مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكمفاهيم

التسليم

 التسليم في اللغة:

« من مادة سلم، والسين واللام والميم معظم بابه في الصحة والعافية. »[1] والتسليم مشتق من السلام اسم الله تعالى[2]، ومعناه «الانقياد لأمر الله تعالى، وترك الاعتراض فيما لا يلائم، واستقبال القضاء بالرضا، وقيل: التسليم هو الثبوت عند نزول البلاء من تغير في الظاهر والباطن».[3]

 التسليم في القرآن الكريم:

ورد مصطلح التسليم بمعناه الصريح في القرآن الكريم في الآية الكريمة : ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾[4]. قال محمد الطاهر بن عاشور: «وفي البخاري عن الزبير : أحسب هذه الآية نزلت في خصومة بيني وبين أحد الأنصار في شراج من الحرة أي مسيل مياه جمع شرج، وهو مسيل الماء يأتي من حرة المدينة إلى الحوائط التي بها إلى رسول الله  صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك فقال الأنصاري: لأن كان ابن عمتك، فتغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم  وقال: اسق يا زبير حتى يبلغ الماء الجدر ثم أرسل إلى جارك واستوف حقك، والجدر هو ما يدار بالنخل من التراب كالجدار.

فكان قضاؤه الأول صلحا، وكان قضاؤه الثاني أخذا بالحق ، وكأن هذا الأنصاري ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد الصلح بينهم على وجه فيه توفير لحق الزبير جبرا لخاطره، ولم ير في ذلك ما ينافي العصمة، فقد كان الصحابة متفاوتين في العلم بحقائق صفات الرسول صلى الله عليه وسلم مدفوعين في سبر النفوس بما اعتادوه من الأميال والمصانعات ، فنبههم الله تعالى على أن ذلك يجر إلى الطعن في العصمة، وليس هذا الأنصاري بمنافق ولا شاك  في الرسول، فإنهم وصفوه بالأنصاري وهو وصف لخيرة من المؤمنين، وما وصفوه بالمنافق، ولكنه جهل وغفل فعفا عنه رسول الله ولم يستتبه» .[5]  فنزلت الآية الكريمة بقسم من الله عز وجل يبين أن الإيمان لا تكتمل عراه إلا بأمور ثلاث : الاحتكام إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يقع فيه الخلاف، تم انتفاء الحرج  من القلب فيما يقضي به صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك التسليم له ظاهرا وباطنا سواء أوافق ذلك هوانا أم لا يوافقه، وقبل ذلك التسليم لحكم الله عز وجل من باب التحقق بالرضى.

التسليم في الحديث النبوي الشريف :

عن عبد الله بن محمد الأزدي قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: أخبرنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن الزهري قال : حدثني سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام كلهم يحدثون عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : « لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع المسلمون إليها أبصارهم وهو حين ينتهبها مؤمن) فقلت للزهري: ما هذا ؟ فقال: على رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاغ وعلينا التسليم »[6] . هذا الحديث صريح في معنى التسليم الذي يقتضي الإذعان لحكم الله عز وجل ولرسوله الذي لا ينطق عن الهوى، دون استفسار أو اعتراض، لما يعنيه ذلك من اكتمال الاعتقاد في أن ما يرد عنه صلى الله عليه وسلم هو عين الخير وتمام الحكمة.

أقوال الصوفية في التسليم :

 يقول سيدي ابن عجيبة: « التسليم ترك التدبير، والاختيار بالسكون تحت مجاري الأقدار، فيرادف الرضا على الحد الأخير، والرضا أعظم من الأولين. وقيل: الرضا يكون عند النزول، والتسليم قبل النزول، وهو التفويض بعينه، فبدايتهما بالصبر والمجاهدة، ووسطهما بالسكون مع خواطر التبرم والكراهية، ونهايتهما بفرح وسكون مع عدم التبرم. الأول للعامة، والثاني للخاصة، والثالث لخاصة الخاصة. ويغتفر الخاطر الأول عند الجميع لضعف البشرية إذ لا يخلو منه بشر. »[7]

 كما جمع سيدي ابن عجيبة في تعريفه لمقام التسليم بين مقامات ثلاثة مبتغيا ترتيبها وهي التسليم والتفويض، إذ جعلهما اسمين لمسمى واحد، ثم الرضا على اعتبار أنه أسمى منهما، فمقام التسليم جسر موصل إلى مقام الرضا، على أنه لابد لمن أراد أن يصل إلى مقام التسليم أن يتسلح بأمور ثلاثة :

 أولها المكابدة والمجاهدة في سبيل قبول الأمر المراد التسليم به أو له، وهذا من مقتضيات النفس البشرية، التي لا تجد بدا من الاعتراض والمناقشة والمفاصلة، مدعية نشدان المنطق والصواب. فالتزام التسليم للأمر يستوجب مجاهدة النفس وضبطها وحصرها في إعلامها بقصورها وعدم سداد رأيها، وإنما هي أمارة بالسوء، لم تنفتح بصيرتها بعدُ لتجد الصواب والسداد.

أما ثانيها فهو حصول القناعة بنقصانها مع وجود بقايا وشوائب من التبرم والكراهية للحادث .

وثالثها السكون والطمأنينة من غير تمرد أو كراهية، وإنما بفرح واطمئنان، وهذه الدرجة هي التي تسلمنا للرضا والرضوان.

وعن منزلة التسليم يقول صاحب “مدارج السالكين من منازل إياك نعبد وإياك نستعين” : «وهي نوعان: تسليم لحكمه الديني الأمري، وتسليم لحكمه الكوني القدري.

فأما الأول: فهو تسليم المؤمنين العارفين. قال تعالى: ﴿فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما﴾.

أما مراتبه وأنواعه : ثلاث مراتب: التحكيم، وسعة الصدر بانتفاء الحرج والتسليم.

وأما التسليم للحكم الكوني: فمزلة أقدام ومَضَلّة أفهام. حيّر الأنام، وأوقع الخصام. وهي مسألة الرضى بالقضاء. »[8]

ويقول الهروي في منازل السائرين: « وفي التسليم والثقة و التفويض ما في التوكل من الاعتلال وهو من أعلى درجات سبيل العامة. »[9]

أما القاشاني فيقول في التسليم: « وصورته في البدايات: تسليم الأحكام الشرعية بلا اعتراض عليها ولا طلب لعلتها.

وفي الأبواب: استسلام القوى لها، والإذعان لمقتضاها، بلا نزاع ولا كره .

وأصله في المعاملات: تسليم ما يزاحم العقول، ويشق على الأوهام مما يغالب القياس من سير الذوق والإجابة لما يفزغ المريد من الأهوال .

ودرجته في الأخلاق: الإذعان لما يثبت النفس على خلاف مقتضى طباعها من الصبر مكان الطيش والإيثار مكان الشح، ويلزمها العدالة والتوسط، ويردعها عن طرفي الإفراط والتفريط في كل خلق .

وفي الأصول: تسليم القصد إلى الكشف لقوة الأنس .

 وفي الأودية: تسليم البصيرة والحكمة إلى الهمة لينجذب إلى الحق.

وفي الأحوال: تسليم العلم إلى الحق ليقوى الحب ويشتد الجذب .

 وفي الولايات: تسليم الرسم إلى الحقيقة، والانخلاع عن صفات الخليقة .

وفي الحقائق: تسليم المعاينة إلى المعاين، والحياة إلى الحي بالذات .

وفي النهايات: تسليم ما دون الحق إلى الحق مع السلامة في رؤية التسليم بمناسبة تسليم الحق إياك إليه . »[10]

وهكذا فتعريف القاشاني وتعريف الهروي متقاربان خاصة في معنى التسليم في الولايات والحقائق وفي النهايات، إذ يقتضي الأمر نفي العبد للرسوم والأنا ومشاهدة الحق أنسا وانجذابا، فلا يغدو لوجوده وجود ـ اعتقادا وعملا ـ  وإنما الكل بالله ولله ومن ثمة يتحقق بقوله عز من قائل : ﴿  قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ  ﴾[11].

الهوامش:


[1] ـ  مقاييس اللغة، ص.412.

[2] ـ  لسان العرب، ج.4، ص.660.

[3] ـ التعريفات للجرجاني، م. س، ص: 100.

[4]   ـ سورة النساء، الآية 65.

[5] ـ تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر، ج.5، ص.112 ـ 113

[6]  ـ  صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، ابن بلبان الفارسي، تحقيق شعيب الأرنؤوط، ط.2،  مؤسسة الرسالة،  باب فرض الإيمان، رقم 186.

[7]  ـ معراج التشوف الى حقائق التصوف، ص.31

[8]  ـ  مدارج السالكين بين منازل ” إياك نعبد وإياك نستعين”، ابو بكر بن أيوب بن قيم الجوزية، ضبط وتحقيق رضوان جامع رضوان،ط.1، مؤسسة المختار للنشر والتوزيع،  ج1، 547ـ 548

[9] ـ   منازل السائرين، ص.47

[10] ـ  اصطلاحات الصوفية، ص.115

[11] ـ سورة الأنعام، الآية 162ـ 163

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق