، فالعالم والقرآن كلاهما كلمات الله التي لا تنفد، وإذا تساويا في نسبتهما إلى الإله، فقد وجب للعالم من الاعتبار ما يجب للقرآن، ومتى وجب ذلك وجدنا الطريق للخروج من الفساد التشييئي الذي إليه النزعة التقنوية التي سادت العالم.  

وبإيجاز، فإن الأستاذ محمد المصطفى عزام وضع فائدة التصوف في جميع شتات الأمة الإسلامية وذلك بتجديد الصلة بالأخلاق الأصلية التي انبنى عليها الإسلام، كما وضع فائدته في رفع التشييئ الذي لحق العالم، وذلك بتجديد الصلة بالمعاني الإلهية التي أودعها الله في مخلوقاته، فجاءت مقاربته للخطاب الصوفي مبطلة تمام الإبطال لدعوى ماضوية التجربة الصوفية ومثبتة على العكس من ذلك «حاضرية» هذه التجربة، أو قل بلغة العصر دعوى «آنيتها» أو بلغة الصوفية «وقتية» التصوف.

3-الملاحظة على المصطلح الصوفي  

إن من ينظر في هذا المصطلح يجد أن أهل الدرس الاصطلاحي لم يتبنوا قط الخصوصية الإنتاجية التي يتميز بها هذا المصطلح، والتي تتجلى في أمرين أساسيين هما: “قوة التأثير” و “قوة التوليد”.

أ-قوة التأثير

لا يخفى أن المصطلح الصوفي تمتد جذوره إلى أخص ما في الإنسان. وهو نفسه التي بين جنبيه، فيكون أوفى بغرض تلوناتها التعبيرية وتقلباتها التبليغية. من غيره من المصطلحات التي لا تتعلق بهذا المستوى الباطني من الشعور الإنساني، كالمصطلحات الكلامية والمصطلحات الفلسفية التي تخاطب العقل المجرد ولا تخاطب الوجدان الحي، كما يكون المصطلح الصوفي أقدر على إنهاض الهمم وشحذ القرائح وتشغيل القلوب من غيره من المصطلحات التي وإن تعلقت بالشعور الإنساني فإنها لا تبلغ مبلغ ذلك المصطلح في النفاذ فيه كالمصطلحات الأدبية والمصطلحات الفنية -التي تخاطب الوجدان الظاهر الذي هو دون العقل المجرد، ولا ترقى إلى مخاطبة الوجدان الخفي الذي هو فوق هذا العقل-والحق أنه لا يقدر على تحريك الإرادة نحو مزيد من الإنتاجية ولا على توجيه العزائم نحو مزيد من الإنسانية إلا ما كان يجاوز خلجات الأجساد وخفقات الأحشاء، ولو أن أهل الاصطلاح تبينوا حقيقة القوة التأثيرية التي يتوفر عليها المصطلح الصوفي بموجب تعلقه بأصول الوجدان لا بفروعه. وعملوا على نقل أسبابها النافذة في أعماق النفس البشرية على غيره من المصطلحات، لدفعوا عن بعضها التجريد الموغل الذي يبعث على الجمود والتقليد، وعن بعضها الآخر الضحالة الفجة التي تفضي إلى الانتحال والزيف.

ب-قوة التوليد

لا يخفى كذلك أن المصطلح الصوفي يستثمر الإمكانات الصوفية بوجه لا يضاهيه فيه غيره، بالغا في استعمال آلية المقابلة، إن في المضمون أو الصورة، مبلغا لا يوازيه فيه مصطلح غيره، حتى إن النظام الاصطلاحي الصوفي يتفرد بشدة التناسق بين عناصره وبقوة التعالق بينها، بحيث تنتظم هذه العناصر الاصطلاحية فيما بينها مثنى أو ثلاث أو رباع، انتظاما يدل على اختلاف في مراتب المسمى الواحد أو على اختلاف في أنواع مسميات الحقل الواحد.

ولما كانت القوة الاشتقاقية التي يتمتع بها المصطلح الصوفي لا تعدلها قوة مصطلح آخر، فقد حصل أكبر قدر من القوة المنطقية الطبيعية التي تختص بها اللغة العربية، علما بأن الجهاز الاشتقاقي لكل لغة يتضمن جملة المعاني والعلاقات الأصلية التي تميز هذه اللغة، فيكون المصطلح الصوفي أكثر استثمارا لهذه المعاني والعلاقات من غيره، مما يجعله أدل على الخصوصية المنطقية للغة العربية، كما يجعله أقدر على التأثير في مختلف طبقات جمهورها.

ولو أن أهل الفكر العربي سلكوا في وضع مصطلحاتهم وتوظيفها الطرق الطبيعية التي سلكها أهل التصوف، لجاءوا في الفكر بوجوه لم يسبقوا إليها، واستقلوا برؤى لم يتكلفوا فيها، ولوجدوا في الجمهور خير من يتقبل أفكارهم ويعتنق رؤاهم، لما ذكرناه من صلة هذه الطرق الصوفية في الاصطلاح بالبنيات المنطقية الطبيعية التي يتداولها هذا الجمهور.

لكن هؤلاء المفكرين أبوا إلا أن يبتغوا في اشتقاق مصطلحاتهم طرقا عشوائية أو طرقا منقولة، إما جهلا بالقيمة المنطقية للطرق الاصطلاحية، أو نبذا لكل تشبه بأهل التصوف لسبب أو لآخر، فجاءت أفكارهم منتحلة لأفكار غيرهم، إن لم تكن مشوهة لها، كما بدت هذه الأفكار مستغلقة على جمهورهم، إن لم تكن مستكرهة لديه.

وإذا ظهر أن أهل الاصطلاح قد فاتهم إدراك الخصوصية الإنتاجية للمصطلح الصوفي التي تتجلى في قوة التأثير وقوة التوليد، فإن الأستاذ محمد المصطفى عزام يخصص أكبر قسط من كتابه لبيان هذا التميز الإنتاجي للمصطلح الصوفي.

أما عن قوة تأثير هذا المصطلح، فهو يوضح لنا كيف أن الصوفي يستثمر القوة التداولية لألفاظه ثم يرتقي بهذه الألفاظ تدريجيا في معارج الدلالة حتى تبلغ النهاية في اللطافة والدقة، معتمدا في ذلك على القوة المعنوية لتجربته الروحية، وفضلا عن هذا الجمع بين الأصول التداولية والمعاني التجريبية، يقوم الصوفي باستثمار القوة العملية للأمثال والحكم، جامعا بينهما وبين القوة المقصدية للإشارات، فيتمكن بموجب هذا الجمع المزدوج، الجمع بين التداول المشترك والتجربة الخاصة، والجمع بين العمل الاقتدائي والمقصد الإشاري، من تزويد مصطلحاته بقوة في التأثير لا يصل إليها المصطلح الفلسفي ولا الكلامي.

وأما عن قوة توليد المصطلح الصوفي، فيوضح لنا المؤلف الآليات المختلفة التي يتوسل بها الصوفي لإنشاء معانيه مثل اللجوء إلى المعنى اللغوي ونقل المعنى الحسي إلى المدلول المعنوي والعكس بالعكس، وقلب صيغ الجمل وإضافة اللفظ إلى نفسه ونقله إلى نقيض معناه، وتقطيع الحروف، وترتيب المعاني والمقابلة بينها، كما يبين لنا المستويات الخطابية التي يندرج فيها هذا المصطلح، فهناك المستوى العباري، وهناك المستوى غير العباري، وهناك في المستوى غير العباري مراتب منها الإشارات والرموز واللطائف والحقائق، ثم يوضح لنا كيف أن الصوفي لا يكتفي بالمصطلحات التي ينشئها ابتداء، بل يستمد مصطلحات قطاعات معرفية أخرى فيحملها على وجوه غير وجوهها في هذه القطاعات، وقد يصير أبعد من ذلكن فيلبس مصطلحات العلوم لباس الإشارات إلى معان روحية لا تخطر على بال أصحاب هذه العلوم.

وبإيجاز، فإن المصطفى عزام يثبت نموذجية الاصطلاح الصوفي، هذه النموذجية التي تتجلى في قوة التأثير التي يتمتع بها، وذلك بفضل استناده إلى التداول المشترك وإلى العمل الراسخ، كما تتجلى في قوة التوليد التي تميزه، وذلك بفضل استعماله لمختلف آليات تقليب الصيغ وآليات تنويع المضامين.

د. طارق العلمي

  • أستاذ باحث في الرابطة المحمدية للعلماء، متخصص في المجال الصوفي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق