وحدة الإحياءشذور

الجمالية الإسلامية .. من أصالة الرؤية إلى راهنية الوظيفة

 يدعو الباحث في هذه الزاوية الجمالية المركزة إلى ضرورة تحيين الجمالية الإسلامية، وربطها بعجلة التطور الحضاري حتى تصير جمالية مندمجة ذات طابع فعّال، تخلق للإنسان وجهة في الحياة وتؤطر أفعاله الإبداعية في اللغة والفن والفكر.. كما ركز على أهمية المفاهيم الأخلاقية في تأطير هذه الجمالية حتى تكون في مستوى تخليق الذوق الحضاري.

 صار تحديد المفهوم في إبستمولوجيا المعارف أمرا ضروريا، تحتاج إليه الأبحاث الدقيقة والإنسانية من أجل السيطرة على الموضوع المدروس، وتناول مجالاته بأسلوب علمي رصين.

ولم يكن الجانب الأدبي والنقدي ولا الفلسفي بعيدا عن هذه الضرورة في أي وقت من الأوقات، وإن كان الغالب على المهتمين بهذه الحقول الاشتغال بالمضامين وتجاهل الجوانب التحديدية والاصطلاحية إلا في بعض حالات البحث الجمالي والنقدي والفلسفي الحديث والمعاصر.

فإذا كان الوضع السائد هو التجاهل، بل وعدم الاهتمام بالجانب الإبستمولوجي في الدراسة الجمالية والأدبية والنقدية، فإنه صار اليوم من أولى أولويات البحث والدرس العميق الأكاديمي.

لقد كانت المفاهيم الجمالية مقتصرة على اللون الفلسفي في التحليل، فتشربت المفاهيم الأدبية بالأبعاد الفلسفية والتعميم الحاصل فيها؛ مما أدّى إلى ربط الجمال بالفلسفة ربطا مَكينا، بحيث لا ينفصل الرأي الجمالي عن الرأي الفلسفي!

وهذا التقليد الكانطي كان سائدا خلال القرون الماضية، نظرا لما فيه من سلامة الرأي ورجحانه في اعتبار الماهية الأدبية والجمالية جزءا من الماهية الجمالية، بدرجة صار معها للحكم الجمالي مكانة راسخة ضمن الفلسفة الكانطية الألمانية.

واستمر هذا النظر إلى حدود العصر الحديث مع سارتر الذي تمثل النظرية الجمالية ضمن النظرية الفلسفية الوجودية، فكان لديه الرأي الجمالي جزءاً من الرأي الوجودي.

وإذا تساءلنا اليوم عن آثار هذه الرؤية الفلسفية في الجمالية الأدبية والنقدية، سوف نلاحظ أن المبدأ القديم مازال يرسخ في كثير من المحاولات التي تعمل على النظر إلى الأدب والجمال ضمن سيرورة فلسفية تعتمد على قراءة آثار الجمال الأدبي ضمن محيطه الثقافي والفكري وبيئته الفلسفية العامة.

إن هذه الوجهة من النظر تتسم بكثير من التعميم لأنها تفرض على جمالية الأدب ما تفرضه من القوانين العامة على النظرة الفلسفية؛ في حين أن المطلوب اليوم حسب الانتظارات المعاصرة هو ربط جمالية الأدب بمفاهيمها الجمالية ومعرفتها الخاصة (Connaissance spécifique)؛ لأن هذه المعرفة هي علم دقيق له مفاهيمه ونظريته. وحيثيات البحث في قضاياه هي حيثيات خاصة به لا تتجاوزه إلى غيره إلا في حدود تضبطها علاقات إبستمولوجية ومعرفية شديدة الدقة.

إن مفاهيم جمالية الأدب اليوم هي قطاع معرفي منظم قائم على هندسة داخلية ضابطة للأشكال والمضامين في الأدب وفق مجموعة من التصورات المحققة مع بعضها لاستقلالية النظرة الجمالية الأدبية عن غيرها من صور النظر إلى الواقع اللغوي أو الواقعي.

إن المبدأ المؤسس لهذه الجمالية هو مبدأ تحقيق الاستقلال المعرفي (L’indépendance cognitive)، وهذا مبدأ يؤدي إلى تعزيز قوة الحضور الجمالي للأدب انطلاقا من مقومات الأدب المباشرة من لغة ومعنى وأسلوب وتأثيرية فنية (Impact artistique).

وهذا المبدأ المؤسّس هو الذي يضمن لنظرية الأدب أن تظل مستقلَّة ذات كيان خاص، وإن كان لها من علاقات التجاذب والجدل ما يجعلها تتفاعل ككيان خاص مع غيرها من الكيانات الأخرى جماليةً كانت أو فلسفيةً أو غير ذلك. فقطاعات الفكر الإنساني لها من التداخل وقوة التجاذب والاتصال ما لا يمكن معه أن ننكر وحدة الروح الإنسانية في سائر العلوم الإنسانية والمجالات ذات الطبيعة الجمالية الإنسانية.

وهذا هو المنطلق الذي يجعل الحديث عن جمالية الأدب ضمن الفكر الإسلامي كغيرها من جماليات الأدب لدى شعوب الأرض، حديثا مشروعا بل ومرغوبا فيه اليوم ضمن نزعة العولمة الحضارية التي أبت إلا أن تحوّل الوجود البشري إلى قرية صغيرة تضمحل فيها الفروق النوعية والواجهات الخلافية الجوهرية؛ بحيث صارت النزعة العولمية اليوم نوعا من الدعوة إلى تنميط عوالم مختلفة والنظر إلى الإنسانية من كُوّة الاتفاق والتوحّد في المعالم لا من كُوّة الاختلاف والتمايز في الأوصاف، فغدا الواقع منظورا إليه من زاوية اللون الواحد والطابع الواحد، بدل النظر إليه من زاوية التعدد في اللون والطابع.

إن نزعة العولمة اليوم قد تفلح في دمغ الوجود البشري بدمغة الاقتصاد والسياسة والتسيير، ولكن لن تفلح البتة في دمغ الوجود البشري بدمغة الجمالية الواحدة (L’esthétique unique )، لأن قوانين الجمالية هي عامة بالنظر إلى محتواها الجوهري وبنيتها الظاهرة، في حين أنها متعددة بتعدّد الشعوب ومتخالفة بتخالف الأدباء والفنانين، ومن ثمّ فإن قَدَرَ الجمالية الأدبية هو قدَر اختلاف لا توحّد وقدَر تعدد لا تماثل.

 الجمالية الإسلامية.. وتخليق الذوق الحضاري

 والآن لنتساءل عن جمالية الأدب ضمن الفكر الإسلامي، في راهنيتها وماضيها المتحول ومستقبلها الواعد. هل هذه الجمالية الإبداعية قادرة اليوم على تحقيق التميز الضروري؟ هل هي في مصاف الجماليات العالمية؟

إن مثل هذه الأسئلة تنبع اليوم من إحساس بضرورة تحيين هذه الجمالية، وربطها بعجلة التطور الحضاري حتى تصير جمالية مندمجة ذات طابع فعّال، تخلق للإنسان وجهة في الحياة وتؤطر أفعاله الإبداعية في اللغة والفن والفكر.

بعيدا عن التصورات السلبية القديمة التي كانت تبعد الدين عن الجمال، وهي تصورات متزمتة وشديدة التعصب، لابد من الاعتراف اليوم بضرورة ربط الدين بمستويات الجمالية والإبداع الفني، لأنه؛ (أي الدين) مُعاملٌ قوي يحرّك طاقة الإنسان نحو العطاء والإبداع مادام شرط تحقيق الذات والفعل مؤطَّرين بتوجه ديني معين. وهكذا، فإن النظرية الإسلامية في الجمال هي من أعتد النظريات في الفلسفة الجمالية الإنسانية؛ نظرا لارتباط الدين فيها بالجمال منذ البداية على الرغم من بعض الآراء التي تستدل ببعض الآي من القرآن أو العبارات من الحديث استدلالا غير تام، ينظر إلى جزء من القول ويترك جزءاً آخر، مكتفيا بذلك كله بما يخدم الرأي السلبي ويخذل الرأي الصميم الإيجابي. فكراهة الشعر في الآية المشهورة التي جعل فيها الله تعالى الغاوين تابعين للشعراء، إنما هي كراهة مقرونة بالشعراء الذين يذمون العقيدة ويهجون الرسول، ومثل هذه الآراء المتعصبة والناقصة كثيرٌ في تاريخ الجمالية الإسلامية لاسيما في عهد النبوة. لكننا لا نكاد نتجاوز ذلك العصر إلى غيره من العصور الذهبية للإسلام حتى نجد للنظرة الإسلامية أصولاً واتجاهات ومذاهب في النقد تقترن فيها الرؤية بالعمل الإبداعي من زوايا نظر مؤيَّدة بالدين ومُثمِرة لخطاب نقدي جمالي يبني آراءه على علاقة الجمال بالحب، ويربط جمالية الأدب بجمالية الروح الإلهية التي تسكن كل عمل فني ذي طابع إنساني.

فالجمالية الإسلامية قديمة حديثة بالمفهوم الوظيفي؛ فهي جزء من الذات الإسلامية الحضارية المتجلية في الأدب والعمارة والخط وغير ذلك من الفنون الإسلامية.

وفي عالمنا اليوم الذي يعيش أزمة الثقافة والفن يحتاج المرء إلى بذل الجهود من أجل الخروج من الأزمة. فقد أدّى تصاعد المدّ الحضاري المادّي إلى إغراق الحياة البشرية في لجّة كبيرة من الإنتاج أو الاستهلاك الذي أضحى قاتلا لكل واجهة روحية أو نزعة جوّانية مثالية متعالية عن شروط المادة.

إن المفاهيم الأخلاقية التي ما فتئت تؤطرُ الجمالية الإسلامية هي التي تتيح لهذه الأخيرة أن تضطلع اليوم بوظائف جديدة على رأسها تخليق الذوق الحضاري بإخراجه من صور العنف والتعصب المقيت وصور الرعب المدمر التي تنشرها “جمالية” القلق والعبث واللامعقول في كثير من الثقافات.

إن الجمالية الإسلامية تنشر مشاعر السلم والمحبّة الإنسانية انطلاقا من خطابات رمزية لها حمولة إنسانية كبيرة، تخمد نار النعرات الطائفية، وتخنق نزعات الشر والانتقام في النفوس فاتحة المجال أمام إنتاج رأسمال ثقافي رمزي يحقق نضج الإنسان أخلاقيا وتطوّره روحيا نحو مدارج الصفاء والفطرة الدينية والأخلاقية السليمة.

هذه هي الجمالية التي سوف يكون لها إشعاع عالمي وحضور قوي في راهننا الحضاري، بحيث لا يُخشى عليها من الذوبان في سديم الأفكار والتمثلات الجمالية الأخرى لاسيما في زمن الآفات والتحولات الغامضة التي تلغي أبعاد الإنسان الكوني السليم الذوق، لحساب نزاعات سياسية أو اقتصادية أو فكرية بعيدة عن روح التسامح والحوار والمحبّة العامة التي هي أصل التواصل الثقافي ومركز الوجود البشري منذ زمن الخلق الأول.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق