مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةأعلام

التعريف بابن خلدون

ترك ابن خلدون كتابا سماه “التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا.[1]وهو ترجمة ذاتية “في التعريف بأسرته وأساتذته وفي الإشارة إلى الكتب التي درسها، والإجازات التي حصل عليها، والشخصيات العلمية والسياسية التي احتك بها أو تعرف عليها، والمناصب التي شغلها سواء في الميدان السياسي أو العلمي أو الديني، والمهمات والاتصالات التي قام بها في المشرق والمغرب.[2]نسبه:
هو عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خلدون.[3]مولده ونشأته:
ولد ابن خلدون في تونس سنة 732هـ من أسرة حضرمية، وكان والده فقيها وهب حياته للفقه والأدب، وفي كنف هذا الوالد العالم الفقيه (محمد أبو بكر)  نشأ ابن خلدون.[4]
كان والده حريصا على تهذيبه وتلقينه المبادئ الأولية في اللغة والدين، كما كان حريصا على أن يتلقى العلوم من أئمة العلم في وقته، فحفظ القرآن في الكُتاب، وكان للمجالس العلمية التي يقيمها أبوه في داره أو يحضرها معه خارجاً الدور الكبير في تفتق ذهنية ابن خلدون العلمية.
وبهذا الأب القارئ الفقيه، المقدم في صناعة العربية، البصير بالشعر وفنونه، -والذي انتهى إليه ميراث بني خلدون في الاتجاه إلى العلم والإقبال عليه، وفي مجلسه الذي كان يجمع أهل الأدب، يتناشدون الشعر، ويتحدثون عنه، ويوازنون بينه- كانت نشأة عبد الرحمن بن خلدون، منذ كان صبيا إلى أن بلغ السابعة عشرة من عمره.[5]شيوخه:
مر ابن خلدون بثلاث مراحل في حياته العلمية:
المرحلة الأولى: وتبدأ من بداية تلقيه وحفظه للقرآن إلى قدوم أبي الحسن المريني إلى تونس. ومن أهم شيوخه في هذه المرحلة:
– أبو عبد الله بن سعد بن برال: أصله من جالية الأندلس من أعمال بلنسية، أخذ عن مشيخة بلنسية وأعمالها، وكان إماما في القراءات لا يلحق شأوه.[6]
– أبو عبد الله محمد بن بحر: ذكر ابن خلدون في تعريفه أنه لازم مجلسه وأفاد منه، وأنه هو الذي أشار عليه بحفظ الشعر، ووصفه بإمام العربية والأدب بتونس.[7]عن مثل هؤلاء الشيوخ الذين كانوا يمثلون وحدة العلم الإسلامي في المشرق والمغرب، تلقى ابن خلدون علوم القرآن والحديث والفقه، كما تلقى أطرافا من علوم العربية إلى جانب ما تلقاه منها عن أبيه.
المرحلة الثانية: وتبدأ من قدوم أبي الحسن المريني إلى تونس إلى رحيل شيخ ابن خلدون في العلوم العقلية (الآبلي) عنها إلى تلمسان.
وفي هذه المرحلة تهيأ له من أسباب طلب العلم الشيء الكثير، حيث توفر له عدد وافر من الشيوخ الذين استقدمهم أبو الحسن المريني معه إلى تونس. وقد أسهب ابن خلدون في الحديث عن جملة من هؤلاء الشيوخ الذين تلقى عنهم، وأخذ منهم، قال في تعريفه: “وكان قدم علينا في جملة السلطان أبي الحسن عندما ملك أفريقية، جماعة من أهل العلم، وكان يلزمهم شهود مجلسه ويتجمل بمكانهم فيه”.[8]ومن أهم شيوخه في هذه المرحلة:
– أبو العباس أحمد الزواوي: وصفه في تعريفه بإمام المقرئيين بالمغرب سمع عنه عدة كتب، وظفر منه بالإجازة العامة [9] .
– أبو محمد عبد المهيمن الحضرمي: إمام المحدثين والنحاة بالمغرب، لازمه وأخذ عنه سماعا وإجازة الأمهات الست، وكتاب الموطأ، والسير لابن إسحاق، وكتاب ابن الصلاح في الحديث.[10]– أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الآبلي: شيخ التعاليم، وفارس المعقول والمنقول، كان من أخص شيوخ ابن خلدون حيث لزمه وأخذ عنه الأصلين والمنطق، وسائر الفنون الحكمية والتعليمية. يقول: “وكان رحمه الله، يشهد لي بالتبريز في ذلك”.[11]المرحلة الثالثة: وهي فترة مقامه بفاس، حيث انتظمه أبو عنان في مجلسه العلمي.
ومن أهم شيوخه في هذه المرحلة من أهل المغرب:
أبو عبد الله محمد بن الصفار: إمام القراءات في وقته، وأبو عبد الله محمد المقري: قاضي الجماعة بفاس، كان متبحراً في الفقه وذو سهم وافر في العلوم.[12]ومن أهل الأندلس الوافدين على فاس:
أبا القاسم الشريف السبتي، قال عنه: شيخ الدنيا جلالة وعلما ووقاراً ورياسة، وإمام اللسان حوكا ونقداً، في نظمه ونثره.[13]مؤلفاته:
ذكر لسان الدين بن الخطيب في كتابه “الإحاطة في أخبار غرناطة”،[14] عددا من الكتب لابن خلدون في مختلف العلوم وعلق عليها بإعجاب شديد منها:
1- شرح البردة المشهورة للبوصيري.
2- تلخيص كتاب الرازي في الفقه المعروف بالمحصل، المسمى “لباب المحصل”.
3- شرح أرجوزة في الفقه لابن الخطيب.
4- تلخيص بعض رسائل ابن رشد.
5- رسالة في المنطق.
إلا أنه اشتهر بمقدمة تاريخه المسمى: “كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”.
نشأة الأشاعرة وتطورها من خلال مقدمة ابن خلدون:[15]
قام ابن خلدون في “مقدمته” بمتابعة تاريخية لنشأة المذهب الأشعري وتطوره، يقول: “ثم لما كثرت العلوم والصنائع، وولع الناس بالتدوين والبحث في سائر الأنحاء، وألف المتكلمون في التنزيه، حدثت بدعة المعتزلة في تعميم هذا التنزيه في آي السلوب، فقضوا بنفي صفات المعاني من العلم والقدرة والإرادة والحياة زائدة على أحكامها لما يلزم على ذلك من تعدد القديم  بزعمهم،  وهو مردود بأن الصفات ليست نفس الذات ولا غيرها. وقضوا بنفي صفة الإرادة، فلزمهم نفي القدر، لأن معناه سبق الإرادة للكائنات. وقضوا بنفي السمع والبصر لكونهما من عوارض الأجسام، وهو مردود بعدم اشتراط البنية في مدلول هذا الفظ، وإنما هو إدراك للمسموع المبصر. وقضوا بنفي الكلام لشبه ما في السمع والبصر، ولم يعلقوا صفة الكلام التي تقوم بالنفس، فقضوا بأن القرآن مخلوق، وذلك بدعة صرح السلف بخلافها، وعظم ضرر هذه البدعة، ولقنها بعض الخلفاء عن بعض أئمتهم، فحمل عليها الناس وخالفهم أئمة الدين، فاستبيح بخلافهم إيسار كثير منهم ودمائهم، وكان ذلك سببا لانتهاض أهل السنة بالأدلة العقلية على هذه العقائد دفعا في صدور هذه البدع. وقام بذلك الشيخ أبو الحسن الأشعري إمام المتكلمين فتوسط بين الطرق ونفى التشبيه، وأثبت الصفات المعنوية، وقصر التنزيه على ما قصره عليه السلف، وشهدت له الأدلة المخصصة لعمومه، فأثبت الصفات الأربع المعنوية، والسمع والبصر والكلام القائم بالنفس بطريق العقل والنقل ورد على المبتدعة في ذلك كله. وتكلم معهم فيما مهدوه لهذه البدع من القول بالصلاح والأصلح، والتحسين والتقبيح، وكمل العقائد في البعث وأحوال المعاد، والجنة والنار، والثواب والعقاب، وألحق بذلك الكلام في الإمامة لما ظهر حينئذ من بدعة الإمامة في قولهم إنها من عقائد الإيمان…”.[16]فبعد الحديث عن الدور الذي اضطلع به الإمام أبو الحسن الأشعري، انتقل إلى من اقتفى طريقه وصار على منواله من بعده كتلميذه ابن المجاهد وغيره، ثم تلميذهم الإمام أبو بكر الباقلاني (ت 403هـ) فذكر أنه “تصدر للإمامة في طريقتهم، وهذبها، ووضع المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة والأنظار، وذلك مثل: إثبات الجوهر الفرد، والخلاء، وأن العرض لا يقوم بالعرض، وأنه لا يبقى زمنين… وجعل هذه القواعد تبعا للعقائد الإيمانية في وجوب اعتقادها لتوقف تلك الأدلة عليها، وأن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول”[17].
وتبعا لهذا الموقف اعتبر ابن خلدون الباقلاني رائدا لطريقة المتقدمين والتي استمرت إلى حين ظهور إمام الحرمين الجويني، الذي أعاد النظر في القاعدة السابقة “بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول” يقول ابن خلدون: “ثم جاء بعد القاضي أبي بكر من أئمة الأشعرية؛ إمام الحرمين أبو المعالي، وأملى في الطريقة كتاب “الشامل” ووسع القول فيه، ثم لخصه في كتاب “الإرشاد”. واتخذه الناس إماما لعقائدهم، ثم انتشرت من بعد ذلك علوم المنطق في الملة، وقرأه الناس وفرقوا بينها وبين العلوم الفلسفية بأنه قانون ومعيار للأدلة فقط… فصارت هذه الطريقة من مصطلحهم مباينة للطريقة الأولى، وتسمى (طريقة المتأخرين)”.
وبذلك اعتبر الجويني من الأعلام البارزة في الفكر الأشعري وتميزت مدرسته بكونها فتحت المجال للدراسات المنطقية داخل الحقل الكلامي. وقد صار على نهجه تلميذه الغزالي الذي يعتبر من أنبغ تلاميذ المدرسة الأشعرية، يقول ابن خلدون: “وأول من كتب في طريقة الكلام على هذا المنحى الغزالي وتبعه الإمام ابن الخطيب”.[18]
ومع ظهور الإمام فخر الدين الرازي سيدخل علم الكلام الأشعري مرحلة جديدة تميزت بامتزاج قضايا الكلام بالفلسفة.
وينتهي ابن خلدون في ختام هذه المتابعة التاريخية إلى أن علم الكلام عند أهله هو: “العقائد الإيمانية بعد فرضها صحيحة من الشرع من حيث يمكن أن يستدل عليها بالأدلة العقلية فتدفع البدع وتزال الشكوك والشبه عن تلك العقائد”.[19]

 

                                                                        إعداد الباحثة: حفصة البقالي

 

الهوامش:

[1]-  حققه العالم المغربي محمد بن تاويت الطنجي.
[2]- محمد عابد الجابري، فكر ابن خلدون (العصبية والدولة) معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلام، ص: 37.  
[3]- ابن خلدون، التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا، تحقيق محمد بن تاويت الطنجي دار الكتب العلمية بيروت- لبنان . ص: 4.
[4]- المصدر السابق ص: 16.
[5]- محمد طه الحاجري، ابن خلدون بين حياة العلم ودنيا السياسة، دار النهضة العربية للطباعة والنشر –بيروت 1980م ص: 10.
[6]- ابن خلدون، التعريف، ص: 36.
[7]- المصدر السابق، ص: 38.
[8]- محمد طه الحاجري،  ص: 19.
[9]- ابن خلدون، التعريف، ص: 57.
[10]- المصدر السابق، ص:40.
[11]- المصدر السابق ص: 40.
[12]- المصدر السابق ص: 67.
[13]-  المصدر السابق ص:69.
[14]- لسان الدين بن الخطيب، الإحاطة، تح: محمد عنان، مكتبة الخانجي، الطبعة الثانية، 3/507.
[15]- إضاءات من محاضرة الدكتور جمال علال البختي لطلبة سلك الماستر تخصص “العقيدة و الفكر في الغرب الإسلامي” بكلية أصول الدين بتطوان.
[16]- ابن خلدون المقدمة- تح: عبد السلام الشدادي – منشورات بيت الفنون والعلوم والآداب، الطبعة الاولى 2005، ج 3| 33.
[17]- المصدر السابق 3|34.
[18]- المصدر السابق 3|35.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق