مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةمفاهيم

الحكم العقلي في المذهب الأشعري ـ القسم الثاني

 

بينا في القسم الأول من هذه الدراسة (وهو عبارة عن مدخل عام) مركزية “المفاهيم” في المنظومة العقدية الأشعرية، وما انبنى عليها من تنويه إلى ضرورة إعادة دراسة المفاهيم الأشعرية وفق منهجية علمية تبين عن إجرائيتها في تقرير العقائد الدينية وبناء مسائلها. ومما اختُص به هذا المدخل العام عرضُه لظهور مفهوم الحكم العقلي في الكتابات الأشعرية بالتساوق مع إبراز أهميته الكبرى وقيمته القصوى في المذهب الأشعري. وفي هذا الصدد، أوقفنا القارئ المهتم على كون المتأخرين من الأشاعرة أفردوا هذا الموضوع بعنوان مستقل خلافا للمتقدمين وجعلوه مقدمة وصدْرا لمصنفاتهم العقدية والكلامية، مع إبراز مبلغ تأثرهم بإمام الحرمين الجويني في المماهاة بين الأحكام العقلية ـ الواجبة والجائزة والمستحيلة ـ وبين العقل نفسه.
أما القسم الثاني من الموضوع فينكبّ على مفهوم الحكم العقلي تعريفا له ولأقسامه: (الواجب، والمستحيل، والجائز)، وبيان مصاديقه في بعض أبواب العقيدة ومسائلها، مع الاجتهاد في إثارة عدد من الإشكالات والتساؤلات التي تتمحض عن الاشتغال به والخوض في تعريفاته ومسائله.
وحري بالتنويه أن تحديد المفاهيم الكلامية والاصطلاحات العقدية، بالرغم من كونه من وسائل علم الكلام لا من مقاصده؛ إذ ليست المفاهيم مقصودة لذاتها وإنما لإثبات العقائد الإيمانية، وإن كان لا ندحة عنها لمن يروم الإلمام بمناهج المتكلمين وقضايا الاعتقاد، إلا أننا بخصوص موضوع “الحكم العقلي” بصدد مفهوم إشكالي مركّب له وجهان؛ وجه آلي (من الآلية)، ووجه مضموني مقاصدي، وليس أدل على ذلك من تعريف الأشاعرة لـ”مسائل” علم الكلام على أنها «المقاصد؛ وهي كل حكم نظري لمعلوم هو من العقائد الدينية أو يتوقف عليه إثبات شيء منها»(1). فيتحصل من ذلك أن النظر في مفهوم “الحكم العقلي” نظر مخصوص يمتزج فيه المنهج بالمضمون، وتتزاوج فيه آلة الاستدلال على العقائد بمضامينها الواجبِ اعتناقُها واعتقادها. فنحن إذن أمام “أُرْبة منهجية” سنعمل على حلّها بعد الوقوف على المفهوم من مفهوم الحكم العقلي في المنظومة الكلامية الأشعرية.
1ـ الحكم العقلي في الجهاز المفهومي الأشعري:
خلافا لما درج عليه الباحثون والدارسون ـ وفق المنهجية التقليدية المسلوكة في أغلب الدراسات العقدية ـ من تصدير دراسة المفاهيم (أو المواضيع ذات الصلة بها) بجرد لمعانيها اللغوية ثم الانتقال بعد ذلك لعرض تعريفاتها الاصطلاحية دون كبير إفادة من المعاني الأصلية المجرودة، سنعمل في هذه الورقة على انتهاج مسلك معكوسٍ الغايةُ منه تجنبُ مجرّد تكرير أقوال السابقين في الموضوع؛ بحيث نجتهد في تطعيمها بعناصر مفهومية ومضمونية جديدة من شأنها أن تخفِّف من فورة السياج التجريدي الذي تلبّس به مفهوم الحكم العقلي عند علماء الكلام خصوصا الأشاعرةَ منهم. 
1ـ1ـ التعريف الاصطلاحي العام:
نحن بإزاء مفهوم كلامي عبارة عن مركّب مصطلحي يتكون من لفظتين اثنتين؛ “الحكم” و”العقلي”، وإذا كان المسلك العلمي المعتبر للتعريف به يقتضي إفراد كل واحد منهما بحدٍّ مستقل للخروج بتعريف جامع يجمع بين المضمومين، فإنا سنرجئ ذلك إلى باب التعريف اللغوي والبيان الوحيوي (نسبة إلى الوحي) نظرا لقلة الفائدة المرجوّة من سلوك هذا المسلك في باب الاصطلاح العام والخاص، هذا فضلا عن غياب تعريف عام للمفهوم مجتمعا في كتب المعاجم والاصطلاح العام.  
يكشف التعريف الاصطلاحي العام لـ”الحكم” (مجردا من نسبة أو نعت) عن “عملية إسناد” تربط بين مقدمة ونتيجة أو بين موضوع ومحمول، فالحكم «إسناد أمر إلى آخر إيجابا أو سلبا»(2)  ولا بد في هذا الإسناد من “سند”، وهذا السند قد يكون شرعيا أو عقليا أو اصطلاحيا(3)؛ فالشرعي ما يؤخذ من الشرع، وهو نوعان:
ـ حكم شرعي متوقف على الشرع؛ بحيث لا يُدرك لولا خطابُ الشرع كوجوب الصلاة.
ـ حكم شرعي لا يتوقف على الشرع كوجوده تعالى وتوحيده.
الأول عملي فرعي، والثاني أصلي اعتقادي(4). أما الحكم العقلي ـ في هذا التقسيم العام ـ فلا يؤخذ من الشرع وإنما من مجرد العقل (أو إن شئت؛ من “العقل المجرد”) كالقول بأن الكل أكبر من الجزء والنقيضان لا يجتمعان..، وأما الحكم الاصطلاحي فمأخوذ من الاصطلاح وهو محض حكم فني يتعلق بمجاله.
يترتب على هذا التقسيم أن الحكم العقلي في علم الكلام يندرج في خانة “الأحكام الشرعية التي لا تتوقف على الشرع”، وهذا الاستنتاج مشكل؛ بحيث يبدو، في بادئ الرأي، كأنه يجمع بين الضدين؛ بين توصيفه بـ”الشرعي” والقول بعدم توقفه على الشرع، ويزداد هذا الاستنتاج لَبسا إذا استسلفنا أن الأحكام العقدية في علم الكلام الأشعري جلَّها أحكام عقلية. وهذا الالتباس سيرتفع بعد وقوفنا وشيكا على التعريف الاصطلاحي الخاص للمفهوم ـ مدار الدراسة ـ، وحسبنا في هذا المقام التنويه إلى مسألة “وجوب النظر” في المذهب الأشعري والقول بالوجوب الشرعي (لا العقلي، خلافا للمعتزلة)؛ فيكون الحكم مثلا بوجوده تعالى وصفاته “حكما شرعيا” من هذه الجهة نظرا لكون القول به ثمرةً للائتمار بالأمر الشرعي الموجب للنظر والداعي إليه، كما أنه حكم شرعي بموجب ما يترتب عليه من واجبات ونواه شرعية محددة لها صورتها وشروطها التي قررها الشارع الحكيم. ولك أن تستذكر تعريف أهل المذهب لعلم الكلام للتحقق من التوصيف الشرعي لأحكامه المستنبطة، إذ هو «العلم بالقواعد الشرعية الاعتقادية المكتسب من أدلتها اليقينية، وهذا هو معنى العقائد الدينية أي المنسوبة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، سواء توقف على الشرع أم لا»(5). ومن هذه الحيثية بان علم الكلام عن الفلسفة؛ إذ يتميز عنها «بكون البحث فيه على قانون الإسلام، أي ما عُلم قطعا من الدين كصدور الكثرة عن الواحد، ونزول الملك من السماء، وكون العالم محفوفا بالعدم والفناء، إلى غير ذلك مما تجزم به الملة دون الفلسفة»(6)، فيكون هذا الجزم حكما شرعيا وفقا لهذا المنزع الكلامي العام.
ثم إن مفهوم الحكم عموما ـ بتضمنه لمعنى السند ـ يحيلنا إلى مفهوم “الدليل”؛ إذ به تصح عملية الإسناد في الحكم؛ فلا حكم إلا بدليل يسنده. ومعنى الدليل في الاصطلاح العام «الذي يلزم من العلم به العلم بشيء آخر»(7)، بمعنى وجود “علاقة لزومية” بين الدال (أو اللازم) وبين المدلول (أو الملزوم). وهذه العلاقة تنقسم ـ من جهة أنواع الدليل ـ إلى ثلاثة أقسام(8):
ـ لزوم عقلي: يكون فيه الدليل عقليا له تعلق بمدلوله نحو تعلق الفعل بفاعله؛ إذ يلزم من وجود الفعل وجود فاعله. 
ـ لزوم سمعي شرعي: يستفاد من طريق النطق بعد المواضعة على صدق المخبر بالرسالة؛ لذلك كان لزوما توقيفيا من جهة توقفه على النقل من صاحب الشرع. 
ـ لزوم لغوي: تفرضه المواطأة والمواضعة على معاني الكلام ودلالات الأسماء والصفات وسائر الألفاظ، بل ودلالات الكتابات والرموز والإشارات والعقود.. وكل ما لا يدل إلا بالمواطأة والاتفاق. 
ولعله من نافلة القول، بخصوص خصيصة اللزوم الواجبِ توفرُها في الدليل بمعناه العام، أن نميز ـ من جهة النظر في تحقق مدى استلزام اللازم للملزوم أبدا من غير خُلْف أو تغيير ـ بين ضربين من اللزوم(9):
ـ أولهما لزوم كلي: يكون الملزوم فيه مربوطا باللازم ربطا كليا عاما لا يتخلّف أبدا، «وضابط اللزوم الكلي العام أن يكون الربط بينهما واقعا في جميع الأحوال والأزمنة وعلى جميع التقادير الممكنة كلزوم الزوجية للعشرة فما من حالة تعرض ولا زمان ولا تقدير يقدر من التقادير الممكنة إلا والزوجية في ذلك كله لازمة للعشرة وقد يكون اللزوم كليا عاما في الشخص الواحد كقولنا كلما كان زيد يكتب فهو يحرك يده أي ما من حالة تعرض ولا زمان ما يشار إليه وزيد يكتب إلا وهو يحرك يده في تلك الحال وفي ذلك الزمان، فاللزوم بين كتابته وحركة يده في جميع الأحوال والأزمان والشخصُ واحد، فهذا هو اللزوم الكلي»(10). وهذا الضرب يطرح إشكال إمكانية انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم من عدمها، وهو إشكال سنعرّج عليه عند عرض أقسام الحكم العقلي في المذهب الأشعري. 
ـ والثاني لزوم جزئي: ومعناه «لزوم الشيء للشيء في بعض الأحوال دون بعض أو بعض الأزمنة دون بعض»(11)، وفي هذه الحالة لا يلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم كما هو الشأن في علاقة «مؤثر بأثره؛ فإن المؤثر يجب حضوره حالة وجود أثره وهو زمن حدوثه دون ما بعد زمن الحدوث فكل بناء يلزمه البنَّاء حالة البناء دون ما بعد ذلك، فقد يموت البنَّاء ويبقى بعد ذلك البِناء، وكذلك الناسج مع نسجه وكل مؤثر مع أثره لزومُه جزئي في حالة الحدوث فقط، فلا جرم لا يلزم من عدم المؤثر بعد ذلك عدم الأثر؛ لأن العدم في تلك الحال عدم لما ليس بلازم وعدم ما ليس بلازم لا يقدح لا عقلا ولا عادة ولا شرعا»(12).
وفي ما يلي خطاطة تقريبية للتعالقات المفهومية لمفهوم الحكم في الاصطلاح العام
                                                 الحكم
                        شرعي                         عقلي                      اصطلاحي
                                                   (العقل المجرد)     (محض اصطلاح لغوي وفني)
       متوقف على الشرع                          
       غير متوقف على الشرع                           الحكم العقدي العقلي 
                                       الدليل/السند
                                        
                                          اللزوم
       لزوم عقلي                لزوم سمعي شرعي                          لزوم لغوي
  (لا ينفك عن العقول                                     أساسه المواضعة
وهو العمدة في الاستدلال 
         الكلامي)                  لزوم كلي عام بحيث لا ينفك الملزوم عن اللازم لا زمانا ولا مكانا ولا 
                                     أحوالا.
                                     لزوم جزئي خاص يكون في زمن دون زمن أو في حال دون حال.
إذا، يتحصل من الدلالة الاصطلاحية العامة أن الحكم، كائنا ما كان، يقتضي دليلا/سندا يسنده ويدل عليه، وهذا الدليل لا بد أن ينطوي ـ من نظر قريب أو بعيد ـ على قوة استلزامية بحيث يستلزم هو في نفسه الحكم المبني عنه المستدَل عليه، وقد يكون اللزوم فيه كليا وعاما كما قد يكون جزئيا وخاصا. وهذا الاستلزام (=اللزوم) هو مدار نظر النظار وتنافس الأفكار في باب إثبات صدقيتها وصوابها؛ فكلٌّ يزعم أن الأحكام الصادرة عنه لازمة عن دليلها الملزم لها، ومع ذلك اختلف الفلاسفة في الإلهيات، وعلماء الكلام في الكلاميات، والفقهاء في الفقهيات، وعلماء اللغة في اللغويات واللسانيات.. 
وسوف يتبين لك، بعد حين، كيف أن علماء الكلام الأشاعرة يجعلون من الحكم العقلي حقيقة لازمة لزوما عقليا كليا وعاما لا يقبل الخلف، ولهم في ذلك دلائل ومسوغات سنثبتها في مواضعها.
فلننصرف الآن إلى بيان دلالات مفهوم الحكم العقلي في الاصطلاح الكلامي الأشعري.
1ـ2: تعريف الحكم العقلي في الدرس العقدي الأشعري: 
1ـ2ـ1: الحكم العقلي عند أبي الحسن الأشعري:
لا نجد في كتب شيخ المذهب أبي الحسن الأشعري (ت. 324هـ)ـ في حدود ما وصلنا ـ حدا اصطلاحيا لمفهوم الحكم العقلي بخلاف تلامذته من بعده خصوصا المتأخرين منهم، بيد أننا لا نعدم من كتبه نصوصا غزيرة تبرز أن العمدة في استدلالاته الكلامية على صحة العقائد الدينية، كما فهمها وقعّد لها، هي الأحكام العقلية المشتركة بين العقول، ولو لم تكن مشتركة لما قامت الحجة على العقلاء، لذلك تجده ـ وفقا لهذه القناعة ـ يسرع إلى التمييز بين صنفين من الأحكام في الدين(13):
ـ أحكام الشريعة: وهي الفروع التي لا تستدرَك أحكامُها إلا من جهة السمع والرسل. وهي المعبر عنها في الاصطلاح العام ـ كما رأينا ـ بـ”الحكم الشرعي المتوقف على الشرع”.
ـ أصول الدين: وهي مردودة إلى جملة الأصول المتفق عليها بالعقل والحس والبديهة. وهي المعبر عنها في الاصطلاح العام بـ”الحكم الشرعي غير المتوقف على الشرع”؛ فهي أصول دينية، بيد أنها تتقوّم عند علماء الكلام بردها إلى البديهيات والضروريات التي لا يجحدها عاقل.
وليس يخفى على من أطاف بمنهج الأشعري في الاستدلال على العقائد الدينية استنادُه إلى أحكام العقول في تقرير العقائد الدينية خاصة ما اندرج منها في أحكام الألوهية والربوبية كوجوده تعالى وصفاته وأفعاله. وما دامت هذه العقائد (=أصول الدين) مردودة إلى بدائه العقول مسنودة إلى ضرورياتها فقد توجّب التوقف عند المعنى الاصطلاحي للعقل كما هو عند إمام المذهب.
«اعلم أنه كان يقول في معنى العقل إنه هو العلم، ويستشهد على ذلك بكلام أهل اللغة في قولهم “عقلت كذا ولم أعقل كذا”، ويشيرون في ذلك إلى معنى العلم»(14)، كذلك فإن العقل نقيض الجهل «والمراد بالنقيض هو الضد المنافي، والذي ينافي الجهل هو العلم»(15). وبذلك يكون العاقل هو العالم بالشيء أو بالأشياء، وهذه الدلالة (العاقل بمعنى العالم) قد تكون(16):
ـ إطلاقا اصطلاحيا: ينسحب على من يعلم معلومات مخصوصة بطريق النظر والاستدلال.
ـ تقييدا توصيفيا: بحيث يجوز أن يقال لكل من علم شيئا إنه قد عقله.
وسواء في الإطلاق أو التقييد نكون أمام ضربين من العلم؛ ضروري ومكتسب، وذلك تبعا للتمييز في العقل بين نوعين(17):
ـ عقل غريزي: يُقصد به العلم الضروري «الذي لا يُجتلب بالنظر والفكر».
ـ عقل مكتسَب: وهو «العلم الذي يُستجلب بالنظر والاستدلال».
ويهمنا من هذه التقسيمات المستنبطة من كلام الأشعري أن الحكم العقلي ـ مبحوثنا في هذه الدراسة ـ يندرج ضمن الإطلاق الاصطلاحي لمفهوم العقل بنوعيه؛ بحيث يُعد، من جهة، ما هو ثابث في العقل ابتداء مما يدخل في العقل الغريزي وهذا على سبيل التجوّز، ومن جهة أخرى يُعتبر ـ وهذا هو المعنى الاصطلاحي المطلوب ـ ثمرةَ سلوك مسلك النظر والاستدلال. وبيان ذلك أن النظر مراتب ومدارج يرتقي فيها الناظر (العاقل) بحسب إحكامه لعملية بناء الأدلة بعضها على بعض، لكن هذا السُلّم الاستدلالي له منطلقاته وبداياته التي لا منطلق قبلها ولا بداية دونها؛ إذ «ليس كل شيء يحتاج إلى برهان»(18) وهذا مما يتفق عليه النظار من المتكلمين والفلاسفة على حد سواء، فما من استدلال إلا ويرتدُّ إلى جملة من البديهيات التي لا ينفك العقل (أو العاقل) عنها، و«معنى بديهة العقل [عند الأشعري] أنه مبادئ العلوم وهي من أنواع الضروريات التي تقع للعالم منا من غير نظر ولا فكر ولا روية. وكان يعد في هذا القسم العلم بأن الموجود لا يخلو من أن يكون أزليا أو لم يكن فكان. وكان يعد العلم بأن الجوهرين والجسمين لا يخلوان من أن يكونا متقاربين أو متباعدين من بداية العقول وأوائل العلوم»(19). إذن فالبديهة نوع من أنواع الضروريات، وهذه بدورها يقسمها الأشعري إلى ثلاثة أقسام، هي(20):
ـ الضروريات الحسية المشتركة بين ذوي الحواس إذا انتفت الآفات.
ـ الضروريات العقلية التي تقع ابتداء، وهي المشتركة بين العقلاء مع انتفاء الآفات أيضا. 
ـ الضروريات الخبرية: فالخبر إذا كان متواترا واردا بشروطه المعتبرة حدث عنه علم ضروري. 
  وغرضنا من إيراد هذا التقسيم ـ في معرض بيان مفهوم الحكم العقلي ـ أن الضروريات بقسميها الأول والثاني ملازمة للإنسان العاقل غير المؤوف٭ من حيث كونه عاقلا سليم الحواس، وعليها تُبنى الحقائق والمعارف، ولولا هذا الاشتراك فيها لما قامت الحجة على أحد من العالمين، «وإن إجازة خلاف ذلك تؤدي إلى تناكر الحقائق وإبطال الطرق إلى إثباتها»(21). وإذا ثبتت هذه الحقيقة، ثبت أيضا أن العاقل أبدا لا يكون مستدلا إلا إذا كان ناظرا في “منظور فيه” بالاستناد على هذه الضروريات أو أحد من أقسامها، فكأن وصف “العاقل” لا يطلق على الحقيقة إلا لمن سلك سبيل النظر والاستدلال، وما يفضي إليه هذا السبيل هو ما سماه الأشعري بـ”المستدل عليه” و”المحكوم به” وهما بمعنى “الحكم” عنده(22). 
ولعلك تبينت أن الحكم عند الأشعري ـ وهو ما سيتبناه تلامذته من بعده ـ عبارة عن دلالة مكتسبة من طريق النظر والاستدلال، وهذا المذهب ينطبق أيضا على معرفة الله تعالى في الدنيا؛ إذ هي اكتساب وليست ضرورة(23)، وإلا لم يتخلف أحد عن الإيمان به تعالى.  
وهذه المعرفة المكتسبة تتصرف من جهة تعلقها بالعقل إلى مجموعة من العقائد الواجبة أو المستحيلة أو الجائزة. وليس أدل على ذلك من قول الأشعري في كل مسائل العقيدة بكونها من الجائزات أو الواجبات أو المستحيلات، ويقصد بذلك استنباطها عقلا لا شرعا، وأحيانا قد تكون المسألة العقدية جائزة عقلا واجبة شرعا أو العكس، ودونكم جملة من النماذج على ذلك:
ـ في التدليل على وجود الله: «لا يجوز انتقاله [أي الإنسان، والعالم بصفة عامة] من حال إلى حال بغير ناقل ولا مدبر»(24).
ـ إثبات جواز رؤية الله عقلا ووجوبها سمعا: «رؤية الله تعالى جائزة من جهة النظر والقياس في كل حال يصح فيها وجود الرائي، ولكل واحد سواء كان مؤمنا أو كافرا مكلفا أو غير مكلف… فأما القول بوجوب الرؤية للمؤمنين في القيامة فإنه كان يقول إن طريق ذلك الخبر..»(25).
ـ لا يجب على الله شيء: «وكان يقول إن العفو عن الكفار في العقول جائز، وترك إثابة المؤمنين في الآخرة بالثواب جائز من جهة العقل، وإنه لا يجوز أن يُستحق على الله تعالى شيء بوجه من جهة العقل، ولا يصح أن يقال إن شيئا ما يجب عليه فعلُه أو يجب عليه تركه. وكان يقول إن الواجب لا بد له من موجب والموجب فوق من يوجَب عليه، وليس فوقه أحد فيصح أن يجب عليه شيء»(26).
ـ استحالة وجود الفعل في الأزل: و«كان يقول […] إن الله تعالى لم يزل عادلا عن صفات النقص والعيب والآفة، ولا يقول إنه لم يزل عادلا على ما يقال “عدل فلان على فلان عدلا ومعدلة” لأن ذلك يقتضي حدوث فعل، ويستحيل حدوث الفعل في الأزل»(27).
ـ نفي العلية والغرض عن أفعال الله تعالى: «وكان يحيل (بمعنى استحالة) قول من قال إن أفعال الله تعالى تكون حكمة لأغراض تتبعها وفوائد تتعلق بها، بل يكون فعله حكمة منه وإنه لعينه لا لمعنى أكثر منه على أي وجه وقع وحدث»(28).
ـ “في إبانة مذهبه في القول بعذاب القبر وسؤال منكر ونكير..”: «اعلم أنه كان يقول إن جميع ذلك مما طريقه الخبر (أي واجب بمقتضى السمع). فأما تجويزه ففي العقول ثابت كائن صحيح»(29).
وهكذا، إذا تتبعنا أقوال شيخ المذهب في كل أبواب علم الكلام ألفينا أنفسنا أمام تقرير للعقائد بناء على التجويز العقلي أو الإحالة أو الوجوب، ولنا فيما أثبتناه من نماذج مقنعٌ، وإلا فإن إيراد أمثلة من كل باب وفي كل مسألة مما يخرج عن مقصود هذا البحث ويوقع في آفة الإطناب والإملال.
ولك أن تستحكم موقع الحكم العقلي في منظومة الأشعري المنهجية بوقوفك على الخطاطة أدناه.
موقع الحكم العقلي عند الأشعري
الأحكام الدينية 
                   أحكام الشريعة                                                أصول الدين
               (دليلها السمع والخبر)                             (أصول العقائد المبنية على الحس والبدائه 
                                                                             والضروريات العقلية)
 
        العلم                                    دلالة “العقل”                                عقل غريزي
                                                                                              عقل مكتسب                                
         لغة: بمعنى نقيض الجهل                                               الحسية: مصدرها الحواس
         اصطلاحا: ثمرة النظر والاستدلال                الضروريات      العقلية: لا تنفك عنها العقول
             الحكم العقلي: هو المستدلُّ عليه المكتسبُ بطريق النظر والاستدلال المبني على حقائق الضروريات المركوزة في العقل الغريزي، وهذا الحكم إما واجب أو مستحيل أو جائز.
 
1ـ2ـ2: تأصيل مفهوم الحكم العقلي في المذهب الأشعري:
قد علمنا من كلام الأشعري أن الحكم العقلي هو ثمرة النظر والاستدلال المرتكن إلى جملة من المقولات العقلية والحقائق الغريزية التي لا انفكاك للإنسان عنها من حيث كونُه إنسانا عاقلا سليما غير مؤوف. وقد ذكرنا ـ عن بينة ـ أن الحكم العقلي في المذهب الأشعري يدخل في جميع المباحث العقدية؛ فما من مسألة كلامية إلا وتنبني على قواعد الحكم العقلي من الوجوب والجواز والاستحالة؛ بدءا بوجود الله تعالى وإثبات صفاته وأفعاله ونفي النقائص عنه وصولا إلى مباحث السمعيات.
وليس من المبالغة في شيء الإقرار بأن هذه الأحكام العقلية ـ المُثبِتة أو النافية على ما سنرى ـ ينزل فيها العقل، في الاستدلال على العقائد، منزلة الحكَم الأعلى في الإثبات والنفي، وقد صدع بذلك إمام الحرمين في قوله: «ما قضى العقل بوجوب ثبوته استحال انتفاؤه، وما تضمن نظرُ العقل استحالة ثبوته، وجب انتفاؤه […] وجميع قواعد الدين تتشعب عن هذه القضايا العقلية (يقصد الجائزات والواجبات والمستحيلات العقلية)»(30). وهذه دعوى عريضة اتّهِم المذهب الأشعري بسببها بتطريق الطعن في الدليل النقلي وإنزال العقل مكان الوحي من حيث الحاكمية والمرجعية(31). وليس الأمر كذلك عند التحقيق.
لذلك ينصب عملنا في هذا المبحث على تحديد دلالات مفهوم الحكم العقلي على مواضعة المتكلمين الأشاعرة للنظر في مستندات هذه الدعوى وافتحاصها. 
اعلم أن الحكم عموما في المذهب الأشعري هو «إثبات أمر أو نفيه»(32)  أو بعبارة أوضح هو «عبارة عن نسبة أمر إلى أمر إيجابا أو سلبا»(33)، وهذا على غرار ما عرّجنا عليه من التعريف الاصطلاحي العام، بل ويرادف ما هو مقرر في المنطق الصوري. وبيان ذلك «أن من أدرك أمرا من الأمور؛ 
ـ فإما أن يتصور معناه فقط، ولم يحكم بثبوته ولا بنفيه، فهذا الإدراك يسمى في الاصطلاح: “تصورا”، كإدراكنا ـ مثلا ـ أن معنى الحدوث: الوجود بعد العدم، ولم نثبته لأمر ولا نفيناه عنه.
ـ وإما أن يتصور مع ذلك ثبوت ذلك المعنى لأمر أو نفيه عنه، فهذا الإدراك يُسمى في الاصطلاح “تصديقا”(34)، ويسمى أيضا “حكما”، كإثباتنا الحدوث ـ مثلا ـ بعد تصورنا لمعناه للعوالم، وهي ما سوى المولى تبارك وتعالى، فنقول: العوالم حادثة، أو نفيِهِ عمن وجب قدمُه، وهو مولانا تبارك وتعالى، فنقول: مولانا ـ جل جلاله ـ ليس بحادث.
فإثبات أمر لأمر، أو نفيه عنه، هو المسمى: “حكما”»(35)، فإذا استند إلى “العقل” كان عقليا.
لكن وصف حكم ما بأنه “عقلي” يقتضي وجود أوصاف أخرى يتميز عنها؛ إذ هنالك ثلاثة أقسام ينقسم إليها الحكم(36):
ـ حكم شرعي: مستنده الشرع بحيث لا يمكن أن يُعلم ثبوته أو نفيُه إلا منه، وهو (أي الشرع) خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالطلب أو الإباحة أو الوضع لها(37). ومثال الحكم الشرعي قولنا في الإثبات: الصلوات الخمس واجبة، وكقولنا في النفي: صوم يوم عاشوراء ليس بواجب.
ـ حكم عادي: مرده إلى التجربة والعادة والاختبار المتكرر؛ كقولنا في الإثبات: شراب السكنجبين مسكن للصفراء، وكقولنا في النفي: الفطير من الخبز ليس بسريع الانهضام.
ـ حكم عقلي: وهو إثبات أمر أو نفيه من غير توقف على تكرّر (خلافا للحكم العادي) ولا وضع واضع (خلافا للحكم الشرعي). وإنما أضيف هذا الحكم إلى العقل ـ وإن كانت الأحكام كلها لا تُدرك إلا بالعقل ـ؛ لأن مجرد العقل، بدون فكرة أو معها، كاف في إدراك هذا الحكم. ومثاله في الإثبات قولنا: العشرة زوج، وقولنا في النفي: الثلاثة ليست نصف الأربعة.
والحكم سواء كان شرعيا أو عقليا أو عاديا يبقى هو «المعقول الذي لا تُعلم له حقيقة إلا بالإضافة إلى محكوم به عليه، كما تقول: حكم عقلي، أو شرعي، أو عادي؛ فالحكم من حيث هو هو لا تعلم له حقيقة حتى يضاف إما إلى العقل، أو إلى الشرع أو إلى العادة»(38).
والعمدة في هذا التقسيم الثلاثي عند الأشاعرة ترجع عند التفتيش إلى أقسام الدليل نفسِه؛ فهو إما أن يكون شرعيا أو عاديا أو عقليا. وقد بين لنا أبو الحسن اليفرني (ت. 734هـ) ـ من أعلام المذهب في المغرب ـ الدليلَ على حصر الحكم/الدليلِ في ثلاثة بقوله: «الزائد المدّعَى لا يخلو أن يكون ممـا لا يجوز تبدُّل دلالته عن مدلوله أو ما يجوز. فإن كان مما لا يجوز تبدل دلالته فهو “الحكم العقلي”. وإن كان مما يجوز تبدل دلالته عن مدلوله، فلا يخلو إمـا أن يفتقر في ارتباطه بمدلوله إلى وضع واضع أو لا: والأول لا يخلو إمـا أن يكون الواضع معصومـا أو لا: والأول هو “الحكم الشرعي”. والثاني هو “اللغوي” […]. وإن لم يفتقر إلى وضع واضع فهو: “الحكم العادي”»(39).
على أن كل قسم من أقسام الحكم الثلاثة المذكورة ينقسم بدوره إلى قسمين اثنين؛ ضروري ونظري:
ـ الضروري: ما يدرك ثبوته أو نفيه بلا تأمل وإعمال للنظر، ومثاله في الحكم العقلي حكمُنا بأن النفي والثبوت لا يجتمعان، وأن الاثنين أكثر من واحد. والمُدركات ضرورةً هي ما سماه الأشعري ـ كما مرّ بنا ـ بـ”الضروريات العقلية” و”العقل الغريزي”.
ـ النظري: ما لا يدرك ـ عادة ـ إلا بالتأمل والنظر، ومثاله في الحكم العقلي حكمنا بأن الواحد ربعُ عشر الأربعين. وهذا القسم هو ما اصطلح عليه الأشعري بـ”العقل المكتسب”؛ لأن الحكم العقلي النظري هو ثمرة نظر واستدلال واستنباط فلا يتأتى بديهة وضرورة. وفي هذا القسم تندرج الأحكام العقدية وأصول الدين.
ومدار هذا التقسيم الثنائي بخصوص الحكم العقلي على “مفهوم العقل نفسه” عند الأشاعرة، لذلك يتوجب ضبط دلالته الاصطلاحية لنرى، بعدُ، هل يسوغ توصيف الأحكام العقدية الأشعرية بـ”العقلية” أم لا؟
لقد رأينا، سابقا، كيف ميّز الأشعري في العقل بين ضربين؛ عقل غريزي، وعقل مكتسب، وهذا التمييز بنى عليه الأشاعرة من بعده فأطبقوا ـ اتباعا للجويني (ت. 478هـ) ـ على كون العقل «من العلوم الضرورية [لـ]استحالة الاتصاف به مع تقدير الخلوّ عن جميع العلوم»(40)؛ وهذا التعريف شرحه الأنصاري (ت. 512هـ) ـ تلميذ الجويني ـ بقوله: هو «كل علم لا يخلو العاقل عنه عند الذكر، ولا يشاركه فيه من ليس بعاقل. قال القاضي أبو بكر (يقصد الباقلاني (ت. 403هـ)) رحمه الله: “وذلك كالعلم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات، وأن الشيء الواحد لا يكون قديما حديثا، وأن المعلوم: إما أن يكون موجودا أو معدوما، وأن الخبر: إما أن يكون صدقا أو كذبا، والجسم إما أن يكون حيا أو ميتا” ونحو ذلك. وقال الأستاذ أبو إسحاق (يقصد الإسفراييني (ت. 418هـ)) رحمه الله: “العقل: ما يقع به التمييز، ويمكن الاستدلال به على ما وراء المحسوس” وعلى الجملة: العقل: شرط كل نظر واستدلال ومنشؤه، وقد قيل: ما يخرج الإنسان به عن حد المعتوهين؛ وتسميه العقلاء عاقلا»(41). وليس يخفى أن العقل بهذا المعنى ثابت لا يتغير فيكون بذلك حجة في نفسه على العاقل ليصح اعتبارُ الحقائق حقائقَ وتمييزُها عن الأوهام والأكاذيب ومحض الادعاءات، وإلا انتفت المعرفة وارتفعت المعقولية عن أي استدلال أو تحاجج.. لذلك ليس عبثا استهلال علماء الكلام الأشعرية مصنفاتِهم بالمقدمات العقلية الممهّدة لتقرير العقائد الدينية وذلك بغرض توطيد “أرضية علمية مرجعية” ينبني عليها البحث والنظر أداءً منهم لأمانة العلم الشرعي ولتسوغ إقامة الحجة على العقلاء {ليهلِك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيي عن بينة} [الأنفال/42] على الأقل في حدود قواطع الأدلة التي استمسكوا بها وأجمعوا عليها، وأخص ما يميز هذه القواطع سمة “اللزوم” التي تنطوي عليها (على غرار ما بينا في الحد الاصطلاحي العام للحكم العقلي)؛ بحيث إن الدليل المفيد لها (أي سمة اللزوم) «واجب لازم لا ينقلب ولا يتغير، ولا يحتاج في كونه دليلا إلى مواطأة وتوقيف»(42)، ومعنى هذا أن الحكم العقدي المبني على الدليل بمواصفاته المذكورة يبقى أبدا “حكما عقليا كونيا” ما دام الإنسان إنسانا والعاقل عاقلا وإن تطورت العلوم وتقدمت المعارف واختلفت الأزمنة والأمكنة.. يبقى الدليل دليلا والحكم القاطع قطعيا. 
نعم، قد اختلف العلماء قديما وحديثا في تعريف العقل وحده حدا تاما؛ فمنهم من جعله غريزة، ومنهم من قال هو صفوة الروح أو بصيرة، ومنهم من صيّره معرفةً أو فهما.. وقد نقل غير واحد من المتكلمين هذا الاختلاف(43) ولكنهم لم يختلفوا البتة في كونه قاسما مشتركا بين الناس يفصلهم عمّن دونهم من البهائم والدواب. ولا بأس ـ للتمثيل والتبسيط ـ أن نورد نصا حجاجيا لابن خُمَيْر السبتي (ت. 614هـ) ـ وهو أحد كبار أشاعرة المغرب ـ يشهد لهذا الاستنتاج وينتصر للمفهوم من الحكم العقلي، يقول في معنى العقل والعاقل: «أول ما ينبغي أن يخاطَب به المسترشد أن يقال له: أتقول إنك عاقل ولك عقل؟ فجوابه أن يقول: نعم، لكن لا أعرف من أين تحليت بهذه التسمية، ولا أعرف مقتضاها. فيقال له: لأنك تعلم قضية الوجوب والجواز والاستحالة، فجوابه أن يقول: زدتني غموضا. فيقال له: أتعلم أن الفعل إذا صح وثبت أنه يجب أن يفتقر لفاعل، كالكتابة المفتقرة للكاتب، والبناء المفتقر للباني؟ فجوابه نعم. فيقال له: أتعلم أن نزول المطر، وتصريف الرياح من شرق إلى غرب ومن غرب إلى شرق، وتقلبك من حركة إلى سكون ومن سكون إلى حركة جائز؟ فجوابه نعم. فيقال له: أتعلم أن الجسم لا يكون أسود أبيض، متحركا ساكنا، ميتا حيا في زمن واحد؟ فجوابه: نعم. فيقال له: أنت عاقل. وهذه العلوم هي التي فصلت بين العقلاء والبهائم، وهي المسماة عقلا على مذهب أهل الصواب في حد العقل، وهي المشروطة في التكليف على مذهب أهل الصواب العقلاء، وإنما الخطأ في تحديد العقل، فإذا حصل إجماعهم على المعنى المشروط في التكليف فلا يبالَى باختلافهم فيما سواه. فإذا أيقن بهذه الأقسام قلنا: هذا هو معنى العقل»(44). 
1ـ2ـ3: أقسام الحكم العقلي في المذهب الأشعري:
إذا تبينت لك دلالة الحكم العقلي في الاصطلاح الأشعري وظهرت عضوية تعلقها بمعنى العقل نفسه في المذهب، فاعلم أن هذا المفهوم ينحصر انحصارا في ثلاثة أقسام وجب تمييز كل واحد منها عن أخويْه:
أـ الواجب العقلي: وهو «ما لا يتصور في العقل عدمه»(45) أو هو «الذي يلزم من فرض عدمه محال لذاته»(46). ومعنى هذين التعريفين أن الواجب العقلي «لا يصدّق العقل بعدمه كالتحيز للجِرْم (أي الجسم) أي أخذه قدرا من الفراغ، والجرم كالشجر والحجر، فإذا قال لك شخص: إن هذه الشجرة لم تأخذ محلا من الأرض مثلا لا يصدّق عقلك بذلك لأن أخذها محلا واجبٌ لا يصدق العقل بعدمه»(47). 
وينقسم الواجب هو أيضا ثلاثة أقسام(48):
ـ واجب ذاتي مطلق؛ كذات الله، سُمي بذلك لأنه واجب لذاته بمعنى أن وجوبه ليس بالنظر لغيره ووجوبه غير مقيد بشيء.
ـ واجب ذاتي مقيد؛ كالتحيز للجرم سمي بذلك لأنه واجب بذاته بالمعنى المذكور، ووجوبه مقيد بدوام الجرم.
ـ واجب عرضي: كوجودنا في وقت عَلِم الله وجودَنا فيه، سمي بذلك لأن وجوبه ليس لذاته بل بالنظر لتعلق علم الله به.
كذلك، ينقسم الواجب عند الأشاعرة ـ من جهة فرض عدمه ـ إلى(49): 
ـ واجب لذاته: وهذا معنى تقييده في التعريف الثاني أعلاه بقولنا: “لذاته”؛ أي يلزم من فرض عدمه محال لذاته لا لغيره، والواجب لذاته هو الله “واجب الوجود” – سبحانه وتعالى-. 
ـ واجب بالغير: لا يلزم من فرض عدمه محال لذاته، وإنما بالنسبة إلى الغير، «وهذا كالعالَـم في حال وجوده، فهذا واجب الوجود، ولا يقال: إنه ممكن الوجود، بل يقال: كان ممكن الوجود قبل وجوده، لكن وجوب وجوده لا لذاته، بل لتعلق المشيئة الأزلية بوجوده. وعلى الجملة: إن كل مـا كان واجب الوجود بغيره، فهو ممكن الوجود بذاته، وكل مـا كان واجب الوجود بذاته، لا يصحّ أن يكون واجبا بغيره.
واعلم أن كل مـا كان واجب الوجود لذاته، فهو ممتنع العدم لذاته، وكل مـا كان واجب الوجود بالغير، فهو جائز العدم بالنسبة إلى ذاته، ممتنع العدم بالنسبة إلى غيره، وذلك كالعالَـم بعد وجوده، فهو جائز العدم في الحال بالنسبة إلى ذاته، وممتنع العدم في الحال بالنسبة إلى تعلق المشيئة الأزلية؛ لأن الله ـ تعالى ـ أخبر أنه لا يُعْدَم إلى يوم القيامة»(50). 
هذا هو تعريف الواجب العقلي بأقسامه المتفرعة عنه، وهو يحيلك إلى الواجب الذاتي ضمنا «وإنما لم يحتج إلى تقييد الواجب بالذاتي لأنه عند الإطلاق لا يُحمل إلا على الذاتي، ولا يحمل على العرضي إلا بالتقييد»(51). 
وهنالك من سلك مسلكا آخر في تقسيم الواجب العقلي؛ حيث ميّز بين قسمين اثنين(52):
ـ أولهما “الواجب القديم”: كالواجبات لله تعالى. ويتصف الواجب القديم بكونه لا يرتبط بغيره، لذلك فهو لا يتغير أبدا. 
ـ وثانيهما “الواجب المحدَث”: من قبيل التحيز للأجسام؛ بأن تأخذ ذواتُها قدرا من الفراغ أو الخلاء، وأن تكون محلا للأعراض (والعرض ما لا يقوم بنفسه كاللون والطعم، وإنما يحتاج إلى جسم)، والقابلية للعرض مقيدة بوجود الجسم؛ إن انعدم انعدم عرضه.
وظاهر عند المقارنة بين صنفيْ التقسيمات التي عرضنا لها أنها من محض الاختلاف في الوضع الاصطلاحي؛ وإلا فإن “الواجب القديم” يرادف “الواجب الذاتي المطلق” و”الواجب لذاته”، الأمر نفسُه بخصوص “الواجب المحدث” إذ يماثل “الواجب الذاتي المقيد” و”الواجب العرضي” و”الواجب بالغير”. فتأمل ذلك، فإن الخطب يسير. 
ثم إن الواجب العقلي نتوصل إليه ـ شأنه شأن أخويْه “المستحيل” و”الجائز” على ما سأتي ـ إما(53):
ـ ضرورةً: أي ابتداءً بلا تأمل، كالتحيز للجرم، وهو أخذه قدر ذاته من الفراغ، فإن ثبوت هذا المعنى له لا يُتصور في العقل ـ ضرورة ـ نفيُه، ونظير هذا في الوجوب الضروري: كون الاثنين أكثر من الواحد.
ـ أو نظرًا: أي بعد التأمل، كثبوت القدم لمولانا تبارك وتعالى، فإنه لا يُتصور في العقل نفيُه عنه جل وعلا، لكن بعد التأمل فيما يترتب على نفيه من المستحيلات كالدور والتسلسل وتعدد الإله، وتخصيص كل واحد منهم بنوع من الممكنات بلا مخصص. ونظير هذا في الوجوب النظري كون الواحد ربعُ عشرِ الأربعين.
ب ـ المستحيل العقلي: وهو «ما لا يتصور في العقل وجوده»(54) أو «هو الذي يلزم من فرض وجوده محال لذاته»(55)؛ ومعناه أن العقل لا يصدّق بوجوده «فإذا قال قائل: “إن الجرم الفلاني خال عن الحركة والسكون معا” لا يصدق عقلك بذلك لأن خلوه عن الحركة والسكون مستحيل لا يصدق العقل بوقوعه ووجوده»(56). وهو أيضا ينقسم إلى قسمين(57):
ـ مستحيل لذاته: كالشريك لله، ولذلك جاء في التعريف الثاني قيد “لذاته”؛ إذ وجود الشريك محال لذاته. 
ـ مستحيل بالغير: ويسمى أيضا “المستحيل العرضي”، وهو لا يلزم من فرض وجوده محال لذاته؛ وذلك كتصور الإيمان من أبي جهل، فإنه محال بالنسبة إلى تعلّق علم الله تعالى بعدم وقوعه، وهو بالنسبة إلى ذاته ممكن الوقوع، والدليل على ذلك وقوعه من أمثاله.
كذلك فللمستحيل العقلي مرتبتان(58): 
ـ أولاهما مرتبة “المستحيل الضروري” الذي يعرف بديهة وضرورة بدون نظر واستدلال؛ ومثاله كون الواحد نصف الأربعة، وهذا ظاهر للخاص والعام؛ لأنه لما علم بالضرورة للجميع أن نصفها اثنان لزم أن يعرف بالضرورة انتفاء النصفية عن كل ما سواهما من واحد وغيره. 
ـ والثانية مرتبة المستحيل النظري الذي يحتاج إلى النظر والاستدلال؛ ومثاله كون الواحد سدس الإثني عشر فهو باعتبار العوام؛ لأنهم قد يجهلون قبل التأمل أن سدسها اثنان أو غيرهما، فلا يعرفون ابتداء استحالة كون الواحد سدسا منها حتى يعرفوا أن سدس الاثني عشر هو القسم الواحد من أقسامها الستة المتساوية، والواحد ليس كذلك، وإنما هو قسم من أقسامها الاثني عشر المتساوية، وأما بالنسبة إلى أهل الحساب فمعرفة استحالة كون الواحد سدس الاثني عشر ضرورية.
فهذه أمثلة ساقها الإمام السنوسي لتقريب معاني المرتبتين إلى المبتدئين، وقد عقَّب على سوْق المثال الأخير بقوله: «ومقصودنا التقريب بالمثال، والاعتراض على المثل ليس من أدب المحققين»(59).
ج ـ الجائز العقلي: وهو «ما يصح في العقل وجودُه وعدمه»(60) أو «هو الذي لا يلزم من فرض وجوده ولا من فرض عدمه محال لذاته» وذلك كنزول المطر قبل نزوله، ووجود العالم قبل وجوده(61)، بمعنى أن العقل لا يتناقض إذا صدّق بإمكان وجود شيء ما جائز أو عدمه «فإذا قال قائل “إن زيدا له ولد” جوز عقلك صدق ذلك، وإذا قال “إن زيدا لا ولد له” جوز عقلك صدق ذلك، فوجود ولد لزيد وعدمُه جائزٌ يصدق العقل بوجوده وعدمه»(62). ومن نافلة هذا التعريف التنويه إلى كون “الجائز” و”الممكن” في اصطلاح المتكلمين مترادفين(63). 
ثم إن الجائز العقلي ينقسم إلى قسمين(64):
ـ الجائز الواجب بالغير: من قبيل وجود العالم؛ فهو جائز لذاته قبل وجوده واجب بالغير بخلق الله له.
ـ الجائز المستحيل بالغير: كفرض القيامة اليوم، لتعلق علم الله تعالى أنها لا تقوم إلا بعد فناء الدنيا، ومن ذلك خروج الكافر من النار بعد دخولها؛ فهو جائز بالنسبة إلى ذاته، محال بالغير وهو إخبار الشارع بخلوده في النار.
كذلك فإن الجائز العقلي ـ على غرار أخويْه ـ يُتوصل إليه إما(65):
ـ ضرورةً: بلا تأمل ككون الجسم أبيضَ؛ إذ لا شك أن وجود البياض وعدمه للأجسام قد عرفه العقل بالمشاهدة (أي بالضرورة الحسية بتعبير الأشعري)، وصحة وجود الشيء وعدمه أعم من وجوده وعدمه، فإذا كان الأخص ضروريا للعقل فأحرى أن يكون الأعم ضروريا.
ـ أو نظرا: بالتأمل والاستدلال كتمني الإنسان الموتَ فإنه جائز جوازا نظريا؛ وبيانه أن أهل العافية الذين لم يذوقوا المصائب التي هي أشد من الموت ويتسهّل الموت ويُتمنى عندها، ولا خالطوا من وقع في ذلك، ولا عرفوا المحن بالفكرة والتوهم، قد يتوهمون ابتداء أنه محال أن يتمنى العاقل الموت لنفسه؛ فإذا فكروا في المحن؛ عرفوا أن هنالك ما هو أشد من الموت، فحينئذ يحكمون بأن تمني العاقل الموتَ لنفسه ليس بواجب ولا مستحيل، بل يصح وجوده إن خاف من المصائب ما هو أشد منه، أو اشتاق أو رجا شيئا عظيما لا يحصل له إلا به. وأما معرفة جواز تمنيه في حق من اتصف بأسباب ذلك خوفا أو رجاء أو اشتياقا فهي ضرورية لا تحتاج إلى تأمل لكن المثال المقصود منه التقريب، فيصح التمثيل بما وجد على الجملة أو قدر وجوده.
هذه هي الأحكام العقلية في المذهب الأشعري؛ يُقدّم منها الواجبُ لشرفه ويُعقَّب بالمستحيل لأنه ضده ـ والضد أقرب الأشياء خطورا بالبال عند ذكر ضده ـ ويُؤخر الجائز لأنه لم يبق له إلا مرتبة التأخير(66). وهي منحصرة في ثلاثة لا رابع لها؛ ولذلك عبّر علماء الكلام، في معرض تقعيدهم لمفاهيمها، بقولهم “تنحصر” عوض “تنقسم” «لأن الانحصار يُفهم منه أنه انقسام محصور في ثلاثة، بخلاف ما لو قال: “ينقسم”، فإنه لا يفهم منه انحصار الأقسام في ثلاثة»(67). وهذا الحصر له وجهه؛ حيث إن «كل ما يحكم به العقل إن كان يقبل الثبوت والانتفاء معا فهو الجواز، وإن كان لا يقبل الأمرين معا؛ فإن كان يقبل الثبوت فقط دون الانتفاء فهو الوجوب، وإن كان يقبل الانتفاء فقط دون الثبوت فهو الاستحالة»(68). ولمن ينازع في هذا الحصر يُجاب بأن «القسم الرابع ـ وهو: ألا تستقر فيه صورة وجود الشيء ولا صورة عدمه ـ فليس من أقسام الحكم العقلي؛ لأن الحكم يستدعي محكوما عليه متصورا في العقل، وهذا القسم الرابع غير متصوّر في العقل وجودُه ولا عدمه فلا يُخِلّ بالحصر المذكور»(69).
وعلى غرار منهجنا في تلخيص المعطيات المبسوطة تجد أدناه خطاطة تقريبية للجهاز المفهومي والدلالي لمفهوم الحكم العقلي عند الأشاعرة:
                         
                                                   الحكم العقلي 
(إثبات أمر أو نفيه من غير توقف على عادة ولا وضع واضع)
        ضروري                                                                                 نظري                  
(ملازم للإنسان العاقل)                                                             (ثمرة التأمل والاستدلال)                 
                                                     أقسامه                                   
                 المستحيل                                                               الجائز
    (ما لا يُتصوّر في العقل وجوده)                                  (ما يصح في العقل وجوده وعدمه)                                                                                                            
     مستحيل لذاته              ضروري                    ضروري         الجائز الواجب بالغير
     مستحيل بالغير            نظري                       نظري             الجائز المستحيل بالغير                                     
                                       
                                                    الواجب  
        ضروري                    (ما لا يُتصـوّر   في العقل عدمه)                         نظري                         
                                           
           
                 واجب لذاته                                                     واجب بالغير   
               
            الحكم العقلي ثوابت ومنفيات متقررة في العقل ضرورة أو استدلالا، وهو ينحصر انحصار باتا في أقسام ثلاثة لا رابع لها. وكل مسألة عقدية ترجع في أصلها إلى الواجب العقلي أو المستحيل أو الجائز.                   
بقي أن تعلم أن تعرّض المتكلمين في التأصيل للعقيدة لبيان معاني “الواجب” و”المستحيل” و”الجائز” عوض شرح “الوجوب” و”الاستحالة” و”الجواز” مردّه إلى كون تصوّر الأولى ـ وهي أوصاف مشتقة ـ يستلزم «تصور مصادرها؛ لأن المشتق أخصُّ من مصدره الذي اشتُق منه، ومعرفة الأخصِّ تستلزم معرفة الأعمِّ بخلاف العكس»(70)؛ فأنت إذا تحققت من معرفة “الواجب” مثلا ـ وهو الأخص ـ فإن معرفة “الوجوب” ـ وهو الأعم ـ لازمة ضرورة عنه. وهذه قاعدة منطقية منطوقها: «ثبوت الأخص يستلزم ثبوت الأعم ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص» وهي جارية في كل المعقولات؛ فثبوت السواد مثلا يلزم عنه بالضرورة ثبوت وجوده ووجود اللون، كما أن انتفاء الأخص (وهو السواد) لا يوجب انتفاء الأعم (وهو اللون)(71) وهذا ظاهر لمن أمعن النظر في المثال. 
2ـ إنفاذ مفهوم الحكم العقلي في إثبات العقائد:
لقد تهمّم المتكلمون بتقعيد مفهوم الحكم العقلي بأقسامه الثلاثة ليسهل ولوج أبواب المسائل الكلامية؛ إذا هي بمثابة المفتاح بالنسبة إلى الباب (على ما أكدت في القسم الأول من هذه الدراسة)، فأنت «إذا تصورت معنى الواجب والمستحيل والجائز سهُل عليك حينئذ معرفة ما يجب لمولانا تبارك وتعالى من الكمالات، إذ الحكم بوجوبها لمولانا جل وعلا فرع تصور معنى الواجب»(72)، الأمر نفسه بخصوص معرفة المستحيل والجائز. والقاعدة العامة في باب الإلهيات خاصة ـ وهي روح علم الكلام وعمدة أهل التوحيد ـ أن «الكمالاتِ كلَّها واجبة، والنقائص كلها مستحيلة [… وأما الجائز في حقه تعالى فـ] هو التصرف في العالم بالإيجاد والإعدام، والإمداد والإغناء والإفقار، والإعزاز والإذلال، والتقريب والإبعاد، والإشقاء والإسعاد، لأن الكل ملكه، وهو فعال ما يشاء، لا يجب عليه شيء منه ولا يمتنع، إلا ما اختار الله تعالى أن يقع»(73). 
وبناء على مفهوم الحكم العقلي أثبت المتكلمون ـ أولا ـ وجود الله تعالى من خلال النظر في الخلق والمخلوقات وهي أفعاله الدالة عليه؛ لأن الشيء إذا لم يُعرف بالحس والضرورة (وقد تشرّبت معناهما سابقا) كانت الآيات والعلامات الدالة عليه طريقا إلى معرفته، لأن «المقصود من النظر في أفعال الله تعالى تحصيل العلم بافتقارها إلى فاطر لها مدبّر عليم»(74)، وهذا بناء على حكم عقلي مركوز في العقل لا يقبل وجود شيء بدون موجد حتى يصل إلى الإقرار بوجود موجد لا موجد له وإلا وقع في التسلسل أو الدور وهما منفيان في العقل من حيث كونه عقلا؛ لأن الدور «هو توقف الشيء على ما يتوقف عليه» بحيث يتوقف “أ” على “ب” و”ب” على “أ”(75)، وهذا مما ينفيه العقل ضرورة أو بنظر قريب، وينبني عليه أن العالم الذي هو خلق “إله خالق” يستحيل أن يكون خالقا له، والإله الخالق يستحيل أن يكون خالقا مخلوقا في آن معا. وأما التسلسل فـ«هو ترتيب أمور غير متناهية»(76) بحيث يكون العالم حلقة في سلسلة من الأشياء/المخلوقات اللامتناهية التي لا تنتهي في الأزل، وحتى إذا افترضنا وجود “إله” فهو معلول لعلة سابقة عليه وهذه معلولة لأخرى إلا ما لا نهاية، وهذا بيّن البطلان؛ إذ العقل الصريح يبطله لأنه من المستحيلات العقلية. 
وعلى وِزان هذه الاستدلال، يستفيض علماء الكلام، بعد إثبات وجود الله بالأحكام العقلية الضرورية والنظرية ومناضلة الدهريين (=الملاحدة)، في إثبات صفات الكمال ونفي أوصاف النقص؛ فأثبتوا الصفة النفسية والصفات السلبية وصفات المعاني والصفات المعنوية(77)، وانبنى هذا الإثبات على مفهومهم من الحكم العقلي بأقسامه ودلالاتها. والحق أن القوم يُنازعهم أصحابُ المذاهب العقدية الأخرى كالفلاسفة الإسلاميين والمعتزلة والأثريين٭٭ في التسليم ببعض معاني الحكم العقلي وابتناء العقائد عليها رغم اندراج الجميع داخل دائرة الإسلام ورغم اتفاق أغلبهم على ضرورة بناء العقائد على العقل. والخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة في باب الصفات أشهر من أن يُحكى؛ فمقابل إثبات الأشاعرة صفة “العلم” مثلا لله تعالى على أنها صفة قديمة بناء على حكم عقلي مفاده أن كون العالِم عالما إنما لـ”علة” العلم، وهذه علة عقلية واجبة لا تتغير سواء في الشاهد (الإنسان) أو في الغائب (الله جل جلاله)؛ لأن «العلة العقلية موجبة للحكم لا يصح تبدل الحكم عليها»(78)، يذهب المعتزلة إلى خلاف ذلك فرارا من السقوط في القول بتعدد القدماء (الله تعالى، وصفة العلم، وباقي الصفات الأخرى القديمة التي أثبتها الأشاعرة) ولهم في ذلك مستندات يعتقدون أنها عقلية كذلك، الأمر نفسه بخصوص تنازع الفلاسفة والأشاعرة في عدد من المسائل العقدية العقلية أشهرها “مسألة قدم العالم”.. مما يبين أن النزاع بين النظار والعقلاء من مختلف المذاهب إنما مربط الفرس فيه الاختلاف في المواضعة على مفهوم الحكم العقلي عند كل فريق. وإنما تعضّد مذهب الأشاعرة من بين كل المذاهب والفرق لتجمهر أغلب العلماء في القديم والحديث عليه والاستطالة في الذب والمحاماة عليه عقلا ونقلا حتى استقر مذهبا عقديا يتميز بشبه إجماع وبمنسوب كبير من المعقولية مع التسنُّن والاستمساك بالهدي القرآني والاعتزاء إلى السلف.
لقد أعمل الأشاعرة مفهوم الحكم العقلي وأنفذوه في كل مسائل العقيدة. ولئن ضاق المقام ببسط نماذج كثيرة من كل باب من أبوابها تدليلا منا على صحة هذه الدعوى، فحسبنا أن نورد ـ على سبيل الإيجاز ـ ما تمحّض عن هذا الإنفاذ من القواعد النظرية والإشكالات العقدية التي لا يزال بعضها مثارَ التناقد إلى يوم الناس هذا، ليتبين لك بما لا يدع مجالا للشك محورية هذا المفهوم في البناء المفاهيمي والمنهجي لعلم الكلام.
أولا؛ يحيلك مفهوم الحكم العقلي ـ بأقسامه الثلاثة الواجب والمستحيل والجائز ـ وانقسامُه إلى “ضروري” و”نظري” على مسائل منهجية وفلسفية جدلية، منها:
ـ استشكال مفهوم الحكم العقلي، ابتداء، والنظر في إمكان قيام المعرفة العقلية أديا إلى نقاش مستفيض مع من اعتبرهم علماءُ الكلام نفاةً للحقائق وهم دعاة “السفسطائية”؛ وقد تقصّدوا من ذلك الدفاع عن “معقولية” العقائد الدينية والانتصارَ لحقائقهما من خلال تقعيد مناهجِ النظر في بناء المعارف العقلية العلمية وطرائقِ الاستدلال عليها، والتأصيل لإمكانية قيام المعرفة بالعقل وانبناء بعضها على بعض.   
ـ أسفر استشكال مفهوميْ “الضرورة” و”النظر” عن خلاف حاد بين جمهور المتكلمين وبين من أُطلق عليهم “أصحاب المعارف” القائلين بأن العلوم كلها ضرورية(79)؛ وهذا الخلاف نتج عن الاختلاف في تحديد معنى الضرورة وسبل اكتساب المعرفة، وهل هي مولّدة أم مكتسبة؟ وهل المكتسب منها ـ على رأي الأشاعرة ـ يقع ضرورة لا انفكاك عنه أم لا؟ وهل هنالك فرق بين معنى “الضرورة” ومعنى “البديهة”؟.. إلى غير ذلك من المسائل والمضائق المولَجة في هذا الباب. وقد يتعجب البعض من كون هذا الخلاف طال المذهب الأشعري نفسَه حتى اشتُهر فيه رأي الجويني والرازي القائل بأن العلوم كلها ضرورية.
ـ القول بوجوب النظر لمعرفة الله تعالى وتحريم التقليد مادام الإنسان لا يتوصل إلى العلم به بالضرورة العقلية أو الحسية. وغني عن التذكير ما رافق القول بوجوب النظر من خلاف حاد حتى داخل مذهب الأشاعرة أيضا وبقي قائما إلى زمن المتأخرين منهم، وألِّفت في ذلك رسائل كثيرة. وتفرّع عن هذه المسألة التمييز بين النظر الإجمالي والنظر التفصيلي؛ الأول فرض عين في حق العامة من الناس، والثاني فرض كفاية في حق علمائهم.
ثانيا؛ نجم عن استخدام مفهوم الحكم العقلي في الاستدلال على وجود الله وإثبات صفاته تقعيدُ جملة من القوانين العقلية والقواعد العقدية، أهمها:
ـ القول بـ”نظرية الحدوث” لإثبات “القديم” تعالى؛ وليس يخفى أن “دليل الحدوث” من أوثق ما يستمسك به الأشاعرة في مسلك إثبات وجود الله تعالى، وهذا الدليل ينطوي على أحكام عقلية ملزمة أبرزها أن ما من حادث إلا وله محدِث أحدثه، والأخذ بهذا الدليل جرّ علماء الكلام إلى مناقضة آراء الدهريين والملحدين كما ألمعنا قبلُ؛ فكان لزاما عليهم أن يثبتوا بالحكم العقلي كون العالم حادثا، فاستدلوا بالتغير والتقلب من حال إلى حال والأفول والاندثار..  على كون العالم حادثا، وما كان هذا شأنه كان محدَثا، وما كان محدثا فلا بد له بالضرورة العقلية من محدِث أوجده.
ـ القول بمجموعة من المستحيلات العقلية؛ من قبيل إحالة “الدور” و”التسلسل” ـ على ما رأينا ـ وإحالة “رجحان الشيء بدون مرجِّح” وإحالة فعل بدون فاعل.. وغيرها من القوانين العقلية الملزمة.
ـ إثبات الصفات الإلهية بناء على الأدلة والعلل العقلية وهي محض أحكام عقلية. وذلك من قبيل إثبات صفة الحياة لله بعد إثبات العلم والقدرة والإرادة؛ إذ الحياة شرط لها. وكذا انبنى إثبات هذه الصفات جميعا على مفهوم الحكم العقلي؛ فإن تقرر أن للعالم خالقا، فإن شواهد الإحكام والإبداع والنظام تدل على أن صانعه عالِم مريد قادر، وليس العالم والمريد والقادر إلا من يتصف بصفات العلم والإرادة والقدرة، وهي صفات للذات الإلهية قديمة غير حادثة، والقول بخلاف ذلك ينافي دلالة “الوجوب العقلي” كما هي مقررة في العقل، على الأقل من وجهة نظر أشعرية.
ـ إمعانا في التنزيه؛ أدى إثبات صفة “المخالفة للحوادث” لله تعالى إلى تأويل مجموعة من ظواهر النصوص القرآنية والحديثية الدالة على ما سُمي بـ”المتشابهات” أو “الصفات الخبرية” سواء تعلق الأمر بالذات أو الأفعال (مثل الوجه واليدين والساق بخصوص الذات، ومن قبيل الاستواء والمجيء والنزول بالنسبة إلى الأفعال) وذلك وفقا، من جهة، لقواعد اللغة العربية التي تسنح بهذا النوع من التأويل، ومن جهة أخرى، اتباعا لبعض الصحابة في سلوك هذا المسلك كابن عباس رضي الله عنهما، هذا فضلا عن كون الدليل العقلي لا يقبل اتصاف الباري تعالى بها.
ثالثا؛ ترتب عن الحكم العقلي، خصوصا قسمَ الجائز منه، تقرير جملة من القواعد والعقائد الأشعرية الخالصة، منها:
ـ قاعدة “لا يجب على الله شيء”؛ فمادام ما سوى الله مخلوقا له ومبروءا منه، وهذا الخلق فعلُه تعالى والفعلُ جائز ـ إذ يصح في العقل وجوده كما يصح عدمه ـ فإنه لا يجب عليه فعل أي شيء خلافا للمعتزلة القائلين بـ”نظرية اللطف الإلهي” ووجوب فعل الصلاح والأصلح..
ـ بناء على مفهوم الجائز العقلي ناقض الأشاعرة قول البراهمة ـ وهم من المؤمنين بوجود الله ـ باستحالة بعث الرسل؛ إذ فعل ذلك، إذا لم يكن من المستحيلات العقلية كما هو ليس من الواجبات العقلية، فهو جائز عقلا يصدقه العاقل ولا سبيل إلى نفيه بالحكم العقلي.
ـ كذلك تمحّض عن الأخذ بالجواز العقلي، بحسب مذهب الأشاعرة، القول عقلا ـ لا شرعا ـ بجواز التكليف بما لا يطاق مادام جائزا في العقل غير مستحيل، وهذا المعتقد ناتج عن إثبات صفة الإرادة المطلقة لله. ومن ذلك أيضا القول بجواز ثواب الكافرين ومعاقبة المؤمنين جوازا عقليا لأن الله لا يجب عليه شيء عقلا، أما شرعا وتنجيزا فالأمر مرده إلى الدليل الشرعي. وحري بالتذكير، بخصوص هذه المسألة، بالخلاف الناشب بين الأشاعرة والمعتزلة في مسألة “التحسين والتقبيح” (وهي ما هي في تاريخ علم الكلام!) وما نجم عنها من تقريرات عقدية مختلفة بين المذهبين أبرزها القول بتخليد أصحاب الكبائر من المسلمين في النار من عدمه، والخلاف مشهور معروف لا يسع المقام للإيغال في تفاصيله.
ولعل فيما عرضنا له من نماذج (وقد ارتأيت عدم توثيقها فرارا من إثقال الحواشي والهوامش ولثبوتها في جل المصنفات الكلامية) كفاية ومقنعا، وهي شاهدة على مدى إجرائية مفهوم الحكم العقلي ودرجة إعماله في أبواب العقيدة كلها، وليس ذلك إلا دليلا واضحا على روْم الأشاعرة تقعيد المعتقدات تقعيدا عقليا، تكييفا لها مع نُظُم اشتغال العقل الإنساني، وإمعانا منهم فيما نسميه بـ”تعقيل الاعتقاد”؛ وهي المسؤولية العلمية التي أرى من واجب علماء الكلام والعقيدة إفراغ الوُسع في أدائها وتحقيق مناطها دون انقطاع إلى يوم القيامة لمواصلة عملية الوصل بين النص والعصر في فهم العقائد الدينية عن طريق بذر أصول التفكير العقلاني في عقول المسلمين وترشيد فهم كوني للعقيدة.
على أن أخذ المذهب الأشعري بمفهوم الحكم العقلي بدلالاته التي عرضنا لها تقتضي وجود اقتناع عقلي راسخ بإمكانية الاستدلال على وجود الله وصفاته وأفعاله بالعقل، وهذا مما ينازع فيه عدد من الفلاسفة الغربيين في العصر الحديث أبرزهم الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط صاحب نظرية “العقل العملي” مقابل “العقل المجرد”، والفيلسوف الفرنسي بليز باسكال المشهور في هذه الباب بـ”رهان باسكال”، والفيلسوف الأمريكي وليام جيمس صاحب “النظرية البراغماتية” الشهيرة التي امتدت إلى المعتقد الديني. وهؤلاء ـ إضافة إلى غيرهم من الفلاسفة ـ يقرون بوجود الله وبضرورة الإيمان به إلا أنهم يعتبرون إقرارهم محضَ اعتقاد ديني أخلاقي وتجربة روحية استنادا إلى منعِهم من إمكانية الاستدلال على ذلك بمناهج العقل المجرد. وهذا الاستدراك الفلسفي سنقف عليه بالتفصيل في القسم الرابع من هذه الدراسة بحول الله؛ وسأبين الآفات الخطيرة والمحاذير الجسيمة التي تترتب عنه. 
لكن قبل ذلك، سنمضي في القسم الثالث من هذا البحث إلى استشكال مصطلح الحكم العقلي من مآتيه اللغوية وموارده الشرعية إيفاء منا بما وعدناكم به في ديباجة القسم الثاني من هذا البحث.
 
إنجاز: الباحث محمد أمين السقال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المواقف (بشرح الشريف الجرجاني)، الإيجي عضد الدين، تح: عبد الرحمن عميرة، دار الجيل – بيروت، ط1، 1997، ج1، ص. 43. وهذا التعريف تناقلته بصيغ متفاوتة كتب المذهب؛ قارن مثلا: تحفة المريد على جوهرة التوحيد، البيجوري برهان الدين، تح: علي جمعة، دار السلام، القاهرة، ط1، 1422هـ ـ 2002م، ص 40. بل ورد في بعض كتب المعاجم والاصطلاح العام بالصيغة نفسها، انظر: كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي، تح: علي دحروج، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، ط1، 1996م، ج1، ص. 31.   
(2) التعريفات، الجرجاني الشريف علي بن محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1403هـ ـ 1983م، ص 92.
(3) كشاف اصطلاحات الفنون، مصدر سابق، ص. 695. بتصرف.
(4) هذا التقسيم شاع عند المتأخرين حتى بات حكما كليا مطلقا، يقول التفتازاني (ت. 791هـ) في شرحه على “العقائد النسفية”: «اعلم أن الأحكام الشرعية، منها ما يتعلق بكيفية العمل وتسمى فرعية وعملية. ومنها ما يتعلق بالاعتقاد، وتسمى أصلية واعتقادية. العلم المتعلق بالأولى، يسمى علم الشرائع والأحكام، لما أنها لا تستفاد إلا من جهة الشرع، ولا يسبق الفهم عند إطلاق الأحكام إلا إليها. وبالثانية علم التوحيد والصفات، لما أن ذلك أشهر مباحثه وأشرف مقاصده» (تح: السقا أحمد حجازي، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، ط1، 1407هـ ـ 1987م، ص. 10).ونحن لنا موقف نقدي من هذا التقسيم؛ صحيح أن له مسوغات فنية وتعليمية الغرض منها وضع الحدود المائزة بين العلوم الشرعية، إلا أنني أعتقد أن تجريد الاعتقادات والمقولات الكلامية من طابعها العملي وفصلها عن روافدها السياسية والاجتماعية كانت سببا من أسباب الازدراء بعلم الكلام واتهامه من طرف خصومه على أنه محض ترف علمي مفصول الصلة عن “العمل”، كما أعدُّه عاملا من عوامل تصيير علم الكلام ـ بعد مرحلة التأسيس ـ بعيدا عن الجمهور وأشبه ما يكون باللاهوت، رغم أنه علم شريف أصيل خرج من رحم المخاض الحضاري والفكري للمسلمين في مواجهة العقائد المخالفة، بل وانبجس شيئا فشيئا من رحم المعاناة بسبب سياسة الجبر وإخضاع المسلمين للسلطة السياسية باسم القدر والسنة والجماعة… وحكمي هذا مجمل سنعمل على تفصيله فيما يستقبل من البحوث بحول الله. وحسبنا الإشارة في هذا المقام إلى أنني أميز بين مفهوم “الفعل” ومفهوم “العمل”؛ الأول خاص ينصرف إلى أعمال الجوارح، والثاني أعم يشمل الأولى كما يشمل أعمال القلب والعقل، ولنا شواهد ودلائل في هذا الباب سنعرضها في موضعها.
(5) شرح المقاصد، التفتازاني سعد الدين، تح: عميرة عبد الرحمن، عالم الكتب، بيروت، ط2، 1419هـ ـ 1998م، ج1، ص. 165.
(6) المصدر نفسه، ص. 176. وراجع شرح التفتازاني لهذا الكلام ـ وهو كلام نفسه لأن “المقاصد” من تأليفه أيضا ـ في الصفحات التالية. 
والحق أن الحكم أعلاه القائلَ بأن أحكام علم الكلام شرعية رغم أنها لا تتوقف على الشرع قد يبدو قولا مؤوفا بآفة “الدوْر”؛ إذ الشرع يتوقف إثباته على شيء خارج عنه وهي أحكام العقول المبنية على النظر والاستنباط، وهذه الأحكام هي بدورها شرعية مستقاة من الشرع أو تتطابق مع الشرع، وهذا وقوع في الدور. وقد تصدى علماء الكلام لهذا الإشكال، منهم الإيجي في المقصدين السابع والثامن من “المواقف” (ج1، ص. 204 ـ 205 ـ 208) فراجعهما.
(7) التعريفات، مصدر سابق، ص. 104.
(8) راجع أقسام الدليل في “الإنصاف” للباقلاني، تح: الكوثري محمد زاهد، المكتبة الأشهرية للتراث، القاهرة، ط2، 1421هـ ـ 2000م، ص. 15. وقارن: التقريب والإرشاد، للباقلاني أيضا، تح: ابن علي أبو زنيد عبد الحميد، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1418هـ/1998م، ج1، ص. 204 ـ 205. 
ولا يعتقدن البعض أن الحدود والتقسيمات المذكورة أعلاه خرجت عن الاصطلاح العام بالإحالة على كتاب في علم الكلام كـ”الإنصاف” للباقلاني؛ إذ لا يعدو الأمر الوقوف على التمايزات العامة بين الأدلة وأنواع العلاقات اللزومية المتضمنة فيها، لذلك لا تستغرب إذا وجدت هذه التقسيمات العامة في كتب أصول الفقه وعلم الكلام فضلا عن كتب الاصطلاح العام.
(9) استفدنا هذا التقسيم من عمل القرافي في كتابه “الفروق” على التمييز في الفرق الثالث والأربعين بين اللزوم الكلي واللزوم الجزئي؛ حيث جعل من الربط بين الشيئين المترابطين في اللزوم الكلي ربطا كليا واقعا على اختلاف الزمان والمكان والأحوال بخلاف اللزوم الجزئي. وقد قدم للزوم الثاني (الجزئي) مثال العلاقة اللزومية بين الطهارة الصغرى والطهارة الكبرى جوابا له عن سؤال اعتبره القرافي قويا حسنا يقول بانتفاء الطهارة الكبرى إذا انتفت الصغرى عملا بالقاعدة العقلية القائلة “أنه يلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم”، وذلك من باب إعنات السائل للفقهاء القائلين بأن الغسل (المحقق للطهارة الكبرى وهي الملزوم في المثال) يغني عن الوضوء (الطهارة الصغرى، وهي اللازم في المثال). وقد أجاب القرافي عن السؤال استنادا على التقسيم المنوه به أعلاه، فراجعه في “الفروق”، دراسة وتحقيق: سراج محمد أحمد وجمعة علي، دار السلام، القاهرة، ط1، 1421هـ ـ 2001، ج1، ص. 374 ـ 376. 
(10) المصدر نفسه، ص. 374. وقد يُستدرك على القرافي في المثال الثاني المتعلق بالكتابة؛ حيث توصل العلم الحديث إلى ابتداع طريقة في الكتابة على الحاسوب بمجرد الإملاء الشفوي دون تحريك لليد، إلا إذا اعتبرنا أن الفعل لا يسمى “كتابة” إلا إذا تم بالقلم بواسطة اليد. وعلى العموم فالقصد الحث على ضرورة مراجعة مجموعة من الإطلاقات التي كانت مسوغة سليمة في عهد الأقدمين وقد لا تكون كذلك في زماننا.
(12) نفسه، ص. 375.
(13) رسالة في استحسان الخوض في علم الكلام، الأشعري أبو الحسن، ضمن: توحيد الأشعري، تعليق: الأب رتشرد يوسف مكارثي، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1953م. ص. 95 
وقد يستدرك علينا البعض بأن الأشعري في كتاب “الإبانة” ينحو نحو تقرير الأصول والعقائد تقريرا نقليا ظاهريا بعيدا كل البعد عن المنهج الكلامي العقلي، والحق أن هذا الاستدراك له وجاهته، ولا ريب أنه كان سببا مباشرا في الجهر بثلاثة مواقف متباينة من كتاب الإبانة:
ـ موقف ينفي نسبة الكتاب إلى الأشعري، لمنافرة منهجه لنهج الأشعري في كتبه الأخرى من قبيل اللمع ورسالة استحسان الخوض في علم الكلام (وهي أيضا لا تخلو نسبتها إليه من كلام)، والكتب التي جردت مقالاته مثل كتاب “مجرد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري” لابن فورك. وقد ذهب هذا المذهب جمع من المحدثين والمعاصرين في مجموعة من الدراسات والبحوث لعل أحدثها مقالة بعنوان: كتاب “الإبانة عن أصول الديانة”: تحقيق في نسبته إلى أبي الحسن الأشعري، زهري خالد، مجلة الإبانة، مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوث العقدية، تطوان، عدد 1، 2013، [ص. 119 ـ 150].
ـ موقف يثبت نسبة الكتاب إليه معتبرا مضامينه آخر ما انتهى إليه الأشعري في الاعتقاد. وهذا رأي جل الأثريين المناهضين لعلم الكلام. 
ـ موقف تكاملي توفيقي يقرأ أعمال الأشعري التي وصلتنا قراءة تكاملية سياقية بعيدا عن منهج التجزيء والتصنيف الإديولوجي. وهذا الموقف يجد له شاهدا في بحث “مشروعية علم الكلام عند الأشعري ومشروعه” لجمال علال البختي، مجلة الإبانة، مركز أبي الحسن الأشعري، تطوان، العدد 1، 2013، [ص. 17 ـ 71].  
(14) مجرد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري، ابن فورك أبو بكر محمد، تحقيق دانيال جيماريه، دار المشرق، بيروت، 1987، ص. 31.
(15) والقول بأن العقل نقيض الجهل نقله الأشعري من كتاب العين للخليل الفراهيدي. انظر “المجرد”، مصدر سابق، ص 31. وقارن ص. 284 حيث يلاحظ أن الأشعري يرادف بين “العقل” و”العلم” و”المعرفة”.
(16) المصدر نفسه، الصفحة نفسها، بتصرف كبير؛ فالاصطلاح من عندنا والمضمون مستوحى من كلام الأشعري.
(17) نفسه، ص. 284.
(18) طلب الدليل في العقائد وغيرها مطلوب بل واجب في بعض المسائل/المضايق، بيد أن صنفا من الناس ـ بإيعاز من نزعة شكوكية أو فلسفية سوفسطائية قد يتقعرون في المطالبة بالبرهان حتى في بدائه الأمور التي لا مرجع قبلها وهذا محض تنطع لم يعرفه العقلاء سواء كانوا من المشتغلين بالإلهيات كالمتكلمين أو الفلاسفة، أو من المشتغلين بالعلوم الحقة كالرياضيات والفلك والفيزياء، أو من يشتغل بالأحكام الشرعية كالأصوليين والفقهاء.. فدائما هنالك في كل حقل من هذه الحقول العلمية مرجعية من المبادئ والبديهيات والمسلمات والمصادرات تكون أرضية ينطلق منها ويبنى عليها. وهذا الحكم يتفق عليه بخصوص موضوع البحث الفلاسفة والمتكلمون على حد سواء. 
يقول الكندي «وقد ينبغي أن لا يطلب في إدراك كل مطلوب الوجود البرهاني؛ فإنه ليس كل مطلوب عقلي موجودا بالبرهان، لأنه ليس لكل شيء برهان، إذ البرهان في بعض الأشياء؛ وليس للبرهان برهان، لأن هذا يكون بلا نهاية، إن كان لكل برهان برهان فلا يكون لشيء وجود البتة»، رسائل الكندي الفلسفية (القسم الأول)، الكندي أبو يوسف، تح: أبوريدة محمد عبد الهادي، دار الفكر العربي ومكتبة الخانجي، القاهرة، ط2، 1978، ص. 44. والمقولة التي أثبتها أعلاه مستلة من نص الكندي هذا.
(19) المجرد، مصدر سابق، ص. 15.
(20) المصدر نفسه، ص. 16 ـ  17.
٭ المؤوف نعت يستعمله المتكلمون لتوصيف من به آفة. وقد استعمله السلالجي في “العقيدة البرهانية” وشرحه اليفرني في شرحه عليها في “المباحث العقلية”، فقال: «وقوله “أو موؤوفا”: أي ذا آفة، والآفة: العاهة». انظر “المباحث العقلية في شرح معاني العقيدة البرهانية”، اليفرني أبو الحسن، تح: علال البختي جمال، الرابطة المحمدية للعلماء، الرباط (مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوث العقدية ـ تطوان ـ)، سلسلة ذخائر من التراث الأشعري المغربي (7)، ط1، 1438هـ/2017م، مج2، ص. 871.
(21) المجرد، مصدر سابق، ص. 17.
(22) المصدر نفسه، ص. 286.
(23) نفسه، ص. 148. وقد أفاض الأشعري في بيان أسباب كون معرفة الله اكتسابا وليست بضرورة، فليرجع إليها في موضعها. 
(24) اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع، الاشعري أبو الحسن، تصحيح وتقديم وتعليق: غرابه حمودة، مطبعة مصر، 1955، ص. 18.
(25) المجرد، مصدر سابق، ص. 79. 
(26) المصدر نفسه، ص. 99.
(27) نفسه، ص. 139.
(28) نفسه، ص. 140.
(29) نفسه، ص. 170.
(30) العقيدة النظامية، الجويني أبو المعالي، تح: الكوثري محمد زاهد، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة، 1412هـ ـ 1992، ص. 15. 
(31) قد يتفاجأ البعض من أن هذا النقد أو الطعن، فضلا عن صدوره من جل محرّمي علم الكلام خصوصا أهلَ الأثر والظاهر، صدر عن بعض الأشاعرة أيضا، يقول ابن التلمساني (الأشعري): «والقول بأن جميعها [أي الدلائل النقلية] مظنون  يُطرِّق الطعن إلى جملة الشريعة»، وابن التلمساني هنا يرد على الإمام الرازي في قوله: «فإذا ثبت هذا، ظهر أن الدلائل النقلية ظنية، وأن العقلية قطعية، والظن لا يعارض القطع». راجع: شرح معالم أصول الدين، ابن التلمساني، تح: سالم عواد محمود عواد، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة، ط1، 1432هـ ـ 2011م، ص. 125 ـ 126.
(32) شرح المقدمات، السنوسي أبو عبد الله، تح: حمادي نزار، مؤسسة المعارف، بيروت، ط1، 1430هـ ـ 2009م، ص. 52.
(33) المباحث العقلية: مصدر سابق، مج1، ص. 435.
(34) سبق لنا أن عرفنا مفهومي “التصور” و”التصديق” في القسم الأول من هذه الدراسة في الهامش رقم: (7)، فلتراجع في موضعها على موقع المركز. 
(35) شرح المقدمات، مصدر سابق، 52.
(36) المصدر نفسه، ص. 53 ـ 73. بتصرف. 
والمعطيات المذكورة بخصوص الحكم العقلي وأقسامه تكاد تتطابق رسما ومبنى وشرحا عند متأخري الأشعرية، لذلك فضلت الاعتماد على المباحث العقلية لليفرني و”شرح المقدمات” للسنوسي ـ إلا ما احتاج إلى كلام غيرهما ـ عوض التكثير من النقولات من المصادر والمراجع الأخرى؛ فهي جميعا في معرض بسط هذه “المقدمات النظرية” شِرْعٌ. ولك أن تراجع:
ـ أم البراهين بشرح الملالي، تحقيق خالد زهري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 2009، ص. 55 ـ 57.
ـ حاشية الباجوري المسماة تحقيق المقام على كفاية العوام في علم الكلام، الباجوري إبراهيم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2007م ـ 1428هـ، ص. 43 ـ 51.
ـ حاشية الصاوي على جوهرة التوحيد، الصاوي شهاب الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2010، ص. 37 ـ 41.
ـ شرح صغرى الصغرى في علم التوحيد، السنوسي أبو عبد الله محمد بن يوسف، تعليق سعيد فودة، دار الرازي، عمان، ط1، 1427هـ ـ 2006م، ص. 42 ـ 52.
ـ تقريب البعيد إلى جوهرة التوحيد، التميمي المؤخر الصفاقسي علي بن محمد، تح: الحبيب بن طاهر، مؤسسة المعارف، بيروت، ط1، 1429هـ، ص. 39 ـ 41.
ـ هداية المريد لجوهرة التوحيد، اللقاني برهان الدين إبراهيم، تح: البجاوي مروان حسين عبد الصالحين، دار البصائر، القاهرة، ط1، 1430هـ / 2009م، ج1، ص. 168.
ـ العقائد الدرية شرح متن السنوسية، محمد الهاشمي، ط3، مطبعة مصطفى الباني الحلبي وأولاده بمصر، دت، ص. 4 ـ 6.
ـ الأنوار الإلهية على متن المقدمة السنوسية، النابلسي عبد الغني، دار البصائر، القاهرة، ط1، 1435هـ/2014م، ص. 207 ـ 214.
ـ تهذيب واختصار شروح السنوسية “أم البراهين”، عمر عبد الله كامل، دار المصطفى، مصر،  ط1، 1420هـ ـ 2005م، ص. 26 ـ 30.
(37) الطلب يكون إما على سبيل الأمر والندب (فيدخل فيه الواجب والمندوب والحرام والمكروه) والإباحة يستوي فيها الفعل والترك، وأما “الوضع” «فهو عبارة عن نصب الشارع أمارة على حكم من تلك الأحكام الخمسة.
“والأمارة” هي السبب والشرط والمانع؛ 
ـ فالسبب: ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته، كزوال الشمس لوجوب الظهر.
ـ والشرط: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، كتمام الحول مثلا لوجوب الزكاة.
ـ والمانع: ما يلزم من وجود العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته، كالحيض لوجوب الصلاة». شرح المقدمات، مصدر سابق، ص. 62 ـ 65. 
ومن أراد الاستزادة والتدقيق في معرفة دلالات هذه المفاهيم فعليه بكتب أصول الفقه. 
(38) المباحث العقلية في شرح معاني العقيدة البرهانية، مصدر سابق، مج1، ص. 435. 
(39) المصدر نفسه، مج1، ص. 436 ـ 437. ثم أورد اليفرني استدلالا آخر صورته المنطقية ـ سبْرا وتقسيما ـ كالآتي: «إن الزائد لا يخلو إما أن يتوقف ثبوته ونفيه على الشرع أو لا: فإن توقف، فهو “الحكم الشرعي”. وإن لم يتوقف على الشرع، فلا يخلو إما أن يفارقه محكومه أو لا: فإن فارق، فهو “العادي”. وإن لم يفارق محكومه، فهو “الحكم العقلي”؛ إذ هو لازم له، الوجوب لازم للواجب، والجواز لازم للجائز، والاستحالة لازمة للمحال»، ص. 437.
(40) الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، الجويني أبو المعالي، موسى محمد يوسف ـ عبد الحميد علي عبد المنعم، مكتبة الخانجي، مصر، 1369هـ ـ 1950م، ص. 15.
(41) الغنية في الكلام، الأنصاري أبو القاسم، تح: عبد الهادي مصطفى حسنين، دار السلام، القاهرة، ط1، 1331هـ/2010م، ص. 277. وراجع: العقيدة النظامية، مصدر سابق، ص. 13.
(42) التقريب والإرشاد، مصدر سابق، ج1، ص. 205.
(43) راجع: العقل وفهم القرآن، المحاسبي الحارث بن أسد، تح: القوتلي حسين، دار الفكر، ط1، 1391هـ ـ 1971م، ص. 201 ـ 212. وكتاب “المباحث العقلية” مصدر سابق، مج1، ص. 546. ولك أن تراجع للتوسع جزءا نفيسا من تقديم المحقق لكتاب “العقل وفهم القرآن”، ص. 114 ـ 192.
(44) مقدمات المراشد إلى علم العقائد، ابن خمير السبتي، تح: علال البختي جمال، مطبعة الخليج العربي، تطوان، ط1، 1425هـ/2004م، ص. 108.
(45) شرح المقدمات، مصدر سابق، ص. 75. وقارن: شرح صغرى الصغرى في علم التوحيد، مصدر سابق، ص. 48. وراجع بخصوص التفسير النحوي واللغوي لقول السنوسي: “ما لا يتصور في العقل” كلاما لليوسي في: “حواشي اليوسي على شرح كبرى السنوسي”، اليوسي أبو المواهب الحسن بن مسعود، تحقيق: حميد حماني اليوسي، دار الفرقان، الدار البيضاء، ط1، 2008، ج1، ص. 336.
(46) المباحث العقلية، مصدر سابق، مج1، ص. 438.
(47) حاشية الباجوري، مصدر سابق، ص. 45. 
(48) المعطيات السابقة نفسها. بتصرف. وقارن: شرح المقدمات، ص. 77.
(49) المباحث العقلية، مصدر سابق، مج1، ص, 438 بتصرف.
(50) المعطيات السابقة نفسها. 
(51) شرح المقدمات، مصدر سابق، ص. 77.
(52) تهذيب واختصار شروح السنوسية “أم البراهين”، مصدر سابق، ص. 27 ـ 28.
(53) المصدر نفسه، ص. 76. وقارن: أم البراهين بشرح الملالي، مصدر سابق، ص. 55.
(54) شرح المقدمات، ص. 77. وراجع تفسيرا لغويا للفظة “مستحيل” في “حواشي اليوسي، مصدر سابق، ج1، ص. 339.
(55) المباحث العقلية، مج1، ص. 439.
(56) حاشية الباجوري، ص. 48.
(57) المعطيات السابقة نفسها.
(58) شرح صغرى الصغرى، مصدر سابق، ص. 52. وقارن: أم البراهين بشرح الملالي، مصدر سابق، ص. 55.
(59) المعطيات السابقة نفسها.
(60) شرح المقدمات، ص. 78.
(61) المباحث العقلية، مج1، ص. 440.
(62) حاشية الباجوري، ص. 50.
(63) شرح المقدمات، ص. 79. وقارن: المباحث العقلية، مج1، ص. 440.
(64) المباحث العقلية، مج1، ص. 440. وقارن: حواش على شرح الكبرى للسنوسي، الحامدي إسماعيل بن موسى بن عثمان، مطبعة مصطفى الباني الحلبي وأولاده بمصر، ط1، 1354هـ / 1936م، ص. 100.
(65) شرح صغرى الصغرى، ص. 53 ـ 54. وقارن: شرح المقدمات، ص. 78.
(66) حاشية الباجوري، مصدر سابق، ص. 44. وقارن: شرح صغرى الصغرى، ص. 50.
(67) شرح الملالي على أم البراهين، مصدر سابق، ص. 55.
(68)  شرح صغرى الصغرى، ص. 50.
(69) الأنوار الإلهية على متن المقدمة السنوسية، النابلسي عبد الغني، دار البصائر، القاهرة، ط1، 1435هـ/2014م، ص. 210.
(70) شرح صغرى الصغرى، ص. 50.
(71) راجع: محك النظر في المنطق، الغزالي أبو حامد، (مطبوع مع “التقريب لحد المنطق” لابن حزم) تح: المزيدي أحمد فريد، دار الكتب العلمية، بيروت، ص. 227.
(72) شرح صغرى الصغرى، ص. 54.
(73) القانون في أحكام العلم وأحكام العالم وأحكام المتعلم، اليوسي أبو المواهب الحسن بن مسعود، تح: حميد حماني، مطبعة شالة، الرباط، ط1، 1998، ص. 189 ـ 190.
(74) الغنية في الكلام، مصدر سابق، ص. 222.
(75) التعريفات، الجرجاني الشريف، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1403هـ ـ 1983م، ص. 105. وله أقسام راجعها في محلها.
(76) المصدر نفسه، ص. 57. وله هو أيضا اقسام تراجع في موضعها. على أن هنالك من الملحدين أو الشكوكيين من يشكك في كون بطلان الدور والتسلسل من الأحكام العقلية الضرورية، ولعلنا ننتصب لبسط هذا الموضوع في بحث آخر حتى لا نخرج عن مقصود هذه الدراسة.
(77) الصفات الإلهية في المذهب الاشعري أربعة أقسام، وهي:
ـ الصفة النفسية وهي الوجود. وهو ما يعبر به عن نفس الذات العلية.
ـ الصفات السلبية: وهي القدم، والبقاء، والمخالفة للحوادث، والقيام بالنفس والوحدانية. ومعنى هذه الصفات يرجع إلى سلب نقص مستحيل على الباري تعالى.
ـ صفات المعاني: وهي سبعة (أو ثمانية على اختلاف في صفة الإدراك): القدرة، والإرادة، والعلم، والحياة، والسمع، والبصر والكلام. وهذه الصفات عبارة عن الصفات الوجودية القائمة بالذات العلية. 
ـ الصفات المعنوية: وهي كونه: قادرا، ومريدا، وعالما، وحيا، وسميعا، وبصيرا ومتكلما. وهي ملازمة لصفات المعاني.
وهناك من زاد قسما خامسا وهو صفات الأفعال. وهي عبارة عن التعلق التنجيزي للقدرة والإرادة بالممكنات، كخلقه تعالى، ورَزقه، وإماتته.. وهذه الصفات حادثة ليست قديمة بخلاف صفات الذات.
راجع مثلا: شرح المقدمات، السنوسي أبو عبد الله، تح: نزار حمادي، مكتبة المعارف، ط1، 1430هـ ـ 2009م، ص. 137 ـ 139.
٭٭ أقصد بالأثريين المانعين من الخوض في علم الكلام الآخذين في العقائد بالظاهر المنصوص عليه في القرآن والسنة استنادا على الآثار مصدرا ومنهجا لهم.
(78) المجرد، مصدر سابق، ص.303 ـ 304. وهذا الاستدلال يحيلنا مباشرة على موضوع “منهج الاستدلال بالشاهد على الغائب في المذهب الأشعري”، ولك أن تتوسع فيه في دراسة لنا ستصدر قريبا ضمن مجلة الإبانة، العدد الرابع، 2017.
(79) من “أصحاب المعارف” من المعتزلة؛ ثمامة النُّميْري (213هـ) والجاحظ (256هـ) وأبو علي الأسواري (توفي مطلع القرن الثالث الهجري)، ومن الأشاعرة؛ الجويني (478هـ) والرازي (606هـ) وإن كان ما يذهب إليه الجويني والرازي فيه غير قليل من الاختلاف والتميز عما جنح إليه أضرابهم من المعتزلة. وأنا بصدد تحرير بحث صغير مركز في الموضوع سيُنشر على موقع المركز.

بينا في القسم الأول من هذه الدراسة (وهو عبارة عن مدخل عام) مركزية “المفاهيم” في المنظومة العقدية الأشعرية، وما انبنى عليها من تنويه إلى ضرورة إعادة دراسة المفاهيم الأشعرية وفق منهجية علمية تبين عن إجرائيتها في تقرير العقائد الدينية وبناء مسائلها. ومما اختُص به هذا المدخل العام عرضُه لظهور مفهوم الحكم العقلي في الكتابات الأشعرية بالتساوق مع إبراز أهميته الكبرى وقيمته القصوى في المذهب الأشعري. وفي هذا الصدد، أوقفنا القارئ المهتم على كون المتأخرين من الأشاعرة أفردوا هذا الموضوع بعنوان مستقل خلافا للمتقدمين وجعلوه مقدمة وصدْرا لمصنفاتهم العقدية والكلامية، مع إبراز مبلغ تأثرهم بإمام الحرمين الجويني في المماهاة بين الأحكام العقلية ـ الواجبة والجائزة والمستحيلة ـ وبين العقل نفسه.

أما القسم الثاني من الموضوع فينكبّ على مفهوم الحكم العقلي تعريفا له ولأقسامه: (الواجب، والمستحيل، والجائز)، وبيان مصاديقه في بعض أبواب العقيدة ومسائلها، مع الاجتهاد في إثارة عدد من الإشكالات والتساؤلات التي تتمحض عن الاشتغال به والخوض في تعريفاته ومسائله.

وحري بالتنويه أن تحديد المفاهيم الكلامية والاصطلاحات العقدية، بالرغم من كونه من وسائل علم الكلام لا من مقاصده؛ إذ ليست المفاهيم مقصودة لذاتها وإنما لإثبات العقائد الإيمانية، وإن كان لا ندحة عنها لمن يروم الإلمام بمناهج المتكلمين وقضايا الاعتقاد، إلا أننا بخصوص موضوع “الحكم العقلي” بصدد مفهوم إشكالي مركّب له وجهان؛ وجه آلي (من الآلية)، ووجه مضموني مقاصدي، وليس أدل على ذلك من تعريف الأشاعرة لـ”مسائل” علم الكلام على أنها «المقاصد؛ وهي كل حكم نظري لمعلوم هو من العقائد الدينية أو يتوقف عليه إثبات شيء منها»(1). فيتحصل من ذلك أن النظر في مفهوم “الحكم العقلي” نظر مخصوص يمتزج فيه المنهج بالمضمون، وتتزاوج فيه آلة الاستدلال على العقائد بمضامينها الواجبِ اعتناقُها واعتقادها. فنحن إذن أمام “أُرْبة منهجية” سنعمل على حلّها بعد الوقوف على المفهوم من مفهوم الحكم العقلي في المنظومة الكلامية الأشعرية.

1ـ الحكم العقلي في الجهاز المفهومي الأشعري:

خلافا لما درج عليه الباحثون والدارسون ـ وفق المنهجية التقليدية المسلوكة في أغلب الدراسات العقدية ـ من تصدير دراسة المفاهيم (أو المواضيع ذات الصلة بها) بجرد لمعانيها اللغوية ثم الانتقال بعد ذلك لعرض تعريفاتها الاصطلاحية دون كبير إفادة من المعاني الأصلية المجرودة، سنعمل في هذه الورقة على انتهاج مسلك معكوسٍ الغايةُ منه تجنبُ مجرّد تكرير أقوال السابقين في الموضوع؛ بحيث نجتهد في تطعيمها بعناصر مفهومية ومضمونية جديدة من شأنها أن تخفِّف من فورة السياج التجريدي الذي تلبّس به مفهوم الحكم العقلي عند علماء الكلام خصوصا الأشاعرةَ منهم. 

1ـ1ـ التعريف الاصطلاحي العام:

نحن بإزاء مفهوم كلامي عبارة عن مركّب مصطلحي يتكون من لفظتين اثنتين؛ “الحكم” و”العقلي”، وإذا كان المسلك العلمي المعتبر للتعريف به يقتضي إفراد كل واحد منهما بحدٍّ مستقل للخروج بتعريف جامع يجمع بين المضمومين، فإنا سنرجئ ذلك إلى باب التعريف اللغوي والبيان الوحيوي (نسبة إلى الوحي) نظرا لقلة الفائدة المرجوّة من سلوك هذا المسلك في باب الاصطلاح العام والخاص، هذا فضلا عن غياب تعريف عام للمفهوم مجتمعا في كتب المعاجم والاصطلاح العام.  

يكشف التعريف الاصطلاحي العام لـ”الحكم” (مجردا من نسبة أو نعت) عن “عملية إسناد” تربط بين مقدمة ونتيجة أو بين موضوع ومحمول، فالحكم «إسناد أمر إلى آخر إيجابا أو سلبا»(2)  ولا بد في هذا الإسناد من “سند”، وهذا السند قد يكون شرعيا أو عقليا أو اصطلاحيا(3)؛ فالشرعي ما يؤخذ من الشرع، وهو نوعان:

ـ حكم شرعي متوقف على الشرع؛ بحيث لا يُدرك لولا خطابُ الشرع كوجوب الصلاة.

ـ حكم شرعي لا يتوقف على الشرع كوجوده تعالى وتوحيده.

الأول عملي فرعي، والثاني أصلي اعتقادي(4). أما الحكم العقلي ـ في هذا التقسيم العام ـ فلا يؤخذ من الشرع وإنما من مجرد العقل (أو إن شئت؛ من “العقل المجرد”) كالقول بأن الكل أكبر من الجزء والنقيضان لا يجتمعان..، وأما الحكم الاصطلاحي فمأخوذ من الاصطلاح وهو محض حكم فني يتعلق بمجاله.

يترتب على هذا التقسيم أن الحكم العقلي في علم الكلام يندرج في خانة “الأحكام الشرعية التي لا تتوقف على الشرع”، وهذا الاستنتاج مشكل؛ بحيث يبدو، في بادئ الرأي، كأنه يجمع بين الضدين؛ بين توصيفه بـ”الشرعي” والقول بعدم توقفه على الشرع، ويزداد هذا الاستنتاج لَبسا إذا استسلفنا أن الأحكام العقدية في علم الكلام الأشعري جلَّها أحكام عقلية. وهذا الالتباس سيرتفع بعد وقوفنا وشيكا على التعريف الاصطلاحي الخاص للمفهوم ـ مدار الدراسة ـ، وحسبنا في هذا المقام التنويه إلى مسألة “وجوب النظر” في المذهب الأشعري والقول بالوجوب الشرعي (لا العقلي، خلافا للمعتزلة)؛ فيكون الحكم مثلا بوجوده تعالى وصفاته “حكما شرعيا” من هذه الجهة نظرا لكون القول به ثمرةً للائتمار بالأمر الشرعي الموجب للنظر والداعي إليه، كما أنه حكم شرعي بموجب ما يترتب عليه من واجبات ونواه شرعية محددة لها صورتها وشروطها التي قررها الشارع الحكيم. ولك أن تستذكر تعريف أهل المذهب لعلم الكلام للتحقق من التوصيف الشرعي لأحكامه المستنبطة، إذ هو «العلم بالقواعد الشرعية الاعتقادية المكتسب من أدلتها اليقينية، وهذا هو معنى العقائد الدينية أي المنسوبة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، سواء توقف على الشرع أم لا»(5). ومن هذه الحيثية بان علم الكلام عن الفلسفة؛ إذ يتميز عنها «بكون البحث فيه على قانون الإسلام، أي ما عُلم قطعا من الدين كصدور الكثرة عن الواحد، ونزول الملك من السماء، وكون العالم محفوفا بالعدم والفناء، إلى غير ذلك مما تجزم به الملة دون الفلسفة»(6)، فيكون هذا الجزم حكما شرعيا وفقا لهذا المنزع الكلامي العام.

ثم إن مفهوم الحكم عموما ـ بتضمنه لمعنى السند ـ يحيلنا إلى مفهوم “الدليل”؛ إذ به تصح عملية الإسناد في الحكم؛ فلا حكم إلا بدليل يسنده. ومعنى الدليل في الاصطلاح العام «الذي يلزم من العلم به العلم بشيء آخر»(7)، بمعنى وجود “علاقة لزومية” بين الدال (أو اللازم) وبين المدلول (أو الملزوم). وهذه العلاقة تنقسم ـ من جهة أنواع الدليل ـ إلى ثلاثة أقسام(8):

ـ لزوم عقلي: يكون فيه الدليل عقليا له تعلق بمدلوله نحو تعلق الفعل بفاعله؛ إذ يلزم من وجود الفعل وجود فاعله. 

ـ لزوم سمعي شرعي: يستفاد من طريق النطق بعد المواضعة على صدق المخبر بالرسالة؛ لذلك كان لزوما توقيفيا من جهة توقفه على النقل من صاحب الشرع. 

ـ لزوم لغوي: تفرضه المواطأة والمواضعة على معاني الكلام ودلالات الأسماء والصفات وسائر الألفاظ، بل ودلالات الكتابات والرموز والإشارات والعقود.. وكل ما لا يدل إلا بالمواطأة والاتفاق. 

ولعله من نافلة القول، بخصوص خصيصة اللزوم الواجبِ توفرُها في الدليل بمعناه العام، أن نميز ـ من جهة النظر في تحقق مدى استلزام اللازم للملزوم أبدا من غير خُلْف أو تغيير ـ بين ضربين من اللزوم(9):

ـ أولهما لزوم كلي: يكون الملزوم فيه مربوطا باللازم ربطا كليا عاما لا يتخلّف أبدا، «وضابط اللزوم الكلي العام أن يكون الربط بينهما واقعا في جميع الأحوال والأزمنة وعلى جميع التقادير الممكنة كلزوم الزوجية للعشرة فما من حالة تعرض ولا زمان ولا تقدير يقدر من التقادير الممكنة إلا والزوجية في ذلك كله لازمة للعشرة وقد يكون اللزوم كليا عاما في الشخص الواحد كقولنا كلما كان زيد يكتب فهو يحرك يده أي ما من حالة تعرض ولا زمان ما يشار إليه وزيد يكتب إلا وهو يحرك يده في تلك الحال وفي ذلك الزمان، فاللزوم بين كتابته وحركة يده في جميع الأحوال والأزمان والشخصُ واحد، فهذا هو اللزوم الكلي»(10). وهذا الضرب يطرح إشكال إمكانية انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم من عدمها، وهو إشكال سنعرّج عليه عند عرض أقسام الحكم العقلي في المذهب الأشعري. 

ـ والثاني لزوم جزئي: ومعناه «لزوم الشيء للشيء في بعض الأحوال دون بعض أو بعض الأزمنة دون بعض»(11)، وفي هذه الحالة لا يلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم كما هو الشأن في علاقة «مؤثر بأثره؛ فإن المؤثر يجب حضوره حالة وجود أثره وهو زمن حدوثه دون ما بعد زمن الحدوث فكل بناء يلزمه البنَّاء حالة البناء دون ما بعد ذلك، فقد يموت البنَّاء ويبقى بعد ذلك البِناء، وكذلك الناسج مع نسجه وكل مؤثر مع أثره لزومُه جزئي في حالة الحدوث فقط، فلا جرم لا يلزم من عدم المؤثر بعد ذلك عدم الأثر؛ لأن العدم في تلك الحال عدم لما ليس بلازم وعدم ما ليس بلازم لا يقدح لا عقلا ولا عادة ولا شرعا»(12).

 

وفي ما يلي خطاطة تقريبية للتعالقات المفهومية لمفهوم الحكم في الاصطلاح العام

     

إذا، يتحصل من الدلالة الاصطلاحية العامة أن الحكم، كائنا ما كان، يقتضي دليلا/سندا يسنده ويدل عليه، وهذا الدليل لا بد أن ينطوي ـ من نظر قريب أو بعيد ـ على قوة استلزامية بحيث يستلزم هو في نفسه الحكم المبني عنه المستدَل عليه، وقد يكون اللزوم فيه كليا وعاما كما قد يكون جزئيا وخاصا. وهذا الاستلزام (=اللزوم) هو مدار نظر النظار وتنافس الأفكار في باب إثبات صدقيتها وصوابها؛ فكلٌّ يزعم أن الأحكام الصادرة عنه لازمة عن دليلها الملزم لها، ومع ذلك اختلف الفلاسفة في الإلهيات، وعلماء الكلام في الكلاميات، والفقهاء في الفقهيات، وعلماء اللغة في اللغويات واللسانيات.. 

وسوف يتبين لك، بعد حين، كيف أن علماء الكلام الأشاعرة يجعلون من الحكم العقلي حقيقة لازمة لزوما عقليا كليا وعاما لا يقبل الخلف، ولهم في ذلك دلائل ومسوغات سنثبتها في مواضعها.

فلننصرف الآن إلى بيان دلالات مفهوم الحكم العقلي في الاصطلاح الكلامي الأشعري.

1ـ2: تعريف الحكم العقلي في الدرس العقدي الأشعري: 

1ـ2ـ1: الحكم العقلي عند أبي الحسن الأشعري:

لا نجد في كتب شيخ المذهب أبي الحسن الأشعري (ت. 324هـ)ـ في حدود ما وصلنا ـ حدا اصطلاحيا لمفهوم الحكم العقلي بخلاف تلامذته من بعده خصوصا المتأخرين منهم، بيد أننا لا نعدم من كتبه نصوصا غزيرة تبرز أن العمدة في استدلالاته الكلامية على صحة العقائد الدينية، كما فهمها وقعّد لها، هي الأحكام العقلية المشتركة بين العقول، ولو لم تكن مشتركة لما قامت الحجة على العقلاء، لذلك تجده ـ وفقا لهذه القناعة ـ يسرع إلى التمييز بين صنفين من الأحكام في الدين(13):

ـ أحكام الشريعة: وهي الفروع التي لا تستدرَك أحكامُها إلا من جهة السمع والرسل. وهي المعبر عنها في الاصطلاح العام ـ كما رأينا ـ بـ”الحكم الشرعي المتوقف على الشرع”.

ـ أصول الدين: وهي مردودة إلى جملة الأصول المتفق عليها بالعقل والحس والبديهة. وهي المعبر عنها في الاصطلاح العام بـ”الحكم الشرعي غير المتوقف على الشرع”؛ فهي أصول دينية، بيد أنها تتقوّم عند علماء الكلام بردها إلى البديهيات والضروريات التي لا يجحدها عاقل.

وليس يخفى على من أطاف بمنهج الأشعري في الاستدلال على العقائد الدينية استنادُه إلى أحكام العقول في تقرير العقائد الدينية خاصة ما اندرج منها في أحكام الألوهية والربوبية كوجوده تعالى وصفاته وأفعاله. وما دامت هذه العقائد (=أصول الدين) مردودة إلى بدائه العقول مسنودة إلى ضرورياتها فقد توجّب التوقف عند المعنى الاصطلاحي للعقل كما هو عند إمام المذهب.

«اعلم أنه كان يقول في معنى العقل إنه هو العلم، ويستشهد على ذلك بكلام أهل اللغة في قولهم “عقلت كذا ولم أعقل كذا”، ويشيرون في ذلك إلى معنى العلم»(14)، كذلك فإن العقل نقيض الجهل «والمراد بالنقيض هو الضد المنافي، والذي ينافي الجهل هو العلم»(15). وبذلك يكون العاقل هو العالم بالشيء أو بالأشياء، وهذه الدلالة (العاقل بمعنى العالم) قد تكون(16):

ـ إطلاقا اصطلاحيا: ينسحب على من يعلم معلومات مخصوصة بطريق النظر والاستدلال.

ـ تقييدا توصيفيا: بحيث يجوز أن يقال لكل من علم شيئا إنه قد عقله.

وسواء في الإطلاق أو التقييد نكون أمام ضربين من العلم؛ ضروري ومكتسب، وذلك تبعا للتمييز في العقل بين نوعين(17):

ـ عقل غريزي: يُقصد به العلم الضروري «الذي لا يُجتلب بالنظر والفكر».

ـ عقل مكتسَب: وهو «العلم الذي يُستجلب بالنظر والاستدلال».

ويهمنا من هذه التقسيمات المستنبطة من كلام الأشعري أن الحكم العقلي ـ مبحوثنا في هذه الدراسة ـ يندرج ضمن الإطلاق الاصطلاحي لمفهوم العقل بنوعيه؛ بحيث يُعد، من جهة، ما هو ثابث في العقل ابتداء مما يدخل في العقل الغريزي وهذا على سبيل التجوّز، ومن جهة أخرى يُعتبر ـ وهذا هو المعنى الاصطلاحي المطلوب ـ ثمرةَ سلوك مسلك النظر والاستدلال. وبيان ذلك أن النظر مراتب ومدارج يرتقي فيها الناظر (العاقل) بحسب إحكامه لعملية بناء الأدلة بعضها على بعض، لكن هذا السُلّم الاستدلالي له منطلقاته وبداياته التي لا منطلق قبلها ولا بداية دونها؛ إذ «ليس كل شيء يحتاج إلى برهان»(18) وهذا مما يتفق عليه النظار من المتكلمين والفلاسفة على حد سواء، فما من استدلال إلا ويرتدُّ إلى جملة من البديهيات التي لا ينفك العقل (أو العاقل) عنها، و«معنى بديهة العقل [عند الأشعري] أنه مبادئ العلوم وهي من أنواع الضروريات التي تقع للعالم منا من غير نظر ولا فكر ولا روية. وكان يعد في هذا القسم العلم بأن الموجود لا يخلو من أن يكون أزليا أو لم يكن فكان. وكان يعد العلم بأن الجوهرين والجسمين لا يخلوان من أن يكونا متقاربين أو متباعدين من بداية العقول وأوائل العلوم»(19). إذن فالبديهة نوع من أنواع الضروريات، وهذه بدورها يقسمها الأشعري إلى ثلاثة أقسام، هي(20):

ـ الضروريات الحسية المشتركة بين ذوي الحواس إذا انتفت الآفات.

ـ الضروريات العقلية التي تقع ابتداء، وهي المشتركة بين العقلاء مع انتفاء الآفات أيضا. 

ـ الضروريات الخبرية: فالخبر إذا كان متواترا واردا بشروطه المعتبرة حدث عنه علم ضروري. 

  وغرضنا من إيراد هذا التقسيم ـ في معرض بيان مفهوم الحكم العقلي ـ أن الضروريات بقسميها الأول والثاني ملازمة للإنسان العاقل غير المؤوف٭ من حيث كونه عاقلا سليم الحواس، وعليها تُبنى الحقائق والمعارف، ولولا هذا الاشتراك فيها لما قامت الحجة على أحد من العالمين، «وإن إجازة خلاف ذلك تؤدي إلى تناكر الحقائق وإبطال الطرق إلى إثباتها»(21). وإذا ثبتت هذه الحقيقة، ثبت أيضا أن العاقل أبدا لا يكون مستدلا إلا إذا كان ناظرا في “منظور فيه” بالاستناد على هذه الضروريات أو أحد من أقسامها، فكأن وصف “العاقل” لا يطلق على الحقيقة إلا لمن سلك سبيل النظر والاستدلال، وما يفضي إليه هذا السبيل هو ما سماه الأشعري بـ”المستدل عليه” و”المحكوم به” وهما بمعنى “الحكم” عنده(22). 

ولعلك تبينت أن الحكم عند الأشعري ـ وهو ما سيتبناه تلامذته من بعده ـ عبارة عن دلالة مكتسبة من طريق النظر والاستدلال، وهذا المذهب ينطبق أيضا على معرفة الله تعالى في الدنيا؛ إذ هي اكتساب وليست ضرورة(23)، وإلا لم يتخلف أحد عن الإيمان به تعالى.  

وهذه المعرفة المكتسبة تتصرف من جهة تعلقها بالعقل إلى مجموعة من العقائد الواجبة أو المستحيلة أو الجائزة. وليس أدل على ذلك من قول الأشعري في كل مسائل العقيدة بكونها من الجائزات أو الواجبات أو المستحيلات، ويقصد بذلك استنباطها عقلا لا شرعا، وأحيانا قد تكون المسألة العقدية جائزة عقلا واجبة شرعا أو العكس، ودونكم جملة من النماذج على ذلك:

ـ في التدليل على وجود الله: «لا يجوز انتقاله [أي الإنسان، والعالم بصفة عامة] من حال إلى حال بغير ناقل ولا مدبر»(24).

ـ إثبات جواز رؤية الله عقلا ووجوبها سمعا: «رؤية الله تعالى جائزة من جهة النظر والقياس في كل حال يصح فيها وجود الرائي، ولكل واحد سواء كان مؤمنا أو كافرا مكلفا أو غير مكلف… فأما القول بوجوب الرؤية للمؤمنين في القيامة فإنه كان يقول إن طريق ذلك الخبر..»(25).

ـ لا يجب على الله شيء: «وكان يقول إن العفو عن الكفار في العقول جائز، وترك إثابة المؤمنين في الآخرة بالثواب جائز من جهة العقل، وإنه لا يجوز أن يُستحق على الله تعالى شيء بوجه من جهة العقل، ولا يصح أن يقال إن شيئا ما يجب عليه فعلُه أو يجب عليه تركه. وكان يقول إن الواجب لا بد له من موجب والموجب فوق من يوجَب عليه، وليس فوقه أحد فيصح أن يجب عليه شيء»(26).

ـ استحالة وجود الفعل في الأزل: و«كان يقول […] إن الله تعالى لم يزل عادلا عن صفات النقص والعيب والآفة، ولا يقول إنه لم يزل عادلا على ما يقال “عدل فلان على فلان عدلا ومعدلة” لأن ذلك يقتضي حدوث فعل، ويستحيل حدوث الفعل في الأزل»(27).

ـ نفي العلية والغرض عن أفعال الله تعالى: «وكان يحيل (بمعنى استحالة) قول من قال إن أفعال الله تعالى تكون حكمة لأغراض تتبعها وفوائد تتعلق بها، بل يكون فعله حكمة منه وإنه لعينه لا لمعنى أكثر منه على أي وجه وقع وحدث»(28).

ـ “في إبانة مذهبه في القول بعذاب القبر وسؤال منكر ونكير..”: «اعلم أنه كان يقول إن جميع ذلك مما طريقه الخبر (أي واجب بمقتضى السمع). فأما تجويزه ففي العقول ثابت كائن صحيح»(29).

وهكذا، إذا تتبعنا أقوال شيخ المذهب في كل أبواب علم الكلام ألفينا أنفسنا أمام تقرير للعقائد بناء على التجويز العقلي أو الإحالة أو الوجوب، ولنا فيما أثبتناه من نماذج مقنعٌ، وإلا فإن إيراد أمثلة من كل باب وفي كل مسألة مما يخرج عن مقصود هذا البحث ويوقع في آفة الإطناب والإملال.

ولك أن تستحكم موقع الحكم العقلي في منظومة الأشعري المنهجية بوقوفك على الخطاطة أدناه.

1ـ2ـ2: تأصيل مفهوم الحكم العقلي في المذهب الأشعري:

قد علمنا من كلام الأشعري أن الحكم العقلي هو ثمرة النظر والاستدلال المرتكن إلى جملة من المقولات العقلية والحقائق الغريزية التي لا انفكاك للإنسان عنها من حيث كونُه إنسانا عاقلا سليما غير مؤوف. وقد ذكرنا ـ عن بينة ـ أن الحكم العقلي في المذهب الأشعري يدخل في جميع المباحث العقدية؛ فما من مسألة كلامية إلا وتنبني على قواعد الحكم العقلي من الوجوب والجواز والاستحالة؛ بدءا بوجود الله تعالى وإثبات صفاته وأفعاله ونفي النقائص عنه وصولا إلى مباحث السمعيات.

وليس من المبالغة في شيء الإقرار بأن هذه الأحكام العقلية ـ المُثبِتة أو النافية على ما سنرى ـ ينزل فيها العقل، في الاستدلال على العقائد، منزلة الحكَم الأعلى في الإثبات والنفي، وقد صدع بذلك إمام الحرمين في قوله: «ما قضى العقل بوجوب ثبوته استحال انتفاؤه، وما تضمن نظرُ العقل استحالة ثبوته، وجب انتفاؤه […] وجميع قواعد الدين تتشعب عن هذه القضايا العقلية (يقصد الجائزات والواجبات والمستحيلات العقلية)»(30). وهذه دعوى عريضة اتّهِم المذهب الأشعري بسببها بتطريق الطعن في الدليل النقلي وإنزال العقل مكان الوحي من حيث الحاكمية والمرجعية(31). وليس الأمر كذلك عند التحقيق.

لذلك ينصب عملنا في هذا المبحث على تحديد دلالات مفهوم الحكم العقلي على مواضعة المتكلمين الأشاعرة للنظر في مستندات هذه الدعوى وافتحاصها. 

اعلم أن الحكم عموما في المذهب الأشعري هو «إثبات أمر أو نفيه»(32)  أو بعبارة أوضح هو «عبارة عن نسبة أمر إلى أمر إيجابا أو سلبا»(33)، وهذا على غرار ما عرّجنا عليه من التعريف الاصطلاحي العام، بل ويرادف ما هو مقرر في المنطق الصوري. وبيان ذلك «أن من أدرك أمرا من الأمور؛ 

ـ فإما أن يتصور معناه فقط، ولم يحكم بثبوته ولا بنفيه، فهذا الإدراك يسمى في الاصطلاح: “تصورا“، كإدراكنا ـ مثلا ـ أن معنى الحدوث: الوجود بعد العدم، ولم نثبته لأمر ولا نفيناه عنه.

ـ وإما أن يتصور مع ذلك ثبوت ذلك المعنى لأمر أو نفيه عنه، فهذا الإدراك يُسمى في الاصطلاح “تصديقا“(34)، ويسمى أيضا “حكما”، كإثباتنا الحدوث ـ مثلا ـ بعد تصورنا لمعناه للعوالم، وهي ما سوى المولى تبارك وتعالى، فنقول: العوالم حادثة، أو نفيِهِ عمن وجب قدمُه، وهو مولانا تبارك وتعالى، فنقول: مولانا ـ جل جلاله ـ ليس بحادث.

فإثبات أمر لأمر، أو نفيه عنه، هو المسمى: “حكما”»(35)، فإذا استند إلى “العقل” كان عقليا.

لكن وصف حكم ما بأنه “عقلي” يقتضي وجود أوصاف أخرى يتميز عنها؛ إذ هنالك ثلاثة أقسام ينقسم إليها الحكم(36):

ـ حكم شرعي: مستنده الشرع بحيث لا يمكن أن يُعلم ثبوته أو نفيُه إلا منه، وهو (أي الشرع) خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالطلب أو الإباحة أو الوضع لها(37). ومثال الحكم الشرعي قولنا في الإثبات: الصلوات الخمس واجبة، وكقولنا في النفي: صوم يوم عاشوراء ليس بواجب.

ـ حكم عادي: مرده إلى التجربة والعادة والاختبار المتكرر؛ كقولنا في الإثبات: شراب السكنجبين مسكن للصفراء، وكقولنا في النفي: الفطير من الخبز ليس بسريع الانهضام.

ـ حكم عقلي: وهو إثبات أمر أو نفيه من غير توقف على تكرّر (خلافا للحكم العادي) ولا وضع واضع (خلافا للحكم الشرعي). وإنما أضيف هذا الحكم إلى العقل ـ وإن كانت الأحكام كلها لا تُدرك إلا بالعقل ـ؛ لأن مجرد العقل، بدون فكرة أو معها، كاف في إدراك هذا الحكم. ومثاله في الإثبات قولنا: العشرة زوج، وقولنا في النفي: الثلاثة ليست نصف الأربعة.

والحكم سواء كان شرعيا أو عقليا أو عاديا يبقى هو «المعقول الذي لا تُعلم له حقيقة إلا بالإضافة إلى محكوم به عليه، كما تقول: حكم عقلي، أو شرعي، أو عادي؛ فالحكم من حيث هو هو لا تعلم له حقيقة حتى يضاف إما إلى العقل، أو إلى الشرع أو إلى العادة»(38).

والعمدة في هذا التقسيم الثلاثي عند الأشاعرة ترجع عند التفتيش إلى أقسام الدليل نفسِه؛ فهو إما أن يكون شرعيا أو عاديا أو عقليا. وقد بين لنا أبو الحسن اليفرني (ت. 734هـ) ـ من أعلام المذهب في المغرب ـ الدليلَ على حصر الحكم/الدليلِ في ثلاثة بقوله: «الزائد المدّعَى لا يخلو أن يكون ممـا لا يجوز تبدُّل دلالته عن مدلوله أو ما يجوز. فإن كان مما لا يجوز تبدل دلالته فهو “الحكم العقلي”. وإن كان مما يجوز تبدل دلالته عن مدلوله، فلا يخلو إمـا أن يفتقر في ارتباطه بمدلوله إلى وضع واضع أو لا: والأول لا يخلو إمـا أن يكون الواضع معصومـا أو لا: والأول هو “الحكم الشرعي”. والثاني هو “اللغوي” […]. وإن لم يفتقر إلى وضع واضع فهو: “الحكم العادي”»(39).

على أن كل قسم من أقسام الحكم الثلاثة المذكورة ينقسم بدوره إلى قسمين اثنين؛ ضروري ونظري:

ـ الضروري: ما يدرك ثبوته أو نفيه بلا تأمل وإعمال للنظر، ومثاله في الحكم العقلي حكمُنا بأن النفي والثبوت لا يجتمعان، وأن الاثنين أكثر من واحد. والمُدركات ضرورةً هي ما سماه الأشعري ـ كما مرّ بنا ـ بـ”الضروريات العقلية” و”العقل الغريزي”.

ـ النظري: ما لا يدرك ـ عادة ـ إلا بالتأمل والنظر، ومثاله في الحكم العقلي حكمنا بأن الواحد ربعُ عشر الأربعين. وهذا القسم هو ما اصطلح عليه الأشعري بـ”العقل المكتسب”؛ لأن الحكم العقلي النظري هو ثمرة نظر واستدلال واستنباط فلا يتأتى بديهة وضرورة. وفي هذا القسم تندرج الأحكام العقدية وأصول الدين.

ومدار هذا التقسيم الثنائي بخصوص الحكم العقلي على “مفهوم العقل نفسه” عند الأشاعرة، لذلك يتوجب ضبط دلالته الاصطلاحية لنرى، بعدُ، هل يسوغ توصيف الأحكام العقدية الأشعرية بـ”العقلية” أم لا؟

لقد رأينا، سابقا، كيف ميّز الأشعري في العقل بين ضربين؛ عقل غريزي، وعقل مكتسب، وهذا التمييز بنى عليه الأشاعرة من بعده فأطبقوا ـ اتباعا للجويني (ت. 478هـ) ـ على كون العقل «من العلوم الضرورية [لـ]استحالة الاتصاف به مع تقدير الخلوّ عن جميع العلوم»(40)؛ وهذا التعريف شرحه الأنصاري (ت. 512هـ) ـ تلميذ الجويني ـ بقوله: هو «كل علم لا يخلو العاقل عنه عند الذكر، ولا يشاركه فيه من ليس بعاقل. قال القاضي أبو بكر (يقصد الباقلاني (ت. 403هـ)) رحمه الله: “وذلك كالعلم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات، وأن الشيء الواحد لا يكون قديما حديثا، وأن المعلوم: إما أن يكون موجودا أو معدوما، وأن الخبر: إما أن يكون صدقا أو كذبا، والجسم إما أن يكون حيا أو ميتا” ونحو ذلك. وقال الأستاذ أبو إسحاق (يقصد الإسفراييني (ت. 418هـ)) رحمه الله: “العقل: ما يقع به التمييز، ويمكن الاستدلال به على ما وراء المحسوس” وعلى الجملة: العقل: شرط كل نظر واستدلال ومنشؤه، وقد قيل: ما يخرج الإنسان به عن حد المعتوهين؛ وتسميه العقلاء عاقلا»(41). وليس يخفى أن العقل بهذا المعنى ثابت لا يتغير فيكون بذلك حجة في نفسه على العاقل ليصح اعتبارُ الحقائق حقائقَ وتمييزُها عن الأوهام والأكاذيب ومحض الادعاءات، وإلا انتفت المعرفة وارتفعت المعقولية عن أي استدلال أو تحاجج.. لذلك ليس عبثا استهلال علماء الكلام الأشعرية مصنفاتِهم بالمقدمات العقلية الممهّدة لتقرير العقائد الدينية وذلك بغرض توطيد “أرضية علمية مرجعية” ينبني عليها البحث والنظر أداءً منهم لأمانة العلم الشرعي ولتسوغ إقامة الحجة على العقلاء {ليهلِك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيي عن بينة} [الأنفال/42] على الأقل في حدود قواطع الأدلة التي استمسكوا بها وأجمعوا عليها، وأخص ما يميز هذه القواطع سمة “اللزوم” التي تنطوي عليها (على غرار ما بينا في الحد الاصطلاحي العام للحكم العقلي)؛ بحيث إن الدليل المفيد لها (أي سمة اللزوم) «واجب لازم لا ينقلب ولا يتغير، ولا يحتاج في كونه دليلا إلى مواطأة وتوقيف»(42)، ومعنى هذا أن الحكم العقدي المبني على الدليل بمواصفاته المذكورة يبقى أبدا “حكما عقليا كونيا” ما دام الإنسان إنسانا والعاقل عاقلا وإن تطورت العلوم وتقدمت المعارف واختلفت الأزمنة والأمكنة.. يبقى الدليل دليلا والحكم القاطع قطعيا. 

نعم، قد اختلف العلماء قديما وحديثا في تعريف العقل وحده حدا تاما؛ فمنهم من جعله غريزة، ومنهم من قال هو صفوة الروح أو بصيرة، ومنهم من صيّره معرفةً أو فهما.. وقد نقل غير واحد من المتكلمين هذا الاختلاف(43) ولكنهم لم يختلفوا البتة في كونه قاسما مشتركا بين الناس يفصلهم عمّن دونهم من البهائم والدواب. ولا بأس ـ للتمثيل والتبسيط ـ أن نورد نصا حجاجيا لابن خُمَيْر السبتي (ت. 614هـ) ـ وهو أحد كبار أشاعرة المغرب ـ يشهد لهذا الاستنتاج وينتصر للمفهوم من الحكم العقلي، يقول في معنى العقل والعاقل: «أول ما ينبغي أن يخاطَب به المسترشد أن يقال له: أتقول إنك عاقل ولك عقل؟ فجوابه أن يقول: نعم، لكن لا أعرف من أين تحليت بهذه التسمية، ولا أعرف مقتضاها. فيقال له: لأنك تعلم قضية الوجوب والجواز والاستحالة، فجوابه أن يقول: زدتني غموضا. فيقال له: أتعلم أن الفعل إذا صح وثبت أنه يجب أن يفتقر لفاعل، كالكتابة المفتقرة للكاتب، والبناء المفتقر للباني؟ فجوابه نعم. فيقال له: أتعلم أن نزول المطر، وتصريف الرياح من شرق إلى غرب ومن غرب إلى شرق، وتقلبك من حركة إلى سكون ومن سكون إلى حركة جائز؟ فجوابه نعم. فيقال له: أتعلم أن الجسم لا يكون أسود أبيض، متحركا ساكنا، ميتا حيا في زمن واحد؟ فجوابه: نعم. فيقال له: أنت عاقل. وهذه العلوم هي التي فصلت بين العقلاء والبهائم، وهي المسماة عقلا على مذهب أهل الصواب في حد العقل، وهي المشروطة في التكليف على مذهب أهل الصواب العقلاء، وإنما الخطأ في تحديد العقل، فإذا حصل إجماعهم على المعنى المشروط في التكليف فلا يبالَى باختلافهم فيما سواه. فإذا أيقن بهذه الأقسام قلنا: هذا هو معنى العقل»(44). 

1ـ2ـ3: أقسام الحكم العقلي في المذهب الأشعري:

إذا تبينت لك دلالة الحكم العقلي في الاصطلاح الأشعري وظهرت عضوية تعلقها بمعنى العقل نفسه في المذهب، فاعلم أن هذا المفهوم ينحصر انحصارا في ثلاثة أقسام وجب تمييز كل واحد منها عن أخويْه:

أـ الواجب العقلي: وهو «ما لا يتصور في العقل عدمه»(45) أو هو «الذي يلزم من فرض عدمه محال لذاته»(46). ومعنى هذين التعريفين أن الواجب العقلي «لا يصدّق العقل بعدمه كالتحيز للجِرْم (أي الجسم) أي أخذه قدرا من الفراغ، والجرم كالشجر والحجر، فإذا قال لك شخص: إن هذه الشجرة لم تأخذ محلا من الأرض مثلا لا يصدّق عقلك بذلك لأن أخذها محلا واجبٌ لا يصدق العقل بعدمه»(47). 

وينقسم الواجب هو أيضا ثلاثة أقسام(48):

ـ واجب ذاتي مطلق؛ كذات الله، سُمي بذلك لأنه واجب لذاته بمعنى أن وجوبه ليس بالنظر لغيره ووجوبه غير مقيد بشيء.

ـ واجب ذاتي مقيد؛ كالتحيز للجرم سمي بذلك لأنه واجب بذاته بالمعنى المذكور، ووجوبه مقيد بدوام الجرم.

ـ واجب عرضي: كوجودنا في وقت عَلِم الله وجودَنا فيه، سمي بذلك لأن وجوبه ليس لذاته بل بالنظر لتعلق علم الله به.

كذلك، ينقسم الواجب عند الأشاعرة ـ من جهة فرض عدمه ـ إلى(49): 

ـ واجب لذاته: وهذا معنى تقييده في التعريف الثاني أعلاه بقولنا: “لذاته”؛ أي يلزم من فرض عدمه محال لذاته لا لغيره، والواجب لذاته هو الله “واجب الوجود” – سبحانه وتعالى-. 

ـ واجب بالغير: لا يلزم من فرض عدمه محال لذاته، وإنما بالنسبة إلى الغير، «وهذا كالعالَـم في حال وجوده، فهذا واجب الوجود، ولا يقال: إنه ممكن الوجود، بل يقال: كان ممكن الوجود قبل وجوده، لكن وجوب وجوده لا لذاته، بل لتعلق المشيئة الأزلية بوجوده. وعلى الجملة: إن كل مـا كان واجب الوجود بغيره، فهو ممكن الوجود بذاته، وكل مـا كان واجب الوجود بذاته، لا يصحّ أن يكون واجبا بغيره.

واعلم أن كل مـا كان واجب الوجود لذاته، فهو ممتنع العدم لذاته، وكل مـا كان واجب الوجود بالغير، فهو جائز العدم بالنسبة إلى ذاته، ممتنع العدم بالنسبة إلى غيره، وذلك كالعالَـم بعد وجوده، فهو جائز العدم في الحال بالنسبة إلى ذاته، وممتنع العدم في الحال بالنسبة إلى تعلق المشيئة الأزلية؛ لأن الله ـ تعالى ـ أخبر أنه لا يُعْدَم إلى يوم القيامة»(50). 

هذا هو تعريف الواجب العقلي بأقسامه المتفرعة عنه، وهو يحيلك إلى الواجب الذاتي ضمنا «وإنما لم يحتج إلى تقييد الواجب بالذاتي لأنه عند الإطلاق لا يُحمل إلا على الذاتي، ولا يحمل على العرضي إلا بالتقييد»(51). 

وهنالك من سلك مسلكا آخر في تقسيم الواجب العقلي؛ حيث ميّز بين قسمين اثنين(52):

ـ أولهما “الواجب القديم”: كالواجبات لله تعالى. ويتصف الواجب القديم بكونه لا يرتبط بغيره، لذلك فهو لا يتغير أبدا. 

ـ وثانيهما “الواجب المحدَث”: من قبيل التحيز للأجسام؛ بأن تأخذ ذواتُها قدرا من الفراغ أو الخلاء، وأن تكون محلا للأعراض (والعرض ما لا يقوم بنفسه كاللون والطعم، وإنما يحتاج إلى جسم)، والقابلية للعرض مقيدة بوجود الجسم؛ إن انعدم انعدم عرضه.

وظاهر عند المقارنة بين صنفيْ التقسيمات التي عرضنا لها أنها من محض الاختلاف في الوضع الاصطلاحي؛ وإلا فإن “الواجب القديم” يرادف “الواجب الذاتي المطلق” و”الواجب لذاته”، الأمر نفسُه بخصوص “الواجب المحدث” إذ يماثل “الواجب الذاتي المقيد” و”الواجب العرضي” و”الواجب بالغير”. فتأمل ذلك، فإن الخطب يسير. 

ثم إن الواجب العقلي نتوصل إليه ـ شأنه شأن أخويْه “المستحيل” و”الجائز” على ما سأتي ـ إما(53):

ـ ضرورةً: أي ابتداءً بلا تأمل، كالتحيز للجرم، وهو أخذه قدر ذاته من الفراغ، فإن ثبوت هذا المعنى له لا يُتصور في العقل ـ ضرورة ـ نفيُه، ونظير هذا في الوجوب الضروري: كون الاثنين أكثر من الواحد.

ـ أو نظرًا: أي بعد التأمل، كثبوت القدم لمولانا تبارك وتعالى، فإنه لا يُتصور في العقل نفيُه عنه جل وعلا، لكن بعد التأمل فيما يترتب على نفيه من المستحيلات كالدور والتسلسل وتعدد الإله، وتخصيص كل واحد منهم بنوع من الممكنات بلا مخصص. ونظير هذا في الوجوب النظري كون الواحد ربعُ عشرِ الأربعين.

ب ـ المستحيل العقلي: وهو «ما لا يتصور في العقل وجوده»(54) أو «هو الذي يلزم من فرض وجوده محال لذاته»(55)؛ ومعناه أن العقل لا يصدّق بوجوده «فإذا قال قائل: “إن الجرم الفلاني خال عن الحركة والسكون معا” لا يصدق عقلك بذلك لأن خلوه عن الحركة والسكون مستحيل لا يصدق العقل بوقوعه ووجوده»(56). وهو أيضا ينقسم إلى قسمين(57):

ـ مستحيل لذاته: كالشريك لله، ولذلك جاء في التعريف الثاني قيد “لذاته”؛ إذ وجود الشريك محال لذاته. 

ـ مستحيل بالغير: ويسمى أيضا “المستحيل العرضي”، وهو لا يلزم من فرض وجوده محال لذاته؛ وذلك كتصور الإيمان من أبي جهل، فإنه محال بالنسبة إلى تعلّق علم الله تعالى بعدم وقوعه، وهو بالنسبة إلى ذاته ممكن الوقوع، والدليل على ذلك وقوعه من أمثاله.

كذلك فللمستحيل العقلي مرتبتان(58): 

ـ أولاهما مرتبة “المستحيل الضروري” الذي يعرف بديهة وضرورة بدون نظر واستدلال؛ ومثاله كون الواحد نصف الأربعة، وهذا ظاهر للخاص والعام؛ لأنه لما علم بالضرورة للجميع أن نصفها اثنان لزم أن يعرف بالضرورة انتفاء النصفية عن كل ما سواهما من واحد وغيره. 

ـ والثانية مرتبة المستحيل النظري الذي يحتاج إلى النظر والاستدلال؛ ومثاله كون الواحد سدس الإثني عشر فهو باعتبار العوام؛ لأنهم قد يجهلون قبل التأمل أن سدسها اثنان أو غيرهما، فلا يعرفون ابتداء استحالة كون الواحد سدسا منها حتى يعرفوا أن سدس الاثني عشر هو القسم الواحد من أقسامها الستة المتساوية، والواحد ليس كذلك، وإنما هو قسم من أقسامها الاثني عشر المتساوية، وأما بالنسبة إلى أهل الحساب فمعرفة استحالة كون الواحد سدس الاثني عشر ضرورية.

فهذه أمثلة ساقها الإمام السنوسي لتقريب معاني المرتبتين إلى المبتدئين، وقد عقَّب على سوْق المثال الأخير بقوله: «ومقصودنا التقريب بالمثال، والاعتراض على المثل ليس من أدب المحققين»(59).

ج ـ الجائز العقلي: وهو «ما يصح في العقل وجودُه وعدمه»(60) أو «هو الذي لا يلزم من فرض وجوده ولا من فرض عدمه محال لذاته» وذلك كنزول المطر قبل نزوله، ووجود العالم قبل وجوده(61)، بمعنى أن العقل لا يتناقض إذا صدّق بإمكان وجود شيء ما جائز أو عدمه «فإذا قال قائل “إن زيدا له ولد” جوز عقلك صدق ذلك، وإذا قال “إن زيدا لا ولد له” جوز عقلك صدق ذلك، فوجود ولد لزيد وعدمُه جائزٌ يصدق العقل بوجوده وعدمه»(62). ومن نافلة هذا التعريف التنويه إلى كون “الجائز” و”الممكن” في اصطلاح المتكلمين مترادفين(63). 

ثم إن الجائز العقلي ينقسم إلى قسمين(64):

ـ الجائز الواجب بالغير: من قبيل وجود العالم؛ فهو جائز لذاته قبل وجوده واجب بالغير بخلق الله له.

ـ الجائز المستحيل بالغير: كفرض القيامة اليوم، لتعلق علم الله تعالى أنها لا تقوم إلا بعد فناء الدنيا، ومن ذلك خروج الكافر من النار بعد دخولها؛ فهو جائز بالنسبة إلى ذاته، محال بالغير وهو إخبار الشارع بخلوده في النار.

كذلك فإن الجائز العقلي ـ على غرار أخويْه ـ يُتوصل إليه إما(65):

ـ ضرورةً: بلا تأمل ككون الجسم أبيضَ؛ إذ لا شك أن وجود البياض وعدمه للأجسام قد عرفه العقل بالمشاهدة (أي بالضرورة الحسية بتعبير الأشعري)، وصحة وجود الشيء وعدمه أعم من وجوده وعدمه، فإذا كان الأخص ضروريا للعقل فأحرى أن يكون الأعم ضروريا.

ـ أو نظرا: بالتأمل والاستدلال كتمني الإنسان الموتَ فإنه جائز جوازا نظريا؛ وبيانه أن أهل العافية الذين لم يذوقوا المصائب التي هي أشد من الموت ويتسهّل الموت ويُتمنى عندها، ولا خالطوا من وقع في ذلك، ولا عرفوا المحن بالفكرة والتوهم، قد يتوهمون ابتداء أنه محال أن يتمنى العاقل الموت لنفسه؛ فإذا فكروا في المحن؛ عرفوا أن هنالك ما هو أشد من الموت، فحينئذ يحكمون بأن تمني العاقل الموتَ لنفسه ليس بواجب ولا مستحيل، بل يصح وجوده إن خاف من المصائب ما هو أشد منه، أو اشتاق أو رجا شيئا عظيما لا يحصل له إلا به. وأما معرفة جواز تمنيه في حق من اتصف بأسباب ذلك خوفا أو رجاء أو اشتياقا فهي ضرورية لا تحتاج إلى تأمل لكن المثال المقصود منه التقريب، فيصح التمثيل بما وجد على الجملة أو قدر وجوده.

هذه هي الأحكام العقلية في المذهب الأشعري؛ يُقدّم منها الواجبُ لشرفه ويُعقَّب بالمستحيل لأنه ضده ـ والضد أقرب الأشياء خطورا بالبال عند ذكر ضده ـ ويُؤخر الجائز لأنه لم يبق له إلا مرتبة التأخير(66). وهي منحصرة في ثلاثة لا رابع لها؛ ولذلك عبّر علماء الكلام، في معرض تقعيدهم لمفاهيمها، بقولهم “تنحصر” عوض “تنقسم” «لأن الانحصار يُفهم منه أنه انقسام محصور في ثلاثة، بخلاف ما لو قال: “ينقسم”، فإنه لا يفهم منه انحصار الأقسام في ثلاثة»(67). وهذا الحصر له وجهه؛ حيث إن «كل ما يحكم به العقل إن كان يقبل الثبوت والانتفاء معا فهو الجواز، وإن كان لا يقبل الأمرين معا؛ فإن كان يقبل الثبوت فقط دون الانتفاء فهو الوجوب، وإن كان يقبل الانتفاء فقط دون الثبوت فهو الاستحالة»(68). ولمن ينازع في هذا الحصر يُجاب بأن «القسم الرابع ـ وهو: ألا تستقر فيه صورة وجود الشيء ولا صورة عدمه ـ فليس من أقسام الحكم العقلي؛ لأن الحكم يستدعي محكوما عليه متصورا في العقل، وهذا القسم الرابع غير متصوّر في العقل وجودُه ولا عدمه فلا يُخِلّ بالحصر المذكور»(69).

وعلى غرار منهجنا في تلخيص المعطيات المبسوطة تجد أدناه خطاطة تقريبية للجهاز المفهومي والدلالي لمفهوم الحكم العقلي عند الأشاعرة:

بقي أن تعلم أن تعرّض المتكلمين في التأصيل للعقيدة لبيان معاني “الواجب” و”المستحيل” و”الجائز” عوض شرح “الوجوب” و”الاستحالة” و”الجواز” مردّه إلى كون تصوّر الأولى ـ وهي أوصاف مشتقة ـ يستلزم «تصور مصادرها؛ لأن المشتق أخصُّ من مصدره الذي اشتُق منه، ومعرفة الأخصِّ تستلزم معرفة الأعمِّ بخلاف العكس»(70)؛ فأنت إذا تحققت من معرفة “الواجب” مثلا ـ وهو الأخص ـ فإن معرفة “الوجوب” ـ وهو الأعم ـ لازمة ضرورة عنه. وهذه قاعدة منطقية منطوقها: «ثبوت الأخص يستلزم ثبوت الأعم ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص» وهي جارية في كل المعقولات؛ فثبوت السواد مثلا يلزم عنه بالضرورة ثبوت وجوده ووجود اللون، كما أن انتفاء الأخص (وهو السواد) لا يوجب انتفاء الأعم (وهو اللون)(71) وهذا ظاهر لمن أمعن النظر في المثال. 

2ـ إنفاذ مفهوم الحكم العقلي في إثبات العقائد:

لقد تهمّم المتكلمون بتقعيد مفهوم الحكم العقلي بأقسامه الثلاثة ليسهل ولوج أبواب المسائل الكلامية؛ إذا هي بمثابة المفتاح بالنسبة إلى الباب (على ما أكدت في القسم الأول من هذه الدراسة)، فأنت «إذا تصورت معنى الواجب والمستحيل والجائز سهُل عليك حينئذ معرفة ما يجب لمولانا تبارك وتعالى من الكمالات، إذ الحكم بوجوبها لمولانا جل وعلا فرع تصور معنى الواجب»(72)، الأمر نفسه بخصوص معرفة المستحيل والجائز. والقاعدة العامة في باب الإلهيات خاصة ـ وهي روح علم الكلام وعمدة أهل التوحيد ـ أن «الكمالاتِ كلَّها واجبة، والنقائص كلها مستحيلة [… وأما الجائز في حقه تعالى فـ] هو التصرف في العالم بالإيجاد والإعدام، والإمداد والإغناء والإفقار، والإعزاز والإذلال، والتقريب والإبعاد، والإشقاء والإسعاد، لأن الكل ملكه، وهو فعال ما يشاء، لا يجب عليه شيء منه ولا يمتنع، إلا ما اختار الله تعالى أن يقع»(73). 

وبناء على مفهوم الحكم العقلي أثبت المتكلمون ـ أولا ـ وجود الله تعالى من خلال النظر في الخلق والمخلوقات وهي أفعاله الدالة عليه؛ لأن الشيء إذا لم يُعرف بالحس والضرورة (وقد تشرّبت معناهما سابقا) كانت الآيات والعلامات الدالة عليه طريقا إلى معرفته، لأن «المقصود من النظر في أفعال الله تعالى تحصيل العلم بافتقارها إلى فاطر لها مدبّر عليم»(74)، وهذا بناء على حكم عقلي مركوز في العقل لا يقبل وجود شيء بدون موجد حتى يصل إلى الإقرار بوجود موجد لا موجد له وإلا وقع في التسلسل أو الدور وهما منفيان في العقل من حيث كونه عقلا؛ لأن الدور «هو توقف الشيء على ما يتوقف عليه» بحيث يتوقف “أ” على “ب” و”ب” على “أ”(75)، وهذا مما ينفيه العقل ضرورة أو بنظر قريب، وينبني عليه أن العالم الذي هو خلق “إله خالق” يستحيل أن يكون خالقا له، والإله الخالق يستحيل أن يكون خالقا مخلوقا في آن معا. وأما التسلسل فـ«هو ترتيب أمور غير متناهية»(76) بحيث يكون العالم حلقة في سلسلة من الأشياء/المخلوقات اللامتناهية التي لا تنتهي في الأزل، وحتى إذا افترضنا وجود “إله” فهو معلول لعلة سابقة عليه وهذه معلولة لأخرى إلا ما لا نهاية، وهذا بيّن البطلان؛ إذ العقل الصريح يبطله لأنه من المستحيلات العقلية. 

وعلى وِزان هذه الاستدلال، يستفيض علماء الكلام، بعد إثبات وجود الله بالأحكام العقلية الضرورية والنظرية ومناضلة الدهريين (=الملاحدة)، في إثبات صفات الكمال ونفي أوصاف النقص؛ فأثبتوا الصفة النفسية والصفات السلبية وصفات المعاني والصفات المعنوية(77)، وانبنى هذا الإثبات على مفهومهم من الحكم العقلي بأقسامه ودلالاتها. والحق أن القوم يُنازعهم أصحابُ المذاهب العقدية الأخرى كالفلاسفة الإسلاميين والمعتزلة والأثريين٭٭ في التسليم ببعض معاني الحكم العقلي وابتناء العقائد عليها رغم اندراج الجميع داخل دائرة الإسلام ورغم اتفاق أغلبهم على ضرورة بناء العقائد على العقل. والخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة في باب الصفات أشهر من أن يُحكى؛ فمقابل إثبات الأشاعرة صفة “العلم” مثلا لله تعالى على أنها صفة قديمة بناء على حكم عقلي مفاده أن كون العالِم عالما إنما لـ”علة” العلم، وهذه علة عقلية واجبة لا تتغير سواء في الشاهد (الإنسان) أو في الغائب (الله جل جلاله)؛ لأن «العلة العقلية موجبة للحكم لا يصح تبدل الحكم عليها»(78)، يذهب المعتزلة إلى خلاف ذلك فرارا من السقوط في القول بتعدد القدماء (الله تعالى، وصفة العلم، وباقي الصفات الأخرى القديمة التي أثبتها الأشاعرة) ولهم في ذلك مستندات يعتقدون أنها عقلية كذلك، الأمر نفسه بخصوص تنازع الفلاسفة والأشاعرة في عدد من المسائل العقدية العقلية أشهرها “مسألة قدم العالم”.. مما يبين أن النزاع بين النظار والعقلاء من مختلف المذاهب إنما مربط الفرس فيه الاختلاف في المواضعة على مفهوم الحكم العقلي عند كل فريق. وإنما تعضّد مذهب الأشاعرة من بين كل المذاهب والفرق لتجمهر أغلب العلماء في القديم والحديث عليه والاستطالة في الذب والمحاماة عليه عقلا ونقلا حتى استقر مذهبا عقديا يتميز بشبه إجماع وبمنسوب كبير من المعقولية مع التسنُّن والاستمساك بالهدي القرآني والاعتزاء إلى السلف.

لقد أعمل الأشاعرة مفهوم الحكم العقلي وأنفذوه في كل مسائل العقيدة. ولئن ضاق المقام ببسط نماذج كثيرة من كل باب من أبوابها تدليلا منا على صحة هذه الدعوى، فحسبنا أن نورد ـ على سبيل الإيجاز ـ ما تمحّض عن هذا الإنفاذ من القواعد النظرية والإشكالات العقدية التي لا يزال بعضها مثارَ التناقد إلى يوم الناس هذا، ليتبين لك بما لا يدع مجالا للشك محورية هذا المفهوم في البناء المفاهيمي والمنهجي لعلم الكلام.

أولا؛ يحيلك مفهوم الحكم العقلي ـ بأقسامه الثلاثة الواجب والمستحيل والجائز ـ وانقسامُه إلى “ضروري” و”نظري” على مسائل منهجية وفلسفية جدلية، منها:

ـ استشكال مفهوم الحكم العقلي، ابتداء، والنظر في إمكان قيام المعرفة العقلية أديا إلى نقاش مستفيض مع من اعتبرهم علماءُ الكلام نفاةً للحقائق وهم دعاة “السفسطائية”؛ وقد تقصّدوا من ذلك الدفاع عن “معقولية” العقائد الدينية والانتصارَ لحقائقهما من خلال تقعيد مناهجِ النظر في بناء المعارف العقلية العلمية وطرائقِ الاستدلال عليها، والتأصيل لإمكانية قيام المعرفة بالعقل وانبناء بعضها على بعض.   

ـ أسفر استشكال مفهوميْ “الضرورة” و”النظر” عن خلاف حاد بين جمهور المتكلمين وبين من أُطلق عليهم “أصحاب المعارف” القائلين بأن العلوم كلها ضرورية(79)؛ وهذا الخلاف نتج عن الاختلاف في تحديد معنى الضرورة وسبل اكتساب المعرفة، وهل هي مولّدة أم مكتسبة؟ وهل المكتسب منها ـ على رأي الأشاعرة ـ يقع ضرورة لا انفكاك عنه أم لا؟ وهل هنالك فرق بين معنى “الضرورة” ومعنى “البديهة”؟.. إلى غير ذلك من المسائل والمضائق المولَجة في هذا الباب. وقد يتعجب البعض من كون هذا الخلاف طال المذهب الأشعري نفسَه حتى اشتُهر فيه رأي الجويني والرازي القائل بأن العلوم كلها ضرورية.

ـ القول بوجوب النظر لمعرفة الله تعالى وتحريم التقليد مادام الإنسان لا يتوصل إلى العلم به بالضرورة العقلية أو الحسية. وغني عن التذكير ما رافق القول بوجوب النظر من خلاف حاد حتى داخل مذهب الأشاعرة أيضا وبقي قائما إلى زمن المتأخرين منهم، وألِّفت في ذلك رسائل كثيرة. وتفرّع عن هذه المسألة التمييز بين النظر الإجمالي والنظر التفصيلي؛ الأول فرض عين في حق العامة من الناس، والثاني فرض كفاية في حق علمائهم.

ثانيا؛ نجم عن استخدام مفهوم الحكم العقلي في الاستدلال على وجود الله وإثبات صفاته تقعيدُ جملة من القوانين العقلية والقواعد العقدية، أهمها:

ـ القول بـ”نظرية الحدوث” لإثبات “القديم” تعالى؛ وليس يخفى أن “دليل الحدوث” من أوثق ما يستمسك به الأشاعرة في مسلك إثبات وجود الله تعالى، وهذا الدليل ينطوي على أحكام عقلية ملزمة أبرزها أن ما من حادث إلا وله محدِث أحدثه، والأخذ بهذا الدليل جرّ علماء الكلام إلى مناقضة آراء الدهريين والملحدين كما ألمعنا قبلُ؛ فكان لزاما عليهم أن يثبتوا بالحكم العقلي كون العالم حادثا، فاستدلوا بالتغير والتقلب من حال إلى حال والأفول والاندثار..  على كون العالم حادثا، وما كان هذا شأنه كان محدَثا، وما كان محدثا فلا بد له بالضرورة العقلية من محدِث أوجده.

ـ القول بمجموعة من المستحيلات العقلية؛ من قبيل إحالة “الدور” و”التسلسل” ـ على ما رأينا ـ وإحالة “رجحان الشيء بدون مرجِّح” وإحالة فعل بدون فاعل.. وغيرها من القوانين العقلية الملزمة.

ـ إثبات الصفات الإلهية بناء على الأدلة والعلل العقلية وهي محض أحكام عقلية. وذلك من قبيل إثبات صفة الحياة لله بعد إثبات العلم والقدرة والإرادة؛ إذ الحياة شرط لها. وكذا انبنى إثبات هذه الصفات جميعا على مفهوم الحكم العقلي؛ فإن تقرر أن للعالم خالقا، فإن شواهد الإحكام والإبداع والنظام تدل على أن صانعه عالِم مريد قادر، وليس العالم والمريد والقادر إلا من يتصف بصفات العلم والإرادة والقدرة، وهي صفات للذات الإلهية قديمة غير حادثة، والقول بخلاف ذلك ينافي دلالة “الوجوب العقلي” كما هي مقررة في العقل، على الأقل من وجهة نظر أشعرية.

ـ إمعانا في التنزيه؛ أدى إثبات صفة “المخالفة للحوادث” لله تعالى إلى تأويل مجموعة من ظواهر النصوص القرآنية والحديثية الدالة على ما سُمي بـ”المتشابهات” أو “الصفات الخبرية” سواء تعلق الأمر بالذات أو الأفعال (مثل الوجه واليدين والساق بخصوص الذات، ومن قبيل الاستواء والمجيء والنزول بالنسبة إلى الأفعال) وذلك وفقا، من جهة، لقواعد اللغة العربية التي تسنح بهذا النوع من التأويل، ومن جهة أخرى، اتباعا لبعض الصحابة في سلوك هذا المسلك كابن عباس رضي الله عنهما، هذا فضلا عن كون الدليل العقلي لا يقبل اتصاف الباري تعالى بها.

ثالثا؛ ترتب عن الحكم العقلي، خصوصا قسمَ الجائز منه، تقرير جملة من القواعد والعقائد الأشعرية الخالصة، منها:

ـ قاعدة “لا يجب على الله شيء”؛ فمادام ما سوى الله مخلوقا له ومبروءا منه، وهذا الخلق فعلُه تعالى والفعلُ جائز ـ إذ يصح في العقل وجوده كما يصح عدمه ـ فإنه لا يجب عليه فعل أي شيء خلافا للمعتزلة القائلين بـ”نظرية اللطف الإلهي” ووجوب فعل الصلاح والأصلح..

ـ بناء على مفهوم الجائز العقلي ناقض الأشاعرة قول البراهمة ـ وهم من المؤمنين بوجود الله ـ باستحالة بعث الرسل؛ إذ فعل ذلك، إذا لم يكن من المستحيلات العقلية كما هو ليس من الواجبات العقلية، فهو جائز عقلا يصدقه العاقل ولا سبيل إلى نفيه بالحكم العقلي.

ـ كذلك تمحّض عن الأخذ بالجواز العقلي، بحسب مذهب الأشاعرة، القول عقلا ـ لا شرعا ـ بجواز التكليف بما لا يطاق مادام جائزا في العقل غير مستحيل، وهذا المعتقد ناتج عن إثبات صفة الإرادة المطلقة لله. ومن ذلك أيضا القول بجواز ثواب الكافرين ومعاقبة المؤمنين جوازا عقليا لأن الله لا يجب عليه شيء عقلا، أما شرعا وتنجيزا فالأمر مرده إلى الدليل الشرعي. وحري بالتذكير، بخصوص هذه المسألة، بالخلاف الناشب بين الأشاعرة والمعتزلة في مسألة “التحسين والتقبيح” (وهي ما هي في تاريخ علم الكلام!) وما نجم عنها من تقريرات عقدية مختلفة بين المذهبين أبرزها القول بتخليد أصحاب الكبائر من المسلمين في النار من عدمه، والخلاف مشهور معروف لا يسع المقام للإيغال في تفاصيله.

ولعل فيما عرضنا له من نماذج (وقد ارتأيت عدم توثيقها فرارا من إثقال الحواشي والهوامش ولثبوتها في جل المصنفات الكلامية) كفاية ومقنعا، وهي شاهدة على مدى إجرائية مفهوم الحكم العقلي ودرجة إعماله في أبواب العقيدة كلها، وليس ذلك إلا دليلا واضحا على روْم الأشاعرة تقعيد المعتقدات تقعيدا عقليا، تكييفا لها مع نُظُم اشتغال العقل الإنساني، وإمعانا منهم فيما نسميه بـ”تعقيل الاعتقاد”؛ وهي المسؤولية العلمية التي أرى من واجب علماء الكلام والعقيدة إفراغ الوُسع في أدائها وتحقيق مناطها دون انقطاع إلى يوم القيامة لمواصلة عملية الوصل بين النص والعصر في فهم العقائد الدينية عن طريق بذر أصول التفكير العقلاني في عقول المسلمين وترشيد فهم كوني للعقيدة.

على أن أخذ المذهب الأشعري بمفهوم الحكم العقلي بدلالاته التي عرضنا لها تقتضي وجود اقتناع عقلي راسخ بإمكانية الاستدلال على وجود الله وصفاته وأفعاله بالعقل، وهذا مما ينازع فيه عدد من الفلاسفة الغربيين في العصر الحديث أبرزهم الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط صاحب نظرية “العقل العملي” مقابل “العقل المجرد”، والفيلسوف الفرنسي بليز باسكال المشهور في هذا الباب بـ”رهان باسكال”، والفيلسوف الأمريكي وليام جيمس صاحب “النظرية البراغماتية” الشهيرة التي امتدت إلى المعتقد الديني. وهؤلاء ـ إضافة إلى غيرهم من الفلاسفة ـ يقرون بوجود الله وبضرورة الإيمان به إلا أنهم يعتبرون إقرارهم محضَ اعتقاد ديني أخلاقي وتجربة روحية استنادا إلى منعِهم من إمكانية الاستدلال على ذلك بمناهج العقل المجرد. وهذا الاستدراك الفلسفي سنقف عليه بالتفصيل في القسم الرابع من هذه الدراسة بحول الله؛ وسأبين الآفات الخطيرة والمحاذير الجسيمة التي تترتب عنه. 

لكن قبل ذلك، سنمضي في القسم الثالث من هذا البحث إلى استشكال مصطلح الحكم العقلي من مآتيه اللغوية وموارده الشرعية إيفاء منا بما وعدناكم به في ديباجة القسم الثاني من هذا البحث.

 

إنجاز: الباحث محمد أمين السقال

 

ــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المواقف (بشرح الشريف الجرجاني)، الإيجي عضد الدين، تح: عبد الرحمن عميرة، دار الجيل – بيروت، ط1، 1997، ج1، ص. 43. وهذا التعريف تناقلته بصيغ متفاوتة كتب المذهب؛ قارن مثلا: تحفة المريد على جوهرة التوحيد، البيجوري برهان الدين، تح: علي جمعة، دار السلام، القاهرة، ط1، 1422هـ ـ 2002م، ص 40. بل ورد في بعض كتب المعاجم والاصطلاح العام بالصيغة نفسها، انظر: كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي، تح: علي دحروج، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، ط1، 1996م، ج1، ص. 31.   

(2) التعريفات، الجرجاني الشريف علي بن محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1403هـ ـ 1983م، ص 92.

(3) كشاف اصطلاحات الفنون، مصدر سابق، ص. 695. بتصرف.

(4) هذا التقسيم شاع عند المتأخرين حتى بات حكما كليا مطلقا، يقول التفتازاني (ت. 791هـ) في شرحه على “العقائد النسفية”: «اعلم أن الأحكام الشرعية، منها ما يتعلق بكيفية العمل وتسمى فرعية وعملية. ومنها ما يتعلق بالاعتقاد، وتسمى أصلية واعتقادية. العلم المتعلق بالأولى، يسمى علم الشرائع والأحكام، لما أنها لا تستفاد إلا من جهة الشرع، ولا يسبق الفهم عند إطلاق الأحكام إلا إليها. وبالثانية علم التوحيد والصفات، لما أن ذلك أشهر مباحثه وأشرف مقاصده» (تح: السقا أحمد حجازي، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، ط1، 1407هـ ـ 1987م، ص. 10).ونحن لنا موقف نقدي من هذا التقسيم؛ صحيح أن له مسوغات فنية وتعليمية الغرض منها وضع الحدود المائزة بين العلوم الشرعية، إلا أنني أعتقد أن تجريد الاعتقادات والمقولات الكلامية من طابعها العملي وفصلها عن روافدها السياسية والاجتماعية كانت سببا من أسباب الازدراء بعلم الكلام واتهامه من طرف خصومه على أنه محض ترف علمي مفصول الصلة عن “العمل”، كما أعدُّه عاملا من عوامل تصيير علم الكلام ـ بعد مرحلة التأسيس ـ بعيدا عن الجمهور وأشبه ما يكون باللاهوت، رغم أنه علم شريف أصيل خرج من رحم المخاض الحضاري والفكري للمسلمين في مواجهة العقائد المخالفة، بل وانبجس شيئا فشيئا من رحم المعاناة بسبب سياسة الجبر وإخضاع المسلمين للسلطة السياسية باسم القدر والسنة والجماعة… وحكمي هذا مجمل سنعمل على تفصيله فيما يستقبل من البحوث بحول الله. وحسبنا الإشارة في هذا المقام إلى أنني أميز بين مفهوم “الفعل” ومفهوم “العمل”؛ الأول خاص ينصرف إلى أعمال الجوارح، والثاني أعم يشمل الأولى كما يشمل أعمال القلب والعقل، ولنا شواهد ودلائل في هذا الباب سنعرضها في موضعها.

(5) شرح المقاصد، التفتازاني سعد الدين، تح: عميرة عبد الرحمن، عالم الكتب، بيروت، ط2، 1419هـ ـ 1998م، ج1، ص. 165.

(6) المصدر نفسه، ص. 176. وراجع شرح التفتازاني لهذا الكلام ـ وهو كلام نفسه لأن “المقاصد” من تأليفه أيضا ـ في الصفحات التالية. 

والحق أن الحكم أعلاه القائلَ بأن أحكام علم الكلام شرعية رغم أنها لا تتوقف على الشرع قد يبدو قولا مؤوفا بآفة “الدوْر”؛ إذ الشرع يتوقف إثباته على شيء خارج عنه وهي أحكام العقول المبنية على النظر والاستنباط، وهذه الأحكام هي بدورها شرعية مستقاة من الشرع أو تتطابق مع الشرع، وهذا وقوع في الدور. وقد تصدى علماء الكلام لهذا الإشكال، منهم الإيجي في المقصدين السابع والثامن من “المواقف” (ج1، ص. 204 ـ 205 ـ 208) فراجعهما.

(7) التعريفات، مصدر سابق، ص. 104.

(8) راجع أقسام الدليل في “الإنصاف” للباقلاني، تح: الكوثري محمد زاهد، المكتبة الأشهرية للتراث، القاهرة، ط2، 1421هـ ـ 2000م، ص. 15. وقارن: التقريب والإرشاد، للباقلاني أيضا، تح: ابن علي أبو زنيد عبد الحميد، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1418هـ/1998م، ج1، ص. 204 ـ 205. 

ولا يعتقدن البعض أن الحدود والتقسيمات المذكورة أعلاه خرجت عن الاصطلاح العام بالإحالة على كتاب في علم الكلام كـ”الإنصاف” للباقلاني؛ إذ لا يعدو الأمر الوقوف على التمايزات العامة بين الأدلة وأنواع العلاقات اللزومية المتضمنة فيها، لذلك لا تستغرب إذا وجدت هذه التقسيمات العامة في كتب أصول الفقه وعلم الكلام فضلا عن كتب الاصطلاح العام.

(9) استفدنا هذا التقسيم من عمل القرافي في كتابه “الفروق” على التمييز في الفرق الثالث والأربعين بين اللزوم الكلي واللزوم الجزئي؛ حيث جعل من الربط بين الشيئين المترابطين في اللزوم الكلي ربطا كليا واقعا على اختلاف الزمان والمكان والأحوال بخلاف اللزوم الجزئي. وقد قدم للزوم الثاني (الجزئي) مثال العلاقة اللزومية بين الطهارة الصغرى والطهارة الكبرى جوابا له عن سؤال اعتبره القرافي قويا حسنا يقول بانتفاء الطهارة الكبرى إذا انتفت الصغرى عملا بالقاعدة العقلية القائلة “أنه يلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم”، وذلك من باب إعنات السائل للفقهاء القائلين بأن الغسل (المحقق للطهارة الكبرى وهي الملزوم في المثال) يغني عن الوضوء (الطهارة الصغرى، وهي اللازم في المثال). وقد أجاب القرافي عن السؤال استنادا على التقسيم المنوه به أعلاه، فراجعه في “الفروق”، دراسة وتحقيق: سراج محمد أحمد وجمعة علي، دار السلام، القاهرة، ط1، 1421هـ ـ 2001، ج1، ص. 374 ـ 376. 

(10) المصدر نفسه، ص. 374. وقد يُستدرك على القرافي في المثال الثاني المتعلق بالكتابة؛ حيث توصل العلم الحديث إلى ابتداع طريقة في الكتابة على الحاسوب بمجرد الإملاء الشفوي دون تحريك لليد، إلا إذا اعتبرنا أن الفعل لا يسمى “كتابة” إلا إذا تم بالقلم بواسطة اليد. وعلى العموم فالقصد الحث على ضرورة مراجعة مجموعة من الإطلاقات التي كانت مسوغة سليمة في عهد الأقدمين وقد لا تكون كذلك في زماننا.

(12) نفسه، ص. 375.

(13) رسالة في استحسان الخوض في علم الكلام، الأشعري أبو الحسن، ضمن: توحيد الأشعري، تعليق: الأب رتشرد يوسف مكارثي، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1953م. ص. 95 

وقد يستدرك علينا البعض بأن الأشعري في كتاب “الإبانة” ينحو نحو تقرير الأصول والعقائد تقريرا نقليا ظاهريا بعيدا كل البعد عن المنهج الكلامي العقلي، والحق أن هذا الاستدراك له وجاهته، ولا ريب أنه كان سببا مباشرا في الجهر بثلاثة مواقف متباينة من كتاب الإبانة:

ـ موقف ينفي نسبة الكتاب إلى الأشعري، لمنافرة منهجه لنهج الأشعري في كتبه الأخرى من قبيل اللمع ورسالة استحسان الخوض في علم الكلام (وهي أيضا لا تخلو نسبتها إليه من كلام)، والكتب التي جردت مقالاته مثل كتاب “مجرد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري” لابن فورك. وقد ذهب هذا المذهب جمع من المحدثين والمعاصرين في مجموعة من الدراسات والبحوث لعل أحدثها مقالة بعنوان: كتاب “الإبانة عن أصول الديانة”: تحقيق في نسبته إلى أبي الحسن الأشعري، زهري خالد، مجلة الإبانة، مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوث العقدية، تطوان، عدد 1، 2013، [ص. 119 ـ 150].

ـ موقف يثبت نسبة الكتاب إليه معتبرا مضامينه آخر ما انتهى إليه الأشعري في الاعتقاد. وهذا رأي جل الأثريين المناهضين لعلم الكلام. 

ـ موقف تكاملي توفيقي يقرأ أعمال الأشعري التي وصلتنا قراءة تكاملية سياقية بعيدا عن منهج التجزيء والتصنيف الإديولوجي. وهذا الموقف يجد له شاهدا في بحث “مشروعية علم الكلام عند الأشعري ومشروعه” لجمال علال البختي، مجلة الإبانة، مركز أبي الحسن الأشعري، تطوان، العدد 1، 2013، [ص. 17 ـ 71].  

(14) مجرد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري، ابن فورك أبو بكر محمد، تحقيق دانيال جيماريه، دار المشرق، بيروت، 1987، ص. 31.

(15) والقول بأن العقل نقيض الجهل نقله الأشعري من كتاب العين للخليل الفراهيدي. انظر “المجرد”، مصدر سابق، ص 31. وقارن ص. 284 حيث يلاحظ أن الأشعري يرادف بين “العقل” و”العلم” و”المعرفة”.

(16) المصدر نفسه، الصفحة نفسها، بتصرف كبير؛ فالاصطلاح من عندنا والمضمون مستوحى من كلام الأشعري.

(17) نفسه، ص. 284.

(18) طلب الدليل في العقائد وغيرها مطلوب بل واجب في بعض المسائل/المضايق، بيد أن صنفا من الناس ـ بإيعاز من نزعة شكوكية أو فلسفية سوفسطائية قد يتقعرون في المطالبة بالبرهان حتى في بدائه الأمور التي لا مرجع قبلها وهذا محض تنطع لم يعرفه العقلاء سواء كانوا من المشتغلين بالإلهيات كالمتكلمين أو الفلاسفة، أو من المشتغلين بالعلوم الحقة كالرياضيات والفلك والفيزياء، أو من يشتغل بالأحكام الشرعية كالأصوليين والفقهاء.. فدائما هنالك في كل حقل من هذه الحقول العلمية مرجعية من المبادئ والبديهيات والمسلمات والمصادرات تكون أرضية ينطلق منها ويبنى عليها. وهذا الحكم يتفق عليه بخصوص موضوع البحث الفلاسفة والمتكلمون على حد سواء. 

يقول الكندي «وقد ينبغي أن لا يطلب في إدراك كل مطلوب الوجود البرهاني؛ فإنه ليس كل مطلوب عقلي موجودا بالبرهان، لأنه ليس لكل شيء برهان، إذ البرهان في بعض الأشياء؛ وليس للبرهان برهان، لأن هذا يكون بلا نهاية، إن كان لكل برهان برهان فلا يكون لشيء وجود البتة»، رسائل الكندي الفلسفية (القسم الأول)، الكندي أبو يوسف، تح: أبوريدة محمد عبد الهادي، دار الفكر العربي ومكتبة الخانجي، القاهرة، ط2، 1978، ص. 44. والمقولة التي أثبتها أعلاه مستلة من نص الكندي هذا.

(19) المجرد، مصدر سابق، ص. 15.

(20) المصدر نفسه، ص. 16 ـ  17.

٭ المؤوف نعت يستعمله المتكلمون لتوصيف من به آفة. وقد استعمله السلالجي في “العقيدة البرهانية” وشرحه اليفرني في شرحه عليها في “المباحث العقلية”، فقال: «وقوله “أو موؤوفا”: أي ذا آفة، والآفة: العاهة». انظر “المباحث العقلية في شرح معاني العقيدة البرهانية”، اليفرني أبو الحسن، تح: علال البختي جمال، الرابطة المحمدية للعلماء، الرباط (مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوث العقدية ـ تطوان ـ)، سلسلة ذخائر من التراث الأشعري المغربي (7)، ط1، 1438هـ/2017م، مج2، ص. 871.

(21) المجرد، مصدر سابق، ص. 17.

(22) المصدر نفسه، ص. 286.

(23) نفسه، ص. 148. وقد أفاض الأشعري في بيان أسباب كون معرفة الله اكتسابا وليست بضرورة، فليرجع إليها في موضعها. 

(24) اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع، الاشعري أبو الحسن، تصحيح وتقديم وتعليق: غرابه حمودة، مطبعة مصر، 1955، ص. 18.

(25) المجرد، مصدر سابق، ص. 79. 

(26) المصدر نفسه، ص. 99.

(27) نفسه، ص. 139.

(28) نفسه، ص. 140.

(29) نفسه، ص. 170.

(30) العقيدة النظامية، الجويني أبو المعالي، تح: الكوثري محمد زاهد، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة، 1412هـ ـ 1992، ص. 15. 

(31) قد يتفاجأ البعض من أن هذا النقد أو الطعن، فضلا عن صدوره من جل محرّمي علم الكلام خصوصا أهلَ الأثر والظاهر، صدر عن بعض الأشاعرة أيضا، يقول ابن التلمساني (الأشعري): «والقول بأن جميعها [أي الدلائل النقلية] مظنون  يُطرِّق الطعن إلى جملة الشريعة»، وابن التلمساني هنا يرد على الإمام الرازي في قوله: «فإذا ثبت هذا، ظهر أن الدلائل النقلية ظنية، وأن العقلية قطعية، والظن لا يعارض القطع». راجع: شرح معالم أصول الدين، ابن التلمساني، تح: سالم عواد محمود عواد، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة، ط1، 1432هـ ـ 2011م، ص. 125 ـ 126.

(32) شرح المقدمات، السنوسي أبو عبد الله، تح: حمادي نزار، مؤسسة المعارف، بيروت، ط1، 1430هـ ـ 2009م، ص. 52.

(33) المباحث العقلية: مصدر سابق، مج1، ص. 435.

(34) سبق لنا أن عرفنا مفهومي “التصور” و”التصديق” في القسم الأول من هذه الدراسة في الهامش رقم: (7)، فلتراجع في موضعها على موقع المركز. 

(35) شرح المقدمات، مصدر سابق، 52.

(36) المصدر نفسه، ص. 53 ـ 73. بتصرف. 

والمعطيات المذكورة بخصوص الحكم العقلي وأقسامه تكاد تتطابق رسما ومبنى وشرحا عند متأخري الأشعرية، لذلك فضلت الاعتماد على المباحث العقلية لليفرني و”شرح المقدمات” للسنوسي ـ إلا ما احتاج إلى كلام غيرهما ـ عوض التكثير من النقولات من المصادر والمراجع الأخرى؛ فهي جميعا في معرض بسط هذه “المقدمات النظرية” شِرْعٌ. ولك أن تراجع:

ـ أم البراهين بشرح الملالي، تحقيق خالد زهري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 2009، ص. 55 ـ 57.

ـ حاشية الباجوري المسماة تحقيق المقام على كفاية العوام في علم الكلام، الباجوري إبراهيم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2007م ـ 1428هـ، ص. 43 ـ 51.

ـ حاشية الصاوي على جوهرة التوحيد، الصاوي شهاب الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2010، ص. 37 ـ 41.

ـ شرح صغرى الصغرى في علم التوحيد، السنوسي أبو عبد الله محمد بن يوسف، تعليق سعيد فودة، دار الرازي، عمان، ط1، 1427هـ ـ 2006م، ص. 42 ـ 52.

ـ تقريب البعيد إلى جوهرة التوحيد، التميمي المؤخر الصفاقسي علي بن محمد، تح: الحبيب بن طاهر، مؤسسة المعارف، بيروت، ط1، 1429هـ، ص. 39 ـ 41.

ـ هداية المريد لجوهرة التوحيد، اللقاني برهان الدين إبراهيم، تح: البجاوي مروان حسين عبد الصالحين، دار البصائر، القاهرة، ط1، 1430هـ / 2009م، ج1، ص. 168.

ـ العقائد الدرية شرح متن السنوسية، محمد الهاشمي، ط3، مطبعة مصطفى الباني الحلبي وأولاده بمصر، دت، ص. 4 ـ 6.

ـ الأنوار الإلهية على متن المقدمة السنوسية، النابلسي عبد الغني، دار البصائر، القاهرة، ط1، 1435هـ/2014م، ص. 207 ـ 214.

ـ تهذيب واختصار شروح السنوسية “أم البراهين”، عمر عبد الله كامل، دار المصطفى، مصر،  ط1، 1420هـ ـ 2005م، ص. 26 ـ 30.

(37) الطلب يكون إما على سبيل الأمر والندب (فيدخل فيه الواجب والمندوب والحرام والمكروه) والإباحة يستوي فيها الفعل والترك، وأما “الوضع” «فهو عبارة عن نصب الشارع أمارة على حكم من تلك الأحكام الخمسة.

“والأمارة” هي السبب والشرط والمانع؛ 

ـ فالسبب: ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته، كزوال الشمس لوجوب الظهر.

ـ والشرط: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، كتمام الحول مثلا لوجوب الزكاة.

ـ والمانع: ما يلزم من وجود العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته، كالحيض لوجوب الصلاة». شرح المقدمات، مصدر سابق، ص. 62 ـ 65. 

ومن أراد الاستزادة والتدقيق في معرفة دلالات هذه المفاهيم فعليه بكتب أصول الفقه. 

(38) المباحث العقلية في شرح معاني العقيدة البرهانية، مصدر سابق، مج1، ص. 435. 

(39) المصدر نفسه، مج1، ص. 436 ـ 437. ثم أورد اليفرني استدلالا آخر صورته المنطقية ـ سبْرا وتقسيما ـ كالآتي: «إن الزائد لا يخلو إما أن يتوقف ثبوته ونفيه على الشرع أو لا: فإن توقف، فهو “الحكم الشرعي”. وإن لم يتوقف على الشرع، فلا يخلو إما أن يفارقه محكومه أو لا: فإن فارق، فهو “العادي”. وإن لم يفارق محكومه، فهو “الحكم العقلي”؛ إذ هو لازم له، الوجوب لازم للواجب، والجواز لازم للجائز، والاستحالة لازمة للمحال»، ص. 437.

(40) الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، الجويني أبو المعالي، موسى محمد يوسف ـ عبد الحميد علي عبد المنعم، مكتبة الخانجي، مصر، 1369هـ ـ 1950م، ص. 15.

(41) الغنية في الكلام، الأنصاري أبو القاسم، تح: عبد الهادي مصطفى حسنين، دار السلام، القاهرة، ط1، 1331هـ/2010م، ص. 277. وراجع: العقيدة النظامية، مصدر سابق، ص. 13.

(42) التقريب والإرشاد، مصدر سابق، ج1، ص. 205.

(43) راجع: العقل وفهم القرآن، المحاسبي الحارث بن أسد، تح: القوتلي حسين، دار الفكر، ط1، 1391هـ ـ 1971م، ص. 201 ـ 212. وكتاب “المباحث العقلية” مصدر سابق، مج1، ص. 546. ولك أن تراجع للتوسع جزءا نفيسا من تقديم المحقق لكتاب “العقل وفهم القرآن”، ص. 114 ـ 192.

(44) مقدمات المراشد إلى علم العقائد، ابن خمير السبتي، تح: علال البختي جمال، مطبعة الخليج العربي، تطوان، ط1، 1425هـ/2004م، ص. 108.

(45) شرح المقدمات، مصدر سابق، ص. 75. وقارن: شرح صغرى الصغرى في علم التوحيد، مصدر سابق، ص. 48. وراجع بخصوص التفسير النحوي واللغوي لقول السنوسي: “ما لا يتصور في العقل” كلاما لليوسي في: “حواشي اليوسي على شرح كبرى السنوسي”، اليوسي أبو المواهب الحسن بن مسعود، تحقيق: حميد حماني اليوسي، دار الفرقان، الدار البيضاء، ط1، 2008، ج1، ص. 336.

(46) المباحث العقلية، مصدر سابق، مج1، ص. 438.

(47) حاشية الباجوري، مصدر سابق، ص. 45. 

(48) المعطيات السابقة نفسها. بتصرف. وقارن: شرح المقدمات، ص. 77.

(49) المباحث العقلية، مصدر سابق، مج1، ص, 438 بتصرف.

(50) المعطيات السابقة نفسها. 

(51) شرح المقدمات، مصدر سابق، ص. 77.

(52) تهذيب واختصار شروح السنوسية “أم البراهين”، مصدر سابق، ص. 27 ـ 28.

(53) المصدر نفسه، ص. 76. وقارن: أم البراهين بشرح الملالي، مصدر سابق، ص. 55.

(54) شرح المقدمات، ص. 77. وراجع تفسيرا لغويا للفظة “مستحيل” في “حواشي اليوسي، مصدر سابق، ج1، ص. 339.

(55) المباحث العقلية، مج1، ص. 439.

(56) حاشية الباجوري، ص. 48.

(57) المعطيات السابقة نفسها.

(58) شرح صغرى الصغرى، مصدر سابق، ص. 52. وقارن: أم البراهين بشرح الملالي، مصدر سابق، ص. 55.

(59) المعطيات السابقة نفسها.

(60) شرح المقدمات، ص. 78.

(61) المباحث العقلية، مج1، ص. 440.

(62) حاشية الباجوري، ص. 50.

(63) شرح المقدمات، ص. 79. وقارن: المباحث العقلية، مج1، ص. 440.

(64) المباحث العقلية، مج1، ص. 440. وقارن: حواش على شرح الكبرى للسنوسي، الحامدي إسماعيل بن موسى بن عثمان، مطبعة مصطفى الباني الحلبي وأولاده بمصر، ط1، 1354هـ / 1936م، ص. 100.

(65) شرح صغرى الصغرى، ص. 53 ـ 54. وقارن: شرح المقدمات، ص. 78.

(66) حاشية الباجوري، مصدر سابق، ص. 44. وقارن: شرح صغرى الصغرى، ص. 50.

(67) شرح الملالي على أم البراهين، مصدر سابق، ص. 55.

(68)  شرح صغرى الصغرى، ص. 50.

(69) الأنوار الإلهية على متن المقدمة السنوسية، النابلسي عبد الغني، دار البصائر، القاهرة، ط1، 1435هـ/2014م، ص. 210.

(70) شرح صغرى الصغرى، ص. 50.

(71) راجع: محك النظر في المنطق، الغزالي أبو حامد، (مطبوع مع “التقريب لحد المنطق” لابن حزم) تح: المزيدي أحمد فريد، دار الكتب العلمية، بيروت، ص. 227.

(72) شرح صغرى الصغرى، ص. 54.

(73) القانون في أحكام العلم وأحكام العالم وأحكام المتعلم، اليوسي أبو المواهب الحسن بن مسعود، تح: حميد حماني، مطبعة شالة، الرباط، ط1، 1998، ص. 189 ـ 190.

(74) الغنية في الكلام، مصدر سابق، ص. 222.

(75) التعريفات، الجرجاني الشريف، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1403هـ ـ 1983م، ص. 105. وله أقسام راجعها في محلها.

(76) المصدر نفسه، ص. 57. وله هو أيضا اقسام تراجع في موضعها. على أن هنالك من الملحدين أو الشكوكيين من يشكك في كون بطلان الدور والتسلسل من الأحكام العقلية الضرورية، ولعلنا ننتصب لبسط هذا الموضوع في بحث آخر حتى لا نخرج عن مقصود هذه الدراسة.

(77) الصفات الإلهية في المذهب الاشعري أربعة أقسام، وهي:

ـ الصفة النفسية وهي الوجود. وهو ما يعبر به عن نفس الذات العلية.

ـ الصفات السلبية: وهي القدم، والبقاء، والمخالفة للحوادث، والقيام بالنفس والوحدانية. ومعنى هذه الصفات يرجع إلى سلب نقص مستحيل على الباري تعالى.

ـ صفات المعاني: وهي سبعة (أو ثمانية على اختلاف في صفة الإدراك): القدرة، والإرادة، والعلم، والحياة، والسمع، والبصر والكلام. وهذه الصفات عبارة عن الصفات الوجودية القائمة بالذات العلية. 

ـ الصفات المعنوية: وهي كونه: قادرا، ومريدا، وعالما، وحيا، وسميعا، وبصيرا ومتكلما. وهي ملازمة لصفات المعاني.

وهناك من زاد قسما خامسا وهو صفات الأفعال. وهي عبارة عن التعلق التنجيزي للقدرة والإرادة بالممكنات، كخلقه تعالى، ورَزقه، وإماتته.. وهذه الصفات حادثة ليست قديمة بخلاف صفات الذات.

راجع مثلا: شرح المقدمات، السنوسي أبو عبد الله، تح: نزار حمادي، مكتبة المعارف، ط1، 1430هـ ـ 2009م، ص. 137 ـ 139.

٭٭ أقصد بالأثريين المانعين من الخوض في علم الكلام الآخذين في العقائد بالظاهر المنصوص عليه في القرآن والسنة استنادا على الآثار مصدرا ومنهجا لهم.

(78) المجرد، مصدر سابق، ص.303 ـ 304. وهذا الاستدلال يحيلنا مباشرة على موضوع “منهج الاستدلال بالشاهد على الغائب في المذهب الأشعري”، ولك أن تتوسع فيه في دراسة لنا ستصدر قريبا ضمن مجلة الإبانة، العدد الرابع، 2017.

(79) من “أصحاب المعارف” من المعتزلة؛ ثمامة النُّميْري (213هـ) والجاحظ (256هـ) وأبو علي الأسواري (توفي مطلع القرن الثالث الهجري)، ومن الأشاعرة؛ الجويني (478هـ) والرازي (606هـ) وإن كان ما يذهب إليه الجويني والرازي فيه غير قليل من الاختلاف والتميز عما جنح إليه أضرابهم من المعتزلة. وأنا بصدد تحرير بحث صغير مركز في الموضوع سيُنشر على موقع المركز.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. بارك الله فيكم اتضحت لي الكثير من الأمور وبقي البعض الآخر سأعيد قراءة البحث وأقوم بتشجير التعريفات و فروعها وأمثلتها .شكرا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق