وحدة الإحياءمفاهيم

الباراديغم العلمي الإسلامي.. قيمه الثقافية وخصائصه الإبستيمية

المنهج والتنـزيل تحيط بهما رؤية تضع لهما التصور والفهم: فإما غاد إلى منهج قويم يهدي ولا يردي، وتنـزيل سليم يغني ولا يفني، وإما رائح تائه في السبل المسدودة. لذلك يشمل مثلث الرؤية والمنهج والتنـزيل العناصر الأساسية التي تتشكل منها البراديغمات العلمية التي شهدها تاريخ العلوم، ومعرفة كيف تولد ثم تقوى ثم تتلاشى بأزمات تصيب منها الأسس خاصة. ويقتضي ذلك أن نقر بأن للعلم تاريخا مفتوحا لا يمكن الغفلة عنه؛ إذ البراديغمات ليست خالدة، كما أن له تقليدا راسخا لا ينبغي الجنوح عنه؛ إذ لا علم بدون أسس ومناهج وطرق تنـزيل تتوافق عليها الجماعة العلمية. وهذه أم المشكلات التي تواجهنا ونحن نريد التعرف إلى مفهوم البراديغم في تاريخ العلوم عامة، وتاريخ العلوم الإسلامية خاصة. فما المقصود بمفهوم البراديغم في أبحاث فلسفة العلوم؟ وما هي القيم الثقافية المؤطرة للبراديغم العلمي الإسلامي؟ وما الخصائص الإبستيمية الموجهة له؟ وما هي آفاق تجديد التقاليد العلمية للمجتمع العلمي الإسلامي على مستوى الموضوعات والمناهج والأنساق النظرية؟

مفهوم البراديغم في أبحاث فلسفة العلوم

 1. التحديد اللغوي  

ترجع لفظة براديغم إلى الأصل اليوناني paradeigma أي مثال ونموذج، وهو مشتق من لفظ paradeiknunai الذي يدل على فعل أظهر montrer وقارن أو شبه comparer. فيكون البراديغم لغة هو النموذج القياسي أو المثال الكامل الذي ينبغي اتباعه، كما يقال: الرياضيات هي براديغم العلوم. وحوفظ على هذا الاستعمال اللغوي تقريبا في علم اللغة فاستعمل بدلالتين:

الأولى: مرتبطة بقواعد الصرف اللغوي: حيث إن البراديغم هو مجموع الصيغ الصرفية لجذر معين، كصيغ فَعَل ويفعل وفاعل ومفعول… ويقابله لفظ syntagme الدال على التركيب التعبيري.

والثانية: مرتبطة بلسانيات فردينان دو سوسور Ferdinand de Saussure الذي قصد بالبراديغم: طائفة من العناصر ذات الجوانب المتشابهة.

2. التحديد الاصطلاحي

كان طوماس كون [1]Thomas. S. Kuhn أول من استعمل هذا الاصطلاح في كتابه “بنية الثورات العلمية” الذي نشره عام 1962م، وألحق به حاشية تنقيحية عام 1969م، ليدل به على الأطر المفهومية ورؤية العالم عند جماعات علمية متعددة. تبعا له يدل البراديغم على مجموع متماسك من نماذج ومفاهيم ومعارف وفرضيات وقيم مترابطة بدقة.

وهو يرى بأن هذا المفهوم يعتبر أساسيا في فهم خاصية دقيقة في تاريخ العلوم، ألا وهي استبدال إطار مفهومي بآخر عند حدوث ثورة علمية. علما بأن كون استعمل مصطلحات قريبة منه مثل “العلم النموذجي” science exemplaire و”العلم السوي” (أو المعتاد أو القياسي) science normale، والذي يعني به البحث الملتزم بحدود وإطار براديغم معترف به بين الباحثين المتخصصين في مجال علم بذاته. أو بعبارة كون نفسه: عبارة “علم قياسي في هذه الدراسة تعني: البحث الذي رسخ بنيانه على إنجاز أو أكثر من إنجازات الماضي العلمية. وهي إنجازات يعترف مجتمع علمي محدد، ولفترة زمنية، بأنها تشكل الأساس لممارساته العلمية مستقبلا[2].”

والحق أن للبراديغم تعريفات عديدة تتجاوز العشرين تعريفا، وأهمها أن يقال: إن البراديغم هو هيكل يحدد المشاكل والمناهج المشروعة، فيعطي بذلك فعالية كبيرة للبحث؛ لأن اللغة المشتركة تيسر انتشار الأعمال وتوجه البحوث العلمية. فمماذا يتكون هذا الهيكل العام المسمى بالبراديغم إذن؟

3. مكونات البراديغم 

يتكون البراديغم من الأمور الأربعة التالية:

أ. مجموعة من “القوانين والفرضيات والنظريات العلمية، فقوانين الحركة عند نيوتن تمثل جزء من البراديغم النيوتوني.

ب. مجموعة من “المبادئ الميتافيزيقية[3]” مثل فكرة الخلق المستمر في فيزياء ديكارت[4] وفرضية الأثير في فيزياء نيوتن[5].

ج. مجموعة من “التعليمات الديداكتيكية والمنهجية التي توجه العمل العلمي. فالبراديغم النيوتوني، مثلا، يلزم الطالب الباحث بأن تكون نتائج بحثه مطابقة للطبيعة. فتصاغ المناهج العلمية بخطواتها وأسسها، على هذا الأساس، ويتم عرضها في الكراريس المخصصة لمقررات الدراسة والتكوين العلمي.  

د. مجموعة من “التقنيات لتطوير النظرية العلمية التي تبنيها الجماعة العلمية، مثل تقنيات الرصد في علم الفلك، مثلا.

فإذا كان مفهوم البراديغم ضروريا لتفسير تلك الخاصية الدقيقة في تاريخ العلوم، المتمثلة في استبدال إطار مفهومي بآخر عند حدوث “ثورة علمية، فإن مفهوم البراديغم لا ينفصل عن مفاهيم التغير والثورة أو ما يعرف بتحول البراديغم.

4. تحول البراديغم

يحيل مفهموم تحول البراديغم changement de paradigme إلى تجديد عام في المعارف الأساسية وثورة شاملة في المفاهيم.

وتحول إنجازات علمية في تاريخ العلم إلى براديغمات يتطلب تميزها بخاصيتين هما[6]:

أ. أن تكون عظيمة الشأن وغير مسبوقة.

ب. وأن تكون مفتوحة رحبة تفتح الباب أمام جميع أنواع المشكلات لكي يتولى حلها المشتغلون بالعلم بمفهومه الجديد.

فقد اعتقد كون أنه خلال مجرى النشاط العلمي العادي يشتغل الباحثون ضمن نفس البراديغم. أو قل: ضمن نفس تقاليد العلم السوي، فتمضي أنماط التواصل والاشتغال العلمي دون أي عائق، إلى أن تبرز بعض الأمور الشاذة، أو تقترح نظرية جديدة أو نموذج جديد فتحدث أزمة في أسس ذلك العلم السوي لعجزه عن تفسير تلك الأمور الشاذة. فتتحول النماذج المقترحة الجديدة إلى علم سوي جديد. فهذه الجدة تلزم الباحثين بفهم المفاهيم التقليدية بطريقة مختلفة، وإحلال فرضيات جديدة محل القديمة.

5. تطور مفهوم البراديغم وأنماط استعماله في العلوم الأخرى

شاع استعمال هذا المصطلح بعد كون، وقفز من مجال تاريخ العلوم إلى مجالات عديدة، كالبرمجة العصبية اللغوية، وحملت عشرات الكتب باللغات العديدة عناوين تتضمن لفظ البراديغم، وصارت غالبا ما تتداوله بمعنى modèle؛ أي نموذج، أو قل: “طريقة في رؤية الأمور” Weltanschauung، لا بالمعنى الاصطلاحي الدقيق الذي وضعه كون. وصار تحول البراديغم يعني: “تحولا في طريقة رؤية الأمور”. وذهب الناس في تفسير هذا المعنى الجديد مذاهب شتى:

فقد طور إيمر لاكاتوس Imre Lakatos مكونات مفهوم البراديغم عند كون عبر اصطلاح برنامج البحث programme de recherche.

أما إدغار موران Edgar Morin فيقول بأننا اليوم في بداية تكوين براديغم للتعقد هو نفسه مرحلة ضرورية لتكوين علم البراديغم paradigmatolotgie الذي لا يهتم بالمهمة الفردية لمفكر ما، ولكن بكتاب تاريخي لتجمع الأفكار[7].

وقد استعمل المصطلح في العلوم الاجتماعية بمعنيين غاليا: (أحدهما) مجموع الخبرات والاعتقادات والقيم التي تؤثر على طريقة الفرد في إدراك الواقع والتصرف تبعا لهذا الإدراك. و(الثاني) شبكة القراءة التي تسمح بتفسير المعطيات بواسطة أدواتها النظرية الخاصة. بهذا المعنى نتحدث عن براديغم “صراع الطبقات” عند كارل ماركس K. Marx، وبراديغم “رأس المال الاجتماعي” عند بيير بورديو Pierre Bpurdieu ونحو ذلك…

كما استعمل البراديغم في ميدان الاقتصاد، فتحدث كارلوتا بيريز Carlota Perez وكريستوفر فيمان Christopher Freeman عن البراديغمات التقنية الاقتصادية ليفسرا تتابع الأدوار الاقتصادية الطويلة[8]. ودخل إلى مجال المقاولات في العقد التاسع من القرن الماضي، وتم ربطه بالفعل لا بالنظر فقط، ليبين فعاليته في سوق العمل ومستقبله، مثل جويل باركر، حيث يبين أهمية خلق براديغم جديد في نجاح الشركات الكبرى أو تراجعها[9].

إن التحويل الأخطر الذي حدث للمفهوم هو القول بأن كل ما يكوّن البراديغم يتميز بالنسبية والذاتية.

هذا التحويل يجعل الحديث عن تاريخ العلوم والثورات العلمية غير ذي قيمة. لذلك حري بنا أن نعود إلى ميزات أهم للبراديغم، نجملها في ما يلي:

ـ أنه يعتبر أداة إجرائية لتفسير تاريخ العلم ومدارسه، ومن شأن هذه الأداة أن تحد من النـزوع إلى الصراع بين المدارس العلمية داخل الحقل المعرفي الواحد. فجميعها تمتلك نمطًا فاعلا من الممارسة العلمية..

ـ أنه يثبت الطابع المتفاعل والتكاملي للمعارف العلمية، ضمن سياق تداولي محدد. ولا ينظر باحتقار إلى الالتزام بالتقاليد العلمية، بل يعتبر هذا الالتزام شرطا لتطور العلم، نظرا للطابع المنفتح للبراديغمات العلمية، كما تقدم..

ـ أنه يقر بالخصوصية الثقافية للبحث العلمي، رغم كونية انشغالاته. فالبراديغم العلمي مرتبط بالجماعة العلمية، بل بالمجتمع العلمي الذي يحمله. لذلك فهو يحمل القيم الثقافية للمجتمع العلمي الذي يحمله، مثلما يحمل الخصائص الإبستيمية للعقل العلمي الذي يتداوله.

فما هي القيم الثقافية الموجهة للبراديغم العلمي الإسلامي؟ وما هي خصائصه الإبستيمية؟ وهل يفضي القول بتجديد هذا البراديغم إلى ثورة عليه، كما يلوح من نصوص توماس كون، فننسلخ من قيمنا الإسلامية وعقلانيتنا الشرعية؟ أم أن التجديد عود إلى تلك القيم وإحياء لتلك العقلانية، فنلغي مفهوم الثورة من تاريخ العلوم الإسلامية؟ أم ينبغي إعادة بناء تاريخ العلوم عامة، وتاريخ العلم الإسلامي خاصة، بشروط جديدة تفرضها هذه المادة العلمية الجديدة التي لم يهتد إليها توماس كون وأضرابه، فضاقت تعريفاتهم للبراديغم ووظيفته عن الإحاطة بها؟

القيم الثقافية الموجهة للبراديغم العلمي الإسلامي

1. تأسيس نظرية العلم: البناء الداخلي

القول في البناء الداخلي للبراديغم العلمي الإسلامي يقتضي القبول بمسلمتين يمكن صوغهما على النحو التالي:

إن النسق العلمي الإسلامي شكل ثورة على البراديغم العلمي اليوناني الذي هيمنت عليه الفلسفة اليونانية التي تزعمها المعلم الأول (أرسطو). وشملت هذه الثورة كلا من الأسس المعرفية، والطرائق المنهجية. وعلى الرغم من التقدير الخاص الذي حظي به الأعلام القدماء أمثال أوقليدس وأبقراط وجالينوس وبطليموس، فقد توجهت شكوك كثيرة لكثير من مصادراتهم وآرائهم ومناهجهم من قبل علماء الإسلام. وإذا كان البعض يتحدث عن عزلة الفلسفة والفلاسفة في المدينة الإسلامية، فمرد ذلك إلى أن الفلاسفة كالفارابي وابن وسينا وابن طفيل وابن رشد لم يستوعبوا هذا البراديغم الجديد، فظلوا مكبلين بالعوائق الإبستمولوجية التي فرضها عليهم البراديغم الأرسطي العقيم.

ينبغي أن نفرق بين مفهوم النسق المعرفي العام، وبين مفهوم البراديغم. فالأول يشمل أصول التفكير العامة التي يأخذها المسلم من الوحي، وتوجه نظرته للكون وللإنسان. فهذا النظام المعرفي له أسس توقيفية، يمكن أن تفهم وتعلل وتدرك مقاصدها بالعقل، ولكنها ثابتة بسبب ثبات مصدرها. أما البراديغم العلمي فهو يشمل كل الإنتاج العلمي الذي أبدعه العلماء متأثرين بروح النسق المعرفي العام، ولكن مفاهيمه وأدوات اشتغاله ومنجزاته تشكل نسقا معرفيا من الدرجة الثانية يقبل التغير والمراجعة والثورة عليه.

إذا سلم هذا، فالسؤال الوارد على المسلمتين هو: كيف نفسر وجود ثورة علمية في العالم الإسلامي القديم، رغم أن المدينة الإسلامية بنيت على أسس دينية؟ بعبارة أخرى: ما هو وضع المعرفة العلمية في الفترة المبكرة لظهور الإسلام وتأسيس الدولة النبوية ودولة الخلافة؟

لقد كانت الأجيال الأولى للمسلمين متشربة بالعقائد الجديدة التي أتى بها الإسلام، والتي كانت تتميز بالوضوح والبساطة والوسطية. لقد خاطبت العقل المفكر أن يتأمل في الطبيعة ليكتشف أن وراء دقة قوانينها وبديع جمالها، دليلا على خالق واحد، كما طالبت منه أن يعلم بأن للزمان مقادير مضبوطة يحتاج المسلمون إلى معرفتها لإقامة شعائرهم الدينية كالصلاة والصيام وغيرهما.. لقد أدى هذا إلى الإحساس بتقدير خاص لعلم الحساب من قبل المسلمين، ثم إلى ميلاد علم جديد هو علم التوقيت، شكل أصلا مهما لتطور الأبحاث الفلكية عند المسلمين قبل التعرف على كتاب المجسطي لبطليموس. وفضلا عن ذلك، فإن عددا مهما من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية كان مدارها على موضوعات علمية دقيقة في مجالات الفلك والطب وعلوم الأرض والبحار والأجنة وغيرها… وليس المهم طريقة تفسيرها، بل القيمة الإبستيمية لوجودها ضمن الموضوعات الأساسية التي تضمنها خطاب الله المباشر إلى المؤمنين.

نستطيع أن نستنتج، إذن، بأن العقائد الإسلامية قد ولدت ممتزجة بالعلوم التجريبية والرياضية. وهذا ليس كلاما عاطفيا. فمن الممكن أن نستحضر مئات الشهادات العلمية على ذلك. لقد مثل القرآن الكريم وضعية جد متقدمة في تاريخ الكتب المقدسة الموجودة، فلأول مرة نلاحظ كتابا ربانيا يحرض على طلب العلم بصفة عامة، وعلى العقل الجبري التحليلي التجريبي بصفة خاصة. لقد تضمنت سورة العلق أول نداء تحريضي للتعلم، حيث يخاطب الله تعالى المسلم بقوله: “اقرأ”، ويتحدث عن مفاهيم الخلق والعلم والقلم… كان طلب القراءة باسم الله طلبا للتدبر في الكون والإنسان كيف خلقهما الله: ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الاِنسان من علق﴾ (العلق: 1-2)، وهذه القراءة التدبرية في الكون والإنسان تستلزم تعلم القراءة والكتابة، فيدرك القارئ كيف علّم الله الإنسان بالقلم ما لم يكن يعلم.

﴿اقرأ وربك الاَكرم. الذي علّم بالقلم. علّم الاِنسان ما لم يعلم﴾ (العلق: 3-5).

ولم يتوقف القرآن عند هذا الخطاب الأول، بل استمر في الدفاع عن قداسة والبحث العلمي والمعرفة العلمية، فيخاطب أتباعه وهم ما زالوا في مكة: ﴿قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون﴾ (الزمر: 10)، ثم يقول لهم بعد تأسيس دولتهم في المدينة: ﴿يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات﴾ (المجادلة: 11).

ثم يأمر الله تعالى المتعلمين، منذ العهد المكي، أن يتمسكوا بالأخلاق العلمية المتمثلة في التواضع؛ لأنه: ﴿وفوق كل ذي علم عليم﴾ (يوسف: 76)، ﴿وما أوتيتم من العلم إلا قليلا﴾ (الاِسراء: 85).

كان لنظرية العلم التي بدأ تأسيسها مع خطاب الوحي مباشرة أثر مباشر في تكوين رؤية خاصة للمعرفة العلمية، ومناهج محددة للبحث العلمي، وسبل تنـزيل الرؤية والمنهج على الوقائع العملية المدروسة. لقد بدأت هذه الرؤية من توسيع مفهوم القراءة التي أمر بها القرآن أتباعه من أول يوم، لتكون فقها في القرآن والإنسان والأكوان.

لذلك كان التعريف الصوري للعلم الذي ورثه العلماء عن نظرية العلم الأرسطية محصورا بين دائرة ضيقة جدا من الفلاسفة، بينما ساد تعريف تداولي جديد للعلم عند أغلب الفقهاء والمتكلمين، حيث عرفوا العلم بأنه: “الاعتقاد الجازم المطابق للواقع”.

لقد عرف الفلاسفة العلم بأنه حصول صورة الشيء في العقل، وكان ذلك مدخلا لجملة من المشكلات الفلسفية التي انتقلت إلى الفلسفة عبر مفهوم الصورة الذي كان يعني عند أفلاطون فكرة Eidos  (idée) ولها وجود مفارق للمادة في عالم المثل. وهو عند أرسطو جوهر ملازم للمادة نفسها، لا مفارق لها. مما استدعى نقاشات عقيمة ملأت نظرية العلم عند الفلاسفة. أما عند العلماء: فإن ربط العلم بالاعتقاد من جهة، والدليل الصادق الجازم المطابق للواقع من جهة أخرى، قد شكل معلما من معالم الثورة على السياج البراديغمي اليوناني، وفتح النقاش في نظرية العلم في اتجاهين:

ـ الأسس الاستدلالية للعلم: من تحليل وتركيب، واستنباط واستقراء وتجريب وتطوير أشكال البرهنة من الشكل الصوري الأرسطي والشكل الرياضي الأوقليدي إلى الشكل التداولي الحجاجي. وهذا أغنى مناهج البحث التجريبي في فترة مبكرة من تاريخ العلوم الإسلامية، في مجالات الطب والكيمياء والفيزياء، فضلا عن علوم الحديث والتاريخ والفقه وأصوله. وهي علوم جمعت بين الاستقراء والبرهان، والدراية والرواية، ثم علم المناظرة وآداب البحث. بل كان بعضها علوما منهجية بالأصالة كعلم الأصول وعلم الحديث، تناقض التفكير المنهجي الموروث في الأورغانون المنطقي الصوري الأرسطي. وكان للعلم الرياضي حضورا أقوى من المنطق الصوري الأرسطي في ثنايا كل تلك المعارف العلمية.

ـ الأسس الاعتقادية والأخلاقية للعلم: كان للعلماء تقدير خاص للشريعة، يختلف جذريا عن نظرة الفلاسفة التي جعلتها خطابا من الدرجة الثالثة من حيث قيمتها العلمية، بعد البرهان والجدل. وهذا نجده عند ابن الهيثم وابن حيان وابن البناء وغيرهم. مما أدى إلى عدة نتائج من أهمها اثنتان على الأقل:

أولا: تحويل جوهري في النظرة إلى العلوم وأصنافها ومراتبها ومعايير دراسة العلاقات بينها. فبينما كانت لائحة العلوم الموروثة في تصنيفات البراديغم اليوناني للعلوم لا تتعدى البضعة عشر، نجدها تتجاوز الثلاثمائة علم في البناء العلمي الجديد للعلوم عند المسلمين. وترتب على ذلك أيضا تحويل جوهري في النظرة إلى العلوم الدائرة على الوحي كالتفسير والفقه والأصول والحديث، من النظرة الدونية التي تبناها الفلاسفة المتأثرين بالبراديغم العلمي اليوناني إلى نظرة جديدة تماما. نجدها عند مؤرخي العلوم المسلمين ابتداء من فهرست ابن النديم وما تلاه من عشرات المصنفات في تاريخ العلوم الإسلامية وأصنافها[10].

ثانيا: تحويل وجهة العلم الإسلامي من الاستغراق في البحوث الميثافيزيقية والكلام اللاهوتي الذي كان يعرف بجليل الكلام، إلى الاهتمام بالكلام العلمي في الكونيات والإنسانيات مما كان يعرف عند المتكلمين بدقيق الكلام، وأبدع فيه الفيزيائيون والكيميائيون والرياضيون… وغيرهم ممن أبدعوا نظرا ومنهجا وابتكارا، وانتهوا إلى نتائج باهرة مثل القول بحدوث العالم، وبإمكان توسعه ونسبية المكان والزمان، والنسبية الاحتمالية بدل الحتمية الصارمة، وهي نتائج متطورة في مجالها[11].

2. من نظرية العلم إلى بناء مجتمع العلم

قد يستغرب البعض من الحديث عن وجود ثورة علمية وبناء مجتمع العلم في المدينة الإسلامية التي بنيت على أسس “دينية”. ولكن ما بيناه سابقا من طبيعة هذا الدين الجديد ووضعية العلم الطبيعي والإنساني ضمن نصوص الوحي فيه، يرفع الالتباس. لقد كانت المدينة الإسلامية مدينة العلم والعلماء, وإنما السؤال الجدير بالإثارة هو: كيف حدث أنه في خلال قرن واحد حدث تحول كبير في المعارف العلمية؟ وبعبارة أخرى: كيف تم تأسيس تقاليد علمية في العالم الإسلامي بهذه الوتيرة بعد امتداد ما يسمى “بالفراغ الروماني” الذي استمر عدة قرون؟ أو بتحديد أكبر: من أين يبدأ فعليا تاريخ العلوم الإسلامية: هل من لحظة تأسيس نظرية العلم -أعني البناء الداخلي للنسق العلمي الإسلامي- أم من لحظة ترجمة معارف الشعوب المجاورة للمسلمين؟

تقدم الفقرة السابقة عاملا مهما يفسر هذا الأمر. علينا أن نتخيل كتابا دينيا أول آيات يخاطب بها أتباعه هي: اقرأوا واكتبوا وتعلموا. ويعلي من منـزلة العلماء في الدنيا وفي اليوم الآخر. كيف يكون هؤلاء المتدينون؟ طبعا سيقدسون العلوم وسيتنافسون في البحث عنها، وسيحترمون العلماء. إنهم سيقدسون العلم؛ لأن ذلك أول ما سمعوه في كتابهم المقدس.

إن العقائد الإسلامية الجديدة التي تميزت بالوسطية والوضوح، قادت الفكر العلمي في اتجاه مخالف في الغالب للعقائد الموجهة للبراديغمات العلمية القادمة من الهند والفرس واليونان، خاصة مع وجود قوة العلم التجريبي الناشئ. وهو أمر لاحظه بيير دوهيم P. Duhem (1861ﻫ/1916م)، فقال بأن رجال العلم المسلمين: “كان عليهم أن يتجرأوا، فيناقضوا آراء المعلم الأول. ولقد حتمت عليهم كسرَ نير المشائية قوتان: قوةُ العلم التجريبي، وقوة علم الكلام اللاهوتي. فالأول أجبرهم على التسليم بوجوب التنازل عن العقل إذا هم أرادوا اتباع حس أرسطو، والثاني أكد لهم أن ثقتهم في قول أرسطو تناقض إيمانهم بكلام الله[12].”

ومع ذلك، فلم يكن هذا هو العامل الوحيد الذي دفع إلى تأسيس تقاليد علمية في العالم الإسلامي. فقد كانت هناك حاجات مرتبطة بالتطور الحضاري للأمة الإسلامية دفعت إلى تأسيس تلك التقاليد التي ترتكز على عقلية علمية خاصة، تتميز بأنها عقلية جبرية وتحليلية وعملية.

إن الإسلام عندما كان يبني مدنه ويؤسس حضارته، تميز بعقلية تقدر العلوم الرياضية والطبيعية تقديرا كبيرا، وكانت أيضا عقلية عملية تستثمر العلوم في الحياة العملية للمسلمين؛ حتى أمور الالتزام الشخصي بالإسلام تطلبت نظرية متكاملة في الجبر والمقابلة، وعمليات الحساب في الكسور وفي الجذور، مثل مسائل الإرث والزكاة، زيادة على الأمور الحياتية الأخرى من تجارة وزراعة وصناعة ومعمار وتطبيب الخ…

 إذن، لم تكن الترجمة سببا في نشوء علوم الرياضيات والطبيعيات عند المسلمين، بل وسيلة مساعدة فقط. ونستطيع أن نضيف دافعين آخرين مهمين يفسران تأسيس تلك التقاليد العلمية في المدينة الإسلامية وهما:

أولا: الدافع السياسي والاقتصادي: ويتجلى في أمور ثلاثة:

أ. وجود إرادة سياسية في تحديث علمي للمجتمع الجديد. فكان هناك إشراف للدولة على النشاط العلمي تشجيعا وتنظيما وتمويلا. طبعا كان للشعب دور فاعل في هذا النشاط أيضا، سواء جمهور الناس أو النخبة، فالجميع –مثلا- كان يعطي قسطا مما يملكه وقفا على العلم والعلماء والمؤسسات العلمية[13].

ب. تطور النظم الإدارية في السياسة والاقتصاد: فمنذ بداية توسع الدولة الإسلامية في عهد الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب، نشأ ما يسمى “فن الكتابة”؛ أي السكرتارية، وكان يضم فرعين: الأول: فن التدبير الإداري، وكان يسمى: كتابة الإنشاء، ويهتم بالكتابة في الدواوين، وبين مختلف إدارات الحكم. والثاني: علم المحاسبة، وكان يسمى: كتابة الأموال. كل ذلك دفع إلى تطوير علم الحساب، بصفة عامة، وتأسيس علم الجبر بصفة خاصة. كان هذا منذ مرحلة الخلافة الراشدة.

ج. تطور النظام النقدي: أعني صك النقود بدل حساب العصي الذي كان سائدا قبل المسلمين، واستمر في دول أوروبا إلى العصر الحديث. وهذا تطور مهم جدا؛ لأنه أدى إلى ظهور مناقشات في موضوعات اقتصادية بطريقة رياضية تتوقف على علم الحساب والجبر، مثل: سعر الصرف، ووزن النقود، وتداول النقد، والأسعار وحالات الرواج والركود… وغير ذلك من هذه الموضوعات. لهذا يقول رشدي راشد: إن اتساع الإمبراطورية الإسلامية من الصين إلى الأندلس، مع وجود نظم حسابية متعددة ذات أساس عشري، دعا -نتيجة لجمع الضرائب والخراج والجزية- إلى توحيد هذه النظم، وإيجاد علم رياضي مهم هو علم الجبر.

ثانيا: الدوافع الاجتماعية والثقافية: وتتجلى باختصار في اندفاع المسلمين إلى إنشاء حركة علمية واسعة تلبي الحاجات الاجتماعية المرتبطة بالصحة والتربية والتعليم ونحو ذلك. وقد ظهر ذلك في 5 أسباب:

أ. ميلاد المؤسسة التعليمية التي اتخذت عدة أشكال من أبرزها:

  • المساجد والكتاتيب القرآنية.
  • مجالس الخلفاء والوزراء والعلماء.
  • المدارس التي تطورت بشكل كبير في برامجها ونظمها التعليمية وطرق تسييرها الإداري والمالي، وحتى في عددها (مثلا: في القرن 4ﻫ كان في قرطبة وحدها 35 مدرسة، وفي القرن العاشر كان في مدينة سبتة المغربية على صغرها 40 مدرسة).
  • بيوت الترجمة ودكاكين الوراقة. ومن أشهرها “بيت الحكمة” الذي أسسه المامون العباسي.
  • إحياء المدن العلمية الكبرى مثل الإسكندرية وأنطاكية…
  • انتشار المكتبات العلمية الكبر وتطور نظمها بشكل واسع جدا.

ب. تطور علم المناهج La méthodologie لدى المسلمين؛ لأنهم احتاجوا إليه لفهم النصوص الدينية، ولحل المشكلات العديدة -التي كانت تسمى النوازل الفقهية- فنشأت عدة علوم ذات طابع منهجي: وخاصة علم أصول الفقه، وعلم التحقيق العلمي للنصوص والروايات والأحداث التاريخية، وعلم التفسير… وسوف نجد أن حركة البحث في ميدان الفقه لم تكن متزامنة مع حركة البحث في العلوم الدقيقة كالرياضيات والفيزياء والطب، فقط، بل كانت مرتبطة بها ارتباطا وثيقا.

ج. تطور علم اللغة بصفة عامة، وعلم المعجم بصفة خاصة، حيث ارتبط بالرياضيات منذ القرن (2ﻫ/8م) على يد الخليل بن أحمد الفراهيدي (توفي 786م). نعلم أن هذا الرجل له أول معجم عربي ضخم هو “كتاب العين”، وأنه أول من استخرج أوزان الشعر العربي، ولكن لا يعلم الناس أنه أول من أدخل الرياضيات إلى علم المعجم، فاستخرج الجذور اللغوية للكلمات مستعملا ما سوف يسمى بعده بالتحليل التوافيقي L’analyse combinatoire وهو من أهم النظريات الرياضية التي أبدع فيها المسلمون، وبلغت قمتها في القرن السادس على يد فقيه ورياضي مغربي، يسمى ابن منعم العبدري الذي ابتكر مثلثا للتوافقات العددية ينسب اليوم خطا لباسكال حيث يسمونه Triangle de Pascal وهو موجود في كتاب “فقه الحساب” لابن منعم.

د. التطور التقني والعلمي الدقيق. فقد تطورت الصناعة الطبية في فترة مبكرة، ونشأت الميكانيكا مستعينة بالهندسة، حيث تم اختراع أول ساعة ميكانيكية ضخمة في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد، وظهر علم التوقيت الذي كان السبب في تطور علم الفلك كما قلت سابقا.

ﻫ. نشوء الجدل العلمي في القضايا الدينية منذ بداية العصر الأموي، سواء بين المذاهب العقدية الإسلامية، أو بين المسلمين وغيرهم من أصحاب العقائد والديانات الأخرى، وبالطبع في جو هذا الجدال أثيرت قضايا فلسفية وعلمية مثل طبيعة المادة ومكوناتها، والزمان والمكان والحركة والخلق والعقل والجسم…

فهل يعني كل هذا إلغاء أي دور للكتب التي ترجمها المسلمون في ميادين علمية مهمة كالطب والفلك والرياضيات… في نشأة تلك التقاليد العلمية في العالم الإسلامي؟

ينبغي علينا أن ننظر إلى هذا الموضوع نظرة شمولية. فبعض المستشرقين الكلاسيكيين قالوا إن كل المعارف العلمية لدى المسلمين هي معارف يونانية كتبت بأحرف عربية. المسلمون اكتفوا بترجمة علوم اليونان وباقي الأمم الأخرى. هذه نظرة اختزالية وتبسيطية لما يجري في كيفية تكون الحضارات الإنسانية وعلومها. إن بيت الحكمة الذي كان مؤسسة لترجمة الكتب الأجنبية كان مجرد حدث واحد ضمن تيار واسع جدا من الأحداث الفكرية والحضارية، أسهمت كلها في إحداث ذلك الانقلاب العلمي الذي وقع في بلاد الإسلام. لم تكن الترجمة سببا لنشأة العلوم عند المسلمين، وإنما كانت وسيلة مهمة أغنت ذلك التيار العلمي والحضاري الذي كان يتصاعد بالتدريج. والذين يظنون أن مجرد ترجمة بضعة كتب قديمة كان سببا في نشأة العلوم عند المسلمين مخطئون وسطحيون: فكم من الكتب اليوم نترجمها في العالم العربي والإسلامي اليوم دون فائدة؟ المسألة أعقد من هذا؛ لأن بناء المجتمع العلمي هو عملية حضارية شاملة تتضافر فيها العوامل السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية…الخ.

ضمن الحركة الواسعة لبناء مجتمع العلم عند المسلمين، كان طبيعيا أن تكون ترجمة كتب الأمم الأخرى في المجالات العلمية جزءا من هذه الحركة، كما كان طبيعيا أن تكون الإدارة السياسية للدولة والإدارة العلمية لبيوت الترجمة، كبيت الحكمة مثلا، إدارة منفتحة إلى أقصى الحدود. فقد استوعبت الإدارة الحاكمة وسياستها التعليمية، منذ فترة الخلافة الإسلامية، علماء الملل الأخرى في مجال الطب والعلوم الدقيقة، وأمثلة ذلك كثيرة: هناك أسر نصرانية عرفت بالطب واشتغلت بكاملها في قصور الخلفاء وباحات المدارس، ولقيت كل تقدير واحترام، كأسرة بختيشوع مثلا، التي كان من أبرز علمائها المشتغلين بالترجمة من الجد حتى الحفيد الابن: جبرائيل بن بختيشوع (218ﻫ/833م)، وبختيشوع بن جبرائيل (256ﻫ/869م)، وجبرائيل بن عبد الله بن بختيشوع (396ﻫ/1005م)، وعبيد الله بن جبرائيل بن بختيشوع (453ﻫ/1061م).

وأيضا من العلماء الذين كانوا على ملل غير الإسلام: تاودون (نصراني توفي بعد 132ﻫ/753م)، ويوحنا بن ماسويه (243ﻫ/857م)، وثابت بن قرة صابئي (288ﻫ/900م)، وحنين بن إسحاق (260ﻫ/873م) وإسحاق بن حنين (298ﻫ/911م) وقسطا بن لوقا البعلبكي (300ﻫ/912م) ويوحنا يوسف بن الحراني (200ﻫ/815م)، وسنان بن الفتح الحاسب (نحو 210ﻫ/825م) وغيرهم من النصارى.

نستنتج مما تقدم أن الإنجازات العلمية المبكرة لدى المسلمين في الكيمياء والفلك وغيرهما قد تحولت إلى نماذج علمية إرشادية. فقد انطلقت مع حركة البناء الحضاري للأمة الإسلامية؛ إذ كانت هناك حاجات حضارية شكلت دوافع حقيقية نحو تأسيس تقليد علمي إسلامي، وكان إنجاز ذلك غير ممكن إلا مع تأسيس عقل جبري تحليلي عملي. فما هي الخصائص المعرفية للنسق العلمي الإسلامي الذي نبتت في أحضانه هذه النماذج الإرشادية العلمية؟

3. الخصائص المعرفية للنسق العلمي الإسلامي

توجد مداخل عديدة لحصر الخصائص المعرفية للبراديغمات العلمية التي استوعبها النسق المعرفي الإسلامي، ويمكن أن نختار منها مدخلين أراهما أساسيين لاستيعاب طبيعة العقلانية العلمية التي أنتجت هذا التراث العلمي الضخم في تاريخ المسلمين. وهما: التكاملية والانفتاح.

أ. التكاملية

فقد كان التكامل العلمي -منذ المراحل الأولى لنشأة الفكر العلمي وتطوره في الإسلام- جزءا من التكوين البيداغوجي للمتعلم. فالعلوم الطبيعية والتعاليمية؛ (أي الرياضية) لم تكن تقل أهمية “شرعية” عن وضعية العلوم “الشرعية” ذاتها، حتى أن الإمام الشافعي وهو ثالث الأئمة الأربعة، ومؤلف الرسالة في أصول الفقه والأم في الفقه وغيرهما، يقول: “لا أعلم علماً بعد الحلال والحرام أنبل من الطب” وكان يعتبره ثلث العلم[14]. كما كان الفقهاء يتعلمون الحساب ضمن ما يتعلمونه من معارف منذ تعليمهم الابتدائي، كما يفتي باستحباب ذلك، الفقيه المالكي الكبير محمد بن عبد السلام سحنون (توفي 256ﻫ/870م)، حيث نصَّ في رسالته “آداب المعلمين” على استحباب تعليم الحساب للأطفال[15]. وذلك لحاجة الفقه إليه في أغلب أبوابه، كباب الفرائض، حتى أنه يمكن القول بأن علم الفرائض كان مهدا أساسيا لنشأة تقليد حسابي في شرق العالم الإسلامي وغربه، مثلما كان علم التوقيت دافعا لنشأة التقليد العلمي الفلكي. كما أننا لا نكاد نعثر في تراجم أعلام أهل العلم بالقرآن والحديث والفقه من لم يكن له حظ من الطب والنبات والحساب والهندسة والفلك… إما حظ تعلم ودرس، أو نصيب مشاركة وتعليم، أو شرف ابتداء وإبداع. ولا نكاد نعثر -في مقابل ذلك- في تراجم أعلام أهل العلم بالطب والنبات والحساب والهندسة والفلك ونحوها، على من لم يكن له حظ من العلم بالقرآن والحديث والفقه… إما حظ تعلم وحفظ، أو نصيب مشاركة وتعليم وشرح، أو شرف إضافة واجتهاد.

بهذا نستخلص أن علاقة الدين بالعلم لم تكن في تراثنا الفقهي ولا في تراثنا العلمي أمرا عارضا، يحتاج التحريض الفكري عليه، بل كانت جزءا من آليات التفكير المستعملة في المجالين معا. وإذا كانت قواعد العلم تسهم في حل كثير من مسائل الفقه الشرعي، فإن هذا الفقه نفسه قد كان له الدور الفعال في إغناء قواعد العلم، بل وفي إبداع فروع جديدة من المعرفة العلمية، لم يكن لها أن توجد إلا به. لذلك ليس غريبا أن تظهر نظريات كبيرة في الرياضيات بسبب انشغالات عملية فقهية، كنظرية الجبر والمقابلة ونظرية التوافيق وغيرهما.

لقد كان التكامل سمة أساسية تدخل في بنية التفكير العلمي؛ إذ لا يمكن الغفلة عن واقعة أساسية، وهي أن الثورة العلمية الجديدة التي شهدها العالم الإسلامي القديم، إنما حدثت نتيجة لتغيير حضاري شامل أحدثه الإسلام في البيئة العربية أولا والبيئات التي فتحها المسلمون ثانيا. ويترتب على ذلك أن تلاحظ أهمية الوحي في تأسيس عقلية منهجية جديدة. إن العقلية الإسلامية التي قدمت لتاريخ العلوم إضافات نوعية نظريا ومنهجيا، قد تشكلت بفضل الوحي أولا. فعن الوحي (القرآن والسنة) صدرت الصياغة المنهجية العقلية للمعارف العلمية في لحظة التأسيس، وهي: علوم الوحي (التفسير والأصول والحديث…) وعلوم الآلة (اللغة والنحو…)، وعلوم الحال (الرياضيات، الفيزياء…). وانبثقت طرق الاستدلال بالتبع عن هذه الصياغة المنهجية الخاصة. وهكذا يتجلى التكامل العلمي (أو الشمولية) في بنية التفكير العلمي الإسلامي ذاته.

يترتب على ذلك أمران:

الأول: “وحدة العقل والنقل”: ذلك أن تعارض النص الصريح من الكتاب والسنة مع العقل الصحيح السليم غير متصور أصلاً، بل هو مستحيل. كيف يكون الوحي معارضا للعقل وقد أنـزله الحكيم العليم خالق العقلاء، على رجل هو أرجح البشر عقلا وأنضجهم فكرا وأصفاهم سريرة؟ وكيف يتصور العقل معارضا للوحي إلا أن يخالطه الهوى فيفقد ميزان الحكمة وصفاء النظر؟

والثاني: “قدسية الحقيقة العلمية من قدسية الدين نفسه”: وهي قدسية تبلورت من جهتين: (إحداهما) جهة الاشتراك في قيمة العلم؛ إذ يقع طلب العلم، كيفما كان وحيثما وجد، في أعلى درجات العبادة الدينية. فمحراب البحث العلمي لا يقل قدسية عن محراب العبادة الدينية. و(الثانية) جهة الوسيلة المنهجية؛ إذ دفعت قدسية الأحاديث النبوية علماء الإسلام إلي ضبط المنهجية العلمية في البحث والتنقيب، رواية ودراية، نقلا ونقدا، داخل حقل علوم الحديث وخارجه. لقد عُممت هذه القدسية على الحقيقة العلمية حيث كانت وكيفما كانت. مما أدى إلى “تشارك معرفي عام وتفاعل منهجي” خاص بين العلوم الدائرة على الوحي من أصول وحديث وفقه وعقائد… من جهة، ثم بينها وبين علوم الطب والصيدلة والرياضيات والفلك… من جهة أخرى. وهو ما يؤدي إلى تكامل في الموضوعات والمناهج داخل العلوم الإسلامية. ويتجلى ذلك في أمور ثلاثة:

أولا: “الشمول في الموضوعات: ومعناه اتساع دائرة البحث العلمي للنظر في كل الموضوعات الطبيعية والإنسانية، وتوحيد التصور بصدد الغيب. صحيح أن البحث في العقائد هو مما لا ينبغي التوسع فيه، إلا بقدر ما يوحد تصور المسلمين عن الله والنبوة والأخرويات، ولكن السبب في ذلك يرجع إلى الرغبة في توجيه العقل المسلم نحو التفكير العلمي المنتج. ومن هنا نفهم سبب اعتراض الفقهاء والعلماء على إغراق المتكلمين في الانشغالات الجدلية. فقد كانت تعرقل فعل العقل المنهجي المنتج.

ثانيا: “التنوع المنهجي: ومعناه تنويع الأدوات المنهجية المستعملة؛ وهو يترجم التكامل على صعيد الوسائل المعرفية المنهجية، حيث تتنوع الوسائل العلمية في الدراسة، فتنفتح على وسائل التجريب (الحس) ووسائل النظر (التدبر)، ووسائل الخبر (النقل).

ثالثا: “الوصل بين المعارف: فمن أهم مظاهر الشمول التي تدرك بها الحقيقة التكاملية للتراث العلمي هي التداخل الذي حصل بين المعارف والعلوم في الممارسة التراثية، سواء اتخذ هذا التداخل صورة “التراتب” أو صورة “التفاعل” بين العلوم التي نبتت في مجال التداول الإسلامي العربي. هذا التفاعل المبني على المصادرة والتسليم بين العلوم. ويسميه البعض بآلية الخدمة: حيث العلوم يخدم بعضها بعضا. ينتج عن ذلك أن العلوم الإسلامية تتداخل فيما بينها، بحيث “يتَسَلَّم” بعضها نتائج بعض لتصبح مسلمات يصح البناء عليها، أو يستعير بعضها آليات منهجية تمكن من حل مسائل بعضها الآخر. وقد يأخذ هذا التفاعل صورة التداخل الجزئي بين العلوم حيث يقع بينها بعض التقاطعات المعرفية والمنهجية.

وقد يأخذ التفاعل أيضا صورة الوصل أو التقريب بين الأجنبي المنقول وبين البراديغمات العلمية الأصلية: تقريبا يراعي شرائط المجال التداولي الإسلامي، وإلا فإن هذه البراديغمات تلفظه لفظا.

وقد يأخذ الوصل صورة الربط بين جانبي المعرفة النظري والعملي. فالعمل مفيد في إنتاج الدلالة؛ إذ هو إجراءات تكيفية في العلوم، وتمييز بين الخير والشر، وتعلق للعلم بالاستعمال والتخلق السلوكي.

ب. العقل النقدي المنفتح

لما كان هذا العلم الناشئ يعبر عن عقلانية جهوية خاصة يمليها المجال التداولي الإسلامي، فإن نقل المعارف العلمية الأجنبية كان مصحوبا بالشك والنقد، في المجالات الرياضية والطبيعية. وأما في المجالات الثقافية الموصولة بالفلسفة النظرية فكان الشك رفضا، والنقد نقضا. لقد كان الحوار العلمي نقديا لا نقليا. لذلك يمكن حصر خاصية الانفتاح في أربع سمات:

1. النقد: ويتجلى ذلك في ما يعرف بظاهرة الشكوك على الآخرين: كما فعل الرازي وابن الهيثم مثلا، حيث بين الرازي في شكوكه على جالينوس وابن الهيثم في شكوكه على بطليموس أن من دلالات الشك ودواعيه: وجود ألفاظ بشعة، ومعاني متناقضة، والأغلاط التي تمس أصول العالِم التي قررها ولا تقبل التأويل ويلزم عنها المحالات الفاحشة. ولذلك يرتقي الشك إلى عملية إعنات ومعاندة، وإخراج كل الاعتراضات الممكنة على معاني النصوص العلمية[16]. وكان هذا النقد موجها كذلك للمصادر العلمية الإسلامية، فقد ألف العلماء المسلمون كتبا نقدية عديدة لمؤلفات بعضهم، في مختلف المجالات العلمية كالطب والصيدلة والفلك وغيرها.

وقد يأخذ هذا النقد صيغ الحجاج والتناظر والجدل: فالعقائد الإسلامية الجديدة وقوة العلوم الرياضية والتجريبية الناشئة قادا الفكر العلمي في اتجاه مخالف في الغالب للفلسفة المشائية الأرسطية، التي كانت تمثل مجالا حضاريا مخالفا للمجال الحضاري الإسلامي الجديد. وكانت الأرسطية قد تحولت في المجال التداولي الأوروبي الوسيط بالفعل إلى نسق عقلي مغلق، فحمل الفقهاء لواء هذا التحرر العقلاني، بينما حرم منه الفلاسفة بسبب نـزعتهم الأرثوذوكسية المتعصبة للتركة العلمية الأرسطية.

2. الانفتاح المنهجي: الذي لا يغلق العقل على نموذج منهجي. ويرتبط ذلك بخاصية التنوع المنهجي، وذلك بالجمع بين الطرق التجريبية التطبيقية والأبنية التجريدية الرياضية فضلا عن القواعد الشرعية وأصولها في التعليل والتدليل. وكل ذلك بخلاف الانغلاق المنهجي الفلسفي الذي حصر نموذج البرهانية في كتاب التحليلات الثانية لأرسطو، فتميزت منهجية التفكير -عند السلفية الفلسفية التي كان ابن رشد من أبرز أعلامها- بالأحادية الضيقة.

3. النسبية: وعلامتها الاعتراف بالنقصان الطبيعي، وقابلية الفكر العلمي للخطأ بسبب العوائق الذاتية والموضوعية التي تحول دون بلوغ الحقيقة النهائية المطلقة الكاملة. وكل ذلك في مقابل دعوى الحقيقة المطلقة التي حصرت منهجيا في المنطق الصوري البرهاني، ونظريا في النموذج العلمي الأرسطي الذي لم يترك لمن بعده شيئا يقال. مما جعل الفكر العلمي الذي اشتغل خارج السياج الأرسطي الجامد أقدر على الحوار الثقافي مع الآخر، واكتشاف أخطائه، مع الاعتراف بفضائله.

4. الالتزام بأخلاق البحث العلمي: ويتجلى ذلك في مظاهر عديدة من أهمها:

أولا: الوعي بالعوائق الذاتية: ويمكن الاستدلال على ذلك بمثالين:

أ. يقول أبو الريحان البيروني في مقدمة كتابه “الآثار الباقية” شارحا منهجه: إنه يجب “تنـزيه النفس عن العوارض المردئة لأكثر الخلق والأسباب المعيقة لصاحبها عن الحق، وهي كالعادة المألوفة والتعصب والتظافر واتباع الهوى والتغالب بالرئاسة وأشباه ذلك[17].” ويحذر من العصبية في العلم بقوله: إن العصبية تعمي الأعين البواصر وتصم الآذان السوامع وتدعو إلى ارتكاب ما لا تسامح باعتقاده العقول [18].”

ب. يبين أبو بكر الرازي (توفي 313 ﻫ/925م) في كتاب الشكوك على جالينوس، الأسباب الداعية إلى مراجعة المتأخرين لكلام المتقدمين، واستدراكهم عليهم، فيختصرها في نوعين من الأسباب: الأول: ذاتي: يتمثل إما في “السهو والغفلة الموكلة بالبشر” أو “غلبة الهوى على الرأي في رجل من الناس لأمر ما يقول فيه خطأً، إما وهو يعلم، وإما وهو لا يعلم [19].”

ثانيا: دقة النقول: وذلك بنقد مصادر المعرفة العلمية سندا ومتنا، ومنها مصادر علماء الأمم الأخرى، ونأخذه من كلام ابن البيطار في مقدمة موسوعته العلمية الشهيرة الجامع لمفردات الأدوية والأغذية، حيث قال: “ووصفت فيها عن ثقات المحدثين، وعلماء النباتيين ما لم يصفاه، وأسندت في جميع ذلك الأقوال إلى قائلها، وعرفت طرق النقل فيها بذكر ناقلها، واختصصت بما تم لي به الاستبداد وصح لي القول فيه ووضح عندي عليه الاعتماد[20].” ثم قال مبينا منهجه في التعامل مع هذه المصادر: “فما صح عندي بالمشاهدة والنظر وثبت لدي بالخبرة لا الخبر ادخرته كنـزاً سرياً وعددت نفسي عن الاستعانة بغيري فيه سوى الله غنياً، وما كان مخالفاً في القوى والكيفية، والمشاهدة الحسية في المنفعة والماهية للصواب والتحقيق أو أن ناقله أو قائله عدلاً فيه عن سواء الطريق، نبذته ظهرياً وهجرته ملياً، وقلت لناقله أو قائله لقد جئت شيئاً فرياً، ولم أحاب في ذلك قديماً سبقه، ولا محدثاً اعتمد غيري على صدقه[21].”

ثالثا: حماية لغات الآخرين: فهؤلاء العلماء حفظوا مصطلحات غيرهم من الضياع، فكانوا يتقنون لغات غيرهم ويستعملون اصطلاحاتهم العلمية. فقد كان أبو الريحان البيروني، مثلا، عالما فارسيا معجبا باللغة العربية إلى درجة أنه فضل أن يهجى بالعربية على أن يمدح بالفارسية، ومع ذلك فقد أتقن سبع لغات، وألف كتابه في علم العقاقير (الصيدلة في الطب) جاعلا أسماء العقاقير بالعربية واليونانية والسريانية والسنسكريتية والفارسية. كما أن ابن البيطار عالم النبات والصيدلي الكبير، كان يتقن خمس لغات، وألف كتابا يعتبر من أهم مصادر الأعشاب والأدوية في أوروبا إلى حدود القرن 18م، فكان يذكر أسماء تلك الأعشاب والأدوية بخمس لغات كان من بينها اللاتينية والبربرية.

آفاق تجديد التقاليد العلمية الدارسة

1. التقليد والتجديد: إذا أخذنا بالمفهوم الإبستمولوجي للتقليد العلمي، فإن غياب وجود تقاليد علمية في مجتمع ما هو علامة نكوص حضاري، وانحلال في النسق الثقافي القادر على إنتاج براديغمات علمية منتجة. لذلك نحن مطالبون بخطوتين متلازمتين:

أولا: تجديد التقليد: لم يشع من معاني التقليد إلا معناه القدحي الموجود في كتب علم الأصول، وهو قبول قول الغير من غير سؤال عن الأدلة التي بني عليها. وأن هذا “التقليد” إن جاز في حق العامي من الناس، فلا يجوز في حق العلماء المجتهدين. ولا ندري حقيقة المأخذ اللغوي الذي نشأ عنه هذا الاصطلاح الشائع. فأغلب الأصول الدلالية لمادة (قلد) توحي بعكس هذا المعنى، إلا أن يكون تطور عن أصل الالتزام بالجماعة، وهو من أهم هذه الأصول الدلالية، لكن الأصل فيه الإحالة إلى مقام طبيعي يقوم فيه الإنسان مجتمعا مع غيره موافقا ومشاركا[22]، فالتقليد انتساب إيجابي لجماعة، تلتئم به الجماعة، ويتقوى به الفرد ويتشرف، ويحصل به الانتفاع للطرفين. ولذا فذم التقليد ناتج عن تطوير لمعاني الغلبة والاحتواء والغرق في الجماعة بعيدا عن معاني الحمل والاحتمال والتشريف والتقوية والتكليف والانتفاع، وكلها معاني تتردد في كل المعاجم اللغوية الكبيرة[23].

كيفما كان الأمر فإن التقليد في اصطلاح المشتغلين بالإبستمولوجيا وتاريخ العلوم هو: “مجموع الأصول والقواعد الحية والمنتجة التي تأسست عليها المناهج والمعارف العلمية في مجال تداولي معين[24].” فإذا كان الأمر كذلك، فإن حاجة العلماء المسلمين إلى هذا التقليد العلمي من آكد الحاجات. وقد تبين فيما تقدم أن عملية تأسيس تقاليد علمية -ومن ثم مجتمع العلم- ليست بالعملية الفردية البسيطة. إنها حركة أمة بكاملها. قد تفعل فيها الجماعات العلمية فعلا ما، لكنه يظل محدودا قابلا للانكسار في أية لحظة ما لم يقرر المجتمع نفسه بمثقفيه وسياسييه واقتصادييه… أن يتبنوا هذه الحركة.

ثانيا: تجديد التجديد: فليس التجديد تغييرا متنكرا لكل تقليد، فيكون إفسادا للفكر والقيم[25]، وإنما المطلوب في التجديد تحرير الفهم من العقم، ووقاية الفكر من داء فقدان المناعة الشرعية المكتسبة. وإنما هو داء عضال يصيب العقل المفكر حين يخمد قدراته التحليلية والنقدية، ويسلم ذاته لكل موجة تصيب منه الانفعال، وتستدرجه إلى مَقاتِلِه. وذلك عكس التجديد -حتى بالمعنى اللغوي-؛ إذ تدور مادة (جدد)[26] على السعي الجاد المتروي المفيد في طريق واضح مستقيم. فجُدَّة كل شيء طريقته، والجمع (جُدَد)، والجادة الطريق المستقيمة المستوية الواضحة، والجديد والجَدَد وجه الأرض، والأرض المستوية، وفي المثل: “من سلك الجد أمن العثار” وفسره ابن منظور بالإجماع، وما ذلك بالبعيد عن معنى التقليد أيضا! على أن الجد نقيض الهزل، والاجتهاد في الأمور، وأيضا بلوغ الغاية من الشيء، كما يقال هذا عالم جد عالم؛ أي بلغ الغاية في ما يصفه من الخلال. وكذلك: العظمة، كما في الآية: ﴿وأنه تعالى جدّ ربنا﴾ (الجن: 3)، وفي الدعاء “تبارك اسمك وتعالى جدك”، وفي حديث أنس: أن الرجل كان إذا حفظ البقرة وآل عمران جدَّ فينا؛ أي عظم في أعيننا. وربما لهذا المعنى سمي أبو الأب وأبو الأم جَدّا لما له من وقار وهيبة عند الأبناء والأحفاد. فهل يكون التجديد بعد هذا شرودا عن كل استقامة في الفكر والسلوك، وتنطعا في العلم، وتنكرا للتقاليد العلمية الرصينة؟! نعم، إن الجِدَّة نقيض البلى والخلَق، ومنه تجديد الوضوء والعهد. ولكن المتأمل في هذا الأصل لا يجده منفصلا عما تقدم؛ لأن التجديد هاهنا إنما هو عود إلى الأصل النقي برفع ما تراكم عليه من أوساخ أفسدت الأصل، ومن غبار السنين العجاف الخالية من كل فعل منتج[27]. ألا إن التقابل بين التجديد والتقليد غير دقيق من الناحية اللغوية، فإذا كان التجديد اجتهادا ومثابرة وسلوك مناهج دقيقة مستقيمة، فإن الاجتهاد مجال تلاقح التقليد والتجديد؛ لأنه لا اجتهاد إلا بعد التخصص بالدخول في أحضان التقاليد العلمية الراسخة، والتشبع من براديغماتها، ولأنه لا تجديد إلا بسلوك طريق نافع جاد ينقذ الجماعة العلمية (والقِلد في اللغة الجماعة من القوم!) من البلى الفكري. وإلا كان التجديد يبوسة وفقرا، وكان المجدد (جُدَّاء) وهي البقرة المعطوب ضرعها، فهي غير منتجة!

فإذا تبين ذلك، فاعلم بأن الهدف من العناية بتاريخ العلوم الإسلامية ليس الوقوف عند الإنجازات الكبيرة التي حققها العلماء الأسلاف، الذين يعدون بالآلاف، والرد على نظرية النقل التي روج لها دعاة المركزية الأوروبية، فهذا هدف قد تحقق، والوقوف عنده نكوص إلى الخلف، وبكاء على الأطلال.

كلا، وليس الهدف من التأليف في مجمل النتائج التي خلفها التراث العلمي للمسلمين دعوة المسلمين إلى بناء فكر علمي وتنمية علمية على تلك النتائج، ففي هذا إلغاء لقرون عديدة من الإضافات والتصحيحات التي جعلت جبل العلم يعلو شامخا، يتجاوز ما أنجزه الأسلاف على أهمية ما أنجزوه، والوقوف عند ما أنجزوه خيانة للأسلاف أنفسهم الذين ارتفعوا عاليا؛ لأنهم وقفوا على أكتاف العظماء: فراجعوا وحققوا، وفكروا ودققوا، وأعادوا سبك المناهج، وتصيدوا أفضل النتائج.

إن الوقوف عند ترداد الإنجازات والنتائج وقوف عند ظاهر من المعرفة العلمية في تاريخ العلوم الإسلامية، وغفلة عن حقيقتها؛ أعني عن طبيعة العقل الذي أنتجها: ما هي مصادر تفكيره العلمي؟ وكيف كان اشتغاله؟ ما خصائص العقلانية العلمية الإسلامية؟ وما هي تجلياتها في الأنساق المعرفية المختلفة، وفي الممارسة العلمية “الدقيقة”؟ ما طبيعة المجتمع الذي أنتجها؟ وما علاقة المعرفة العلمية بالمؤسسات الاجتماعية التي تحتضنه أو تنقله أو تموله أو توجهه أو تربطها به أنحاء أخرى من العلاقات؟

فتلك العقلانية الجهوية الحية المنتجة هي التي ينبغي تجديدها.

وتلك المؤسسات التي غابت اليوم عن مسرح الحياة العلمية، أو وقف فعلها عند مسوخ شكلية لا تنتج علما ذا بال، أو تكتفي بالوقوف في أحسن الأحوال على عتبة الماضي وما خلفه من أطلال، هي التي ينبغي تجديدها وتفعيلها لتعيش حاضر العلم، وتسهم بقوة أسسها العقلانية في توجيه مساراته، وبناء نتائجه، وتحقيق مآلاته الإنسانية النافعة.

2.  مجالات التجديد: ينبغي أن يتجه التجديد العلمي في اتجاهات ثلاث:

أ. تجديد الموضوعات: وذلك بالتركيز على مدخلين أساسيين في دراسة الموضوعات المادية والإنسانية، وهما:

ـ المدخل الإشكالي: وهو البحث في الإشكالات التي ترسو تحت جبل المعارف التي خلفها تراثنا العلمي أو التي نستوردها من تراث غيرنا، بسبب فترة طويلة من تجمد البحث، وركون العلماء والباحثين إلى ترديد كلام المتأخرين ممن أغلق منافذ تفكيرهم الحي جنوح إلى سجن المنظومات والخرافة والشطح الصوفي، أو إلى ترديد كلام المتغربين ممن أغلق منافذ تفكيرهم ميل إلى سجن الإيديولوجيات والإعجاب إلى حد التماهي مع كل ما هو غربي. المدخل الإشكالي يدرب العقل على الحس النقدي الذي ماز به علماؤنا الأسلاف وظهروا به على الأمم.

ـ المدخل المفهومي: وهو البحث في المفاهيم العلمية التي هي بالتعريف مداخل العلوم المختلفة. فأغلب جدالاتنا العقيمة سببها خلط المفاهيم، وكيف يحرر نـزاع لم تحرر لغته؟ وكيف تحرر لغة حوار لم تحرر أبنيتها المفهومية؟ المدخل المفهومي يدرب العقل على التريث والتروي بدل التسرع في القول والحكم، وإنما تنشأ البراديغمات الحية بفضل عقول عظيمة يلجمها هذا التأني عن شطط القول والفعل.

ب. تجديد المناهج: وذلك بمراعاتها شروطا ثلاثة في كل خطوة منهجية يسلكها البحث العلمي، ألا وهي:

ـ القواعد السياقية، وللتقاليد العلمية الأصولية لدى المسلمين إسهام لم يستنفذ عشر معشار أغراضه إلى اليوم.

ـ تكامل الأدوات: وقد تبينت لنا فاعليتها فيما تقدم من حديث عن خاصية التكامل، وللتقاليد العلمية الإسلامية والمعاصرة معا دروس منهجية مهمة ينبغي الوقوف عندها مليا، بدل أن نوليها وجهنا ظهريا، وننقلب إلى دراسات تجزيئية ومسالك انتقائية لا تؤدي إلا إلى آراء تحكمية، ونـزاعات مذهبية، تفسد حركة البحث العلمي الرصين.

ج. تجديد الآنساق النظرية: وذلك بالتركيز على مدخل أساسي في التعامل مع كل النماذج النظرية السائدة، ألا وهو المدخل النقدي، الذي ينبغي تصريفه في اتجاهات ثلاثة:

1. في اتجاه التراث العلمي الموروث.

2. في اتجاه مدارس القراءة والتأويل.

3. في اتجاه النماذج النظرية الدقيقة وتاريخها.

خاتمة مفتوحة

كان المجتمع العلمي الإسلامي بناء حضاريا صنعه رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن محاريب العلوم. فمتى يشق فقهاؤنا اليوم الطريق إلى المجتمع العلمي؟

سؤال للحلم والعلم، وهما فاتحة الأعمال الكبيرة في تاريخ العلوم!

 الهوامش


[1]. عالم فيزيائي أمريكي، ولد عام 1922م، اشتغل بفلسفة العلوم، له نظرية خاصة عن تاريخ العلم وحركته ترتكز على مفهوم البراديغم، قدمها في كتابه الشهير “بنية الثورات العلمية” عام 1962م، ترجمه إلى اللغة العربية في الكويت الدكتور شوقي جلال، وله ترجمة أخرى بعنوان “بنية الانقلابات العلمية للدكتور سالم يفوت. من مؤلفاته المتصلة بهذا الموضوع أيضا كتابه المهم:

The Essential Tension: Selected Studies in Scientific Tradition and Change

[2]. توماس كون، بنية الثورات العلمية، ترجمة شوقي جلال ضمن سلسلة “عالم المعرفة”، عدد 162، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1992م. ص41.

[3]. يتحدث كون عن “النماذج الإرشادية الميتافيزيقية” أو “الجوانب الميتافيزيقية في النماذج الإرشادية” ويعني بها: “الالتزام الجمعي أو المشترك بمعتقدات معينة” ينظر: بنية الثورات العلمية، ص255. والحق إن علاقة العلم بالاعتقاد من الموضوعات التي أدركتها البحوث المشتغلة بالإبستمولوجيا وتاريخ العلوم المعاصرة؛ إذ لا توجد مفاهيم علمية -مهما بلغت من الدقة والنـزاهة- عارية من كل اعتقاد. نص على ذلك غير واحد من الإبستمولوجيين ومؤرخي العلوم المعاصرين أمثال: كواين Quine وأوليان Ullian وهمبلC. G. Hempel   وباشلار G. Bachelard ومركوليس Margolis وهنتيكا J. Hintikka وغيرهم. ينظر في ذلك الفقرة الجيدة العرض والتركيز للعلاقة بين المعرفة العلمية والاعتقاد في: بناصر البعزاتي، الاستدلال والبناء: بحث في خصائص العقلية العلمية، الرباط: دار الأمان، والبيضاء: المركز الثقافي العربي، 1999، ص279-280، وينظر أيضا نموذجا تطبيقيا لهذه العلاقة بين الرياضيات والاعتقاد في التراث العلمي الإسلامي لـ إدريس نغش الجابري، ضمن: دراسات في فلسفة العلوم الإسلامية وتاريخها، آنفو برانت، فاس، ط 1، 2009، ص119-163.

[4]. يعتقد ديكارت أن الله بعد خلقه الأشياء ضمن استمرارها في الوجود. فالخلق المستمر هو الفعل الذي يحفظ به الله العالم في وجوده وحركته، فالله يواصل أمره بأن يكون العالم موجودا ومتحركا. ينظر: أندري لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، تعريب خليل أحمد خليل وإشراف أحمد عويدات، منشورات عويدات، باريس/بيروت، ط 2، 2001. ج1، ص235-236.

[5]. في عصر نيوتن كان هناك تفسيران لطبيعة الضوء: (الأولى) أنه ذو طبيعة متصلة، فهو عبارة عن موجات، وهذه نظرية العالم الهولندي هويغنـز، و(الثانية) أنه ذو طبيعة منفصلة، فهو عبارة عن حبات تنتقل في الفراغ أو المكان المطلق، وهذه نظرية نيوتن. ورأى نيوتن أن الاعتقاد بالطبيعة الموجية للضوء يشترط الاعتقاد بوجود وسط تنتقل عبره الموجات الضوئية، وهذا الوسط هو الأثير. والأثير مفهوم غامض، غير أن مفهوم الفراغ أو المكان المطلق عند نيوتن لا يقل عنه غموضا. وكلها مفاهيم تنتمي إلى مجال الاعتقاد الميتافيزيقي الضمني الذي يتغلغل في العلم.

[6]. بنية الثورات العلمية، ص41.

[7]. وقد خصص موران لهذا العلم الفصل الرابع من كتابه:

«La Méthode 4 – Les idées, leur habitat, leur vie, leur mœurs, leur organisation», Edition du Seuil, Paris – 1991.

[8]. وذلك في كتابهما:

The Diffusion of Technical Innovations and Changes of Techno-Economic Paradigm, University of Sussex, 1986

[9]. ينظر جويل باركر في:

 Paradigms: The Business of Discovering the Future

[10]. ينظر: إدريس نغش الجابري،  دراسات في تاريخ العلوم الإسلامية وتاريخها، ص22-47.

[11]. ينظر في ذلك بحث الدكتور محمد باسل الطائي: دقيق الكلام: الرؤية الإسلامية لفلسفة الطبيعة، عالم الكتب الحديث، إربد، الأردن، 2010م.

[12]. دوهيم، بيير، مصادر الفلسفة الإسلامية، ترجمة أبو يعرب المرزوقي، دمشق: دار الفكر، 2005، ص18.

[13]. في الحقيقة كما نحتاج اليوم إلى دراسات متخصصة تفسر لنا دور الدولة في البحث العلمي عند المسلمين، فإننا نحتاج كذلك إلى دراسات متخصصة تفسر لنا دور الوقف في تطور المؤسسة العلمية لديهم.

[14] آداب الشافعي ومناقبه: ص321.

[15] ابن سحنون، محمد بن سعيد، كتاب آداب المعلمين، تقديم وتحقيق مقارن محمود عبد المولى، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1969.

[16] ينظر: ابن الهيثم، الحسن بن الحسن، الشكوك على بطليموس، تحقيق عبد الحميد صبرة ونبيل الشهابي، دار الكتب المصرية، القاهرة، ص4، 63 مثلا، و الرازي، أبو بكر محمد بن زكريا، الشكوك على جالينوس، تحقيق وتقديم مهدي محقق، طهران، 1993م، ص1 وما يليها.

[17] أبو الريحان البيروني، كتاب الآثار الباقية، تحقيق أدوارد سخاو. الطبعة الأولى. ليبزج عام 1878م ص 4

[18]. المرجع نفسه، ص66.

[19]. أبو بكر الرازي، كتاب الشكوك على جالينوس، ص2-3.

[20]. ابن البيطار (أبو محمد عبد الله بن أحمد)،  الجامع لمفردات الأدوية والأغذية، بيروت: دار صادر، 1980، المجلد 1، المقدمة.

[21]. المرجع نفسه.

[22]. حمو النقاري،  في المفهوم من التقليد والتجديد، ضمن: التقليد والتجديد في الفكر العلمي، الرباط: منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، سلسلة الندوات والمحاضرات، رقم 106، ط1، 2003، ص17-18.

[23]. ينظر هذه المعاني لمادة (قلد) في: ابن منظور الإفريقي،  لسان العرب، بيروت: دار صادر، د. ت، ومعجم مقاييس اللغة، ابن فارس، أبي الحسين أحمد، تحقيق وضبط عبد السلام هارون، دار الفكر، د. ت. وغيرهما.

[24]. إدريس نغش الجابري، دراسات في فلسفة العلوم الإسلامية وتاريخها، ص 172، وأيضا: حمو النقاري، في المفهوم من التقليد والتجديد، ص17-29.

[25]. ومن لطيف الملاحظات المصطلحية أن مفهوم التغيير -بعكس ما هو شائع- لم يرد في القرآن الكريم إلا بمعنى التحول من الصالح إلى الفاسد ومن النعمة إلى النقمة، وهذه هي موارد لفظ التغيير في القرآن الكريم: ﴿وءلامرنّهم فليغيرن خلق الله﴾ (النساء: 118)، ﴿ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة اَنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾ (الانفال:  54)، وبنفس المعنى في آية: ﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له،  وما لهم من دونه من وَّال﴾ (الرعد: 12)، ﴿فيها أنهار من ماء غير ءاسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه﴾ (محمد: 16).

[26]. انظر: لسان العرب، لابن منظور، ومعجم مقاييس اللغة، لابن فارس.

[27]. وبهذا المعنى ورد اللفظ في حديث تجديد الدين الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق