مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراثشذور

الانقطاع عن طلب الكسب والعلم والتجرد للعبادة

يقول الفقيه النوازلي أبو العباس أحمد بن يحيى الونشريسي (ت914هـ) في مسألة الانقطاع عن طلب الكسب والعلم والتجرد للعبادة:

وسئل أبو إسحاق التونسي عن شاب تعلقت نفسه بطلب العبادة وخلطة الصالحين، وقلة خلطة أهل الأسواق، لما يرى فيها من الفساد في بياعاتهم ومعاملاتهم، وقلة معاملة من فيه الديانة، فيما يأخذون ويتبايعون، وما يلفظون به، حتى إنهم من كثرة إهمالهم لما يحلُّ ويحرم، ما يعرفون شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يجاهر بمعاملة الغصاب، ولا يفرق بينهم وبين غيرهم، ومنهم من لا يبالي بفساد بيع، يدخل عليه عامداً أو جاهلاً، ولا يبالي أن يكون في بيعه غش ولا خديعة ولا غدر، أو رِبىً يدخل عليه، فتعلقت نفس هذا الطالب بالعبادة والانفراد من الناس، والتماس قوته من صنعة يحاولها من أشد قوت في الزمان ويترك النكاح ويدرس الفقه بلا مذاكرة، إذ لا يقدر على الطلوع إليهم على الحالة التي هم عليها، وليس ببلده من ينحوا له الفتيا، فقيل له: إن طلب العلم على أنك تدخل في الأسواق، وتأكل مما في أيدي الناس من موضع لا تعرفه، وتخالطهم، أفضل من العبادة والزهد في الدنيا، ومن الطريق التي تريد أن تسلك قال: وهذا الشاب يحفظ من القرآن النصف، وهو متماد على استكماله إن شاء الله، ويحفظ من العلم الشرائع التي أمر بحفظها، فنحب من الشيخ حفظه الله أن ينظر في أي الوجهين أفضل فيعمل على ذلك إن شاء الله؟ فإن أمرته بطلب العلم فهو يقدر على الطلوع إلى عندكم، ولا يقدر على ذلك مع العبادة.

فأجاب: الأسلم في وقتنا الاشتغال بالعبادة والنظر في حال مأكله، وقلة مخالطة الناس، فإن الزمان فسد، ولا يأمن على نفسه الفتنة في مخالطتهم، ولو كانوا أهل علم وعبادة، إلا من سلك من العباد طريق الانقطاع، وقلة الخوض والورع، فتكون محبته تزهِّد في الدنيا، وتقوي الضعيف على العمل، فمثل هذا يُصحب ليقتدى به، ويحض من صحبه على القوة في العمل، فإذا وجد الإنسان من نفسه ضعفاً مشى إليه، فكانت رؤيته إياه تزيده قوة على العمل وتذكره الآخرة. فهذا الطريق عندي في هذا الوقت أسلم ولعل سالكها أن ينجو إلا أن يكون هذا الفتى ذا فهم طائل، واقتدار على الدرس. وممن يرجى لهذا الأمر وينتفع به المسلمون إذا درس، ويأمن على نفسه من الفتنة، أو يغلب على ظنه ذلك، فلا درجة أفضل من طلب العلم لمن صحت فيه نيته، ويكون أكله مما يبيحه العلم وأن يوسع فيه بأمر لا حرج فيه، فالعلم أفضل من العبادة من غير أن يدخل عليه حرام في معيشته، أو محظور، فإن ترك الحرام فريضة وطلب العلم فريضة فلا يرتكب أحد حراماً بفضيلة يطلبها هذا الذي حضرني فيما سألت عنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

المصدر:

المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب(11: 298–299)، تأليف أبي العباس أحمد بن يحيى الونشريسي (ت914هـ)، منشورات وزارة الأوقاف والشؤن الإسلامية بالمغرب (1401هـ/1981م).

إعداد: ذ.محمد فوزار

Science

الدكتور محمد فوزار

باحث مؤهل بمركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث بالرابطة المحمدية للعلماء الرباط

منسق مصلحة الطبع والنشر وتنظيم المعارض بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق