مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةمفاهيم

الاستدلال بالشاهد على الغائب عند الأشاعرة

 

تقديم:
اعتمد المتكلمون، ومن بينهم الأشاعرة مسلكا رئيسيا في الاستدلال؛ هو الاستدلال بقياس الغائب على الشاهد، فما هو مفهومه عندهم؟
المقصود بالشاهد في علم الكلام؛ أنه هو المعلوم بالحس أو باضطرار، وإن لم يكن محسوسا.
والمقصود بالغائب؛ أنه هو ما غاب عن الحس، ولم يكن في شيء من الحواس.
والاستدلال بالشاهد على الغائب في اللغة يُقصد به – كما ورد في أغلب الدراسات حوله- أنه استدلال بما يشاهده الحس على ما لا يشاهده؛ أي أن الشاهد يدل لغة على الحاضر أمام الحس والعين، وأن الغائب هو مقابل للشاهد؛ يدل على اللامحسوس واللامعاين.
مفهومه عند الأشاعرة:
يقول د.حمو النقاري: (نجد عند الأصوليين من النظار المسلمين تناولا للاستدلال بالشاهد على الغائب متميزا ومخالفا للتناول الفلسفي له. ولقد رأينا أن يكون شاهدنا في هذا التميز والاختلاف أقوال الشيخ أبي الحسن الأشعري الذي لا يكابر أحد في مكانته الكلامية ، إذ لا يمثل الأشعري شيخ الأشعرية ورأسها، ولكنه يمثل أيضا الاعتزال وقد نقح وعدل وطور، فهو كما نعلم رَبي في حضن الاعتزال وفي كنف شيخ من شيوخه.
 يكمن تميز التناول الأشعري بالاستدلال بالشاهد على الغائب ومخالفته للتناول الفلسفي في أنه كان أوثق اتصالا بمحددات المجال التداولي الإسلامي- العربي، فلم يتجاهل في نظره الاهتداء بحيثيات لغوية عربية، ولم يستبعد في اهتدائه مقتضياته العقدية الإسلامية. فجاءت بناءاته العلمية والمعرفية طامحة لأن تكون بناءات موصولة بالمقومات اللغوية والمقومات العقدية التي يختص بها المجال التداولي الإسلامي العربي في لحظته)[1].
وهذه جملة من أقوال أبي الحسن الأشعري كما جمعها ابن فورك في مقالاته: 
1- (ويبني مذهبه في الاستدلال بالشاهد على الغائب، فكان يقول: معنى “الشاهد والمشاهدة” هو المعلوم بالحس أو باضطرار وإن لم يكن محسوسا. ومعنى قولنا “غائب” ما غاب عن الحس، ولم يكن في شيء من الحواس والضروريات طريق إلى العلم به)[2].
2- ومعناه كذلك كما ورد عنده بالقول: (معنى قولنا “شاهد وغائب” كمعنى قولنا “أصل وفرع” و”منظور فيه ومردود إلى المنظور فيه” و”معلوم ومشكوك فيه مطلوب علمه من المعلوم”، وكان يقول: ليس المراد بالغيبة هاهنا البعد والحجاب، إنما المراد غيبة العلم وذهاب العالم عن العلم به)[3].  
3- فتحديدات الأشعري لمفهوم الشاهد والغائب تنص على أن: (الاستدلال هو النظر والفكر من المفكر والمتأمل، وهو الاستشهاد وطلب الشهادة من الشاهد على الغائب)[4]. 
4- وورد قوله كذلك: (وكان يقول: إن ما ذكره بعض الناس من ضروب الاستدلال بالشاهد على الغائب في قوله: يجوز أن يكون الشيء موصوفا في الشاهد بصفة من الصفات لعلة من العلل، فالواجب أن يقضى بذلك على الغائب إذا استوت العلة، لأن ذلك هو طرد العلة في المعلول، وذلك كالمتحرك والعالم الذي إنما كان عالما متحركا لوجود الحركة والعلم به فواجب أن يقضى بذلك على الغائب في كل عالم ومتحرك)[5].  
5- وأضاف: (وكان يقول: إن هذا النوع من الاستدلال قد يؤكد بأن يقال: إذا كان الشيء في الشاهد موصوفا بصفة من الصفات لعلة من العلل ولم يقم دليل على موصوف بتلك الصفة في الغائب ألا يقام على وجود تلك العلة، فواجب أن يقضى على أن كل موصوف بتلك الصفة في الغائب فلأجل وجود تلك الصفة)[6].  
6- وفي موضع آخر: (وكان يقول: إنه أكد ذلك بأن يقال: كل موصوف في الشاهد بصفة من الصفات لعلة من العلل، و ما دل على العلة فهو الدال على حكمها، ولم يدل على أن الموصوف بالصفة إلا ما دل على تلك العلة فالواجب أن يقضى بذلك على الغائب)[7].     7- ثم يخلص إلى القول في التعريف بهذا الاستدلال بأن الأشعري كان يقول: (فطريقة جوابه في جميع ذلك طريقة واحدة؛ وهو أنه يقول: إنما نوجب القضاء بالشاهد على الغائب ونرد الحكم إلى الحكم إذا استوى معنياهما واتفقت علتاهما، وكان لأحدهما مثل ما لصاحبه)[8].   
7- وهذا ما ذهب إليه الجويني حين اعتبر أنه من الأدلة: (أن يجب الحكم والوصف للشيء في الشاهد لعلة ما، فيجب القضاء على أن كل من وصف بتلك الصفة في الغائب، فحكمه في أنه مستحق لها لتلك العلة حكم مستحقها في الشاهد)[9]، فهذا هو مفهومه للاستدلال بالشاهد على الغائب. وعنه يقول عضد الدين الإيجي: (الطريق الثاني..قياس الغائب على الشاهد؛ وإنما يسلكونه إذا حاولوا إثبات حكم لله سبحانه فيقيسونه على الممكنات قياسا فقهيا، ويطلقون اسم الغائب عليه تعالى لكونه غائبا عن الحواس. ولا بد في هذا القياس بل في القياس الفقهي مطلقا من إثبات علة مشتركة بين المقيس والمقيس عليه)[10].
– فالمعنى الذي نخلص إليه في تعريف الأشعري وغيره لدليل الشاهد على الغائب إذن؛ أن الشاهد في الاستدلال يقوم مقام الأصل، والغائب يسد مسد الفرع. يقول د.حمو النقاري: (الاستدلال بالشاهد على الغائب إذن لا تعلق له بميدان الكلام أو الفقه أو العلوم الدينية عامة، إن له تعلقا بكل ميدان تستثمر فيه صفات الموصوفات التي يعتقد أن انطباقها على موصوفاتها كان لعلة من العلل؛ فالاستدلال بالشاهد على الغائب عام وشامل شريطة انضباطه بقانون عام صاغه الأشعري بعبارة دقيقة ومحكمة لا حمولة عقدية فيها)[11]، وهو ما تضمنه النص الذي أوردناه سابقا والذي قرن فيه أنه متى وجدت صفة في شاهد ما  توجب أن يقضى بها  في الغائب لأجل وجود تلك الصفة [12].
وعن تجلياته واستمراريته في العلوم الاستدلالية الحديثة يقول د.حمو النقاري: (يعد اليوم الاستدلال التمثيلي الذي يندرج فيه الاستدلال بالشاهد على الغائب عاما لكل المجالات التي ينشط فيه النظر الإنساني الطبيعي فعلا وتفاعلا، تعقلا وتعاقلا، بل إن البعض اليوم لم يعد يعرّف الإنسان بأنه الحيوان العاقل أو الناطق بل يعرفه بأنه الحيوان المدرك للتماثلات بين الأشياء أو المماثل للأشياء بعضها ببعض، المتمثل بهذه المماثلة المدركة أو المفترضة والموضوعة. وما الاستدلال بالشاهد على الغائب إلا تمثل بالمماثلة الموجودة أو الموضوعة بين الشاهد والغائب)[13].
وعلى الرغم من اعتداد الأشاعرة وغيرهم من الفرق الكلامية بهذا الاستدلال، إلا أنه لم يخل من انتقادات من طرف بعضهم، ويمكن رصد انتقادين واضحين لعَلَمين من أعلام الغرب الإسلامي وهما ابن حزم الظاهري وابن رشد المالكي.
نقد ابن حزم لقياس الشاهد على الغائب:
انتقد ابن حزم استدلال المتكلمين بقياس الغائب على الشاهد في كتابه “التقريب لحد المنطق”، فقال: (فمن ذلك شيء سماه الأوائل؛ الاستقراء، وسماه أهل ملتنا القياس..و .. أن قوما.. غلطوا.. فسموا فعلهم في هذا الباب..الاستدلال بالشاهد على الغائب..)[14].
ويرده بقوله: (فليس وجودنا أشياء كثيرة مشتركة في بعض صفاتها اشتراكا صحيحا، ثم وجودنا بعض تلك الأشياء ينفرد بحكم ما، نتيقنه فيها، بموجب أن نحكم على سائر تلك الأشياء باستوائها في هذا الحكم الثاني من قبل استوائها في الحكم الأول. هذه دعوى سمجة وتحكم فاحش)[15]. 
ويتضح من هذا النص – كما يقول د. أحمد علمي حمدان- : (أن المقصود بالنقد هو قياس الغائب على الشاهد فيما هو إجراء العلة في المعلول، أي الصنف الثاني من أصناف الجمع بين الشاهد والغائب، وما يمكن أن يلحق به من جمع بما يجري مجرى العلة. أما الصنف الأول وهو الجمع بالأدلة والذي لا يحصل فيه للغائب وصف بالرد للشاهد بل يحصل بنفس الدلالة التي يحصل بها للشاهد فلا يعرض له ابن حزم..)[16].
لكن ورغم هذا الا نتقاد يخلص د. أحمد حمدان إلى أن الأمر في النهاية ليس على عمومه فإن بعض أوجه القياس لا يخلو الأمر فيها من الاستدلال بالشاهد على الغائب كما استقرأها من استدلالات ابن حزم من كتبه في مجموعة من المسائل. 
نقد ابن رشد لقياس الشاهد على الغائب:
وانتقد هذا الاستدلال (بالشاهد على الغائب) كذلك ابن رشد وحكم عليه باللامعقول، وذلك في كتابه “الكشف عن مناهج الأدلة”، وخاصة عند حديثه عن الفرق الأربع التي انتقدها ومنها (الأشعرية) وبيانه مواطن الضعف في الاختيارات التي ارتضوها ومكامن الوهن في الدلائل التي استدلوا بها، وخاصة عندما يستعمل للاستدلال والمماثلة بين العالم الإلهي والعالم الإنساني فقال في “فِصله”: (وأما الطريق التي سلك بالجمهور في تصور هذا المعنى (يقصد الخلق) فهو التمثيل بالشاهد وإن كان ليس له مثال في الشاهد. فأخبر تعالى أن العالم وقع خلقه إياه في زمان، وأنه خلقه من شيء، إذ كان لا يعرف في الشاهد مكون إلا بهذه الصفة.. فالشرع أعطى التمثيل في خلق العالم وميّز بين الحدوث في الغائب والحدوث في الشاهد، مستعيضا عن لفظة الحدوث بلفظتي الخلق والفطور. ومن العجب الذي في هذا المعنى أن التمثيل الذي جاء في الشرع في خلق العالم يطابق معنى الحدوث الذي في الشاهد، ولكن الشرع لم يصرح فيه بهذا اللفظ، وذلك تنبيه منه للعلماء على أن حدوث العالم ليس هو مثل الحدوث الذي في الشاهد، وإنما أطلق عليه لفظ الخلق ولفظ الفطور، وهذه الألفاظ تصلح لتصور المعنيين، أعني لتصور الحدوث الذي في الشاهد، وتصور الحدوث الذي أدى إليه البرهان عند العلماء في الغائب)[17]. 
ويقول في “تهافت التهافت”: (فكيف يصح أن ينتقل الحكم من الشاهد إلى الغائب؟ وهما في غاية المضادة؟ وإذا فهم معنى الصفات الموجودة في الشاهد وفي الغائب، ظهر أنهما باشتراك الاسم اشتراكا لا يصح معه النقلة من الشاهد إلى الغائب)[18]، وقال في الكشف: (فتؤول أدلتهم على حدوث جميع الأعراض إلى قياس الشاهد على الغائب؛ وهو دليل خطابي إلا حيث النقلة معقولة بنفسها. وذلك عند التيقن باستواء طبيعة الشاهد والغائب)[19].
 وقد علق د.امحمد آيت حمو على هذا النقد بعدما عرض أوجه انتقاد ابن رشد لقياس الشاهد على الغائب عند الأشاعرة، لكن ابن رشد هو الآخر لم يسلم من بعض آلياته، يقول معلقا: (ولو سرنا نتتبع استناد ابن رشد إلى قياس الغائب على الشاهد في أدلته لأطلنا أنفاسنا، ولذلك لا نذكر منها سوى عينات على قدر مسيس الحاجة إليها، نروم باختيارنا لها قطع تشغيبات لابن رشد الذي عظم نكيره على قياس التمثيل لدى المتكلمين، بالرغم من لجوئه، طوعا أو كرها، إلى نفس هذا الاستدلال القياسي الذي يخفي على غير الخبير معدنه الذي هو نفسه عند المتكلمين..)[20].
ويخلص د.آيت حمو إلى القول: (إن علاقة الاستدلال بالشاهد على الغائب ليست حكرا على حقل علم الكلام، ولا وقفا على مجال الفقه، ولا قصرا على العلوم الدينية، لأن الاستدلال بالشاهد على الغائب يتصف بالعمومية والشمولية. ولعل البحث في تاريخ الإنتاج النظري في الإسلام، يكشف لنا عن رواج مفهوم قياس الغائب على الشاهد في سوق الكلام واشتداد الطلب عليه. بل إنه يمكن القول أبعد من ذلك بأن هذا القياس يشكل الأساس المنهجي لعلم الكلام..)[21].
وختاما فإن الاستدلال بالشاهد على الغائب قد راج عند الفلاسفة والمتكلمين بمختلف فرقهم، نظرا لتجذر قياس التمثيل هذا في بنية اللغة الطبيعية، مما يجعله حاضرا بالضرورة ومتداولا ليس بين المتكلمين فحسب، بل أيضا بين الفلاسفة – كما يذكر ذلك د. عبد المجيد الصغير في كتاباته، حيث يعتبره: (وإن كان شرا، فهو شر لا بد منه، ما دام الإنسان لا يملك سوى ذلك الاستدلال القياسي سبيلا للمعرفة)[22]. 
الهوامش: 
[1] المنطق في الثقافة الإسلامية- حمو النقاري- دار الكتاب الجديد المتحدة/ لبنان- الطبعة الأولى/2013- ص:85
[2] مجرد مقالات الإمام أبى الحسن الأشعري – الشيخ أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك- نشر دار الشروق- دانيال جيمارية-ص:10
[3] نفسه- ص:302
[4] نفسه- ص:286
[5] نفسه- ص:304
[6] نفسه- ص:305
[7] نفسه- ص: 305
[8] نفسه- ص:306
[9] –الشامل في أصول الدين للجويني- حققه وقدم له: سامي النشار- منشأة المعارف/الإسكندرية/1966- ص:292 وما بعدها
[10] . كتاب المواقف-لعضد الدين الإيجي- تحقيق : د.عبد الرحمن عميرة-الناشر : دار الجيل /بيروت-(المرصد السادس: في الطريق). 
[11] المنطق في الثقافة الإسلامية- حمو النقاري-ص:91
[12] مجرد مقالات الإمام أبى الحسن الأشعري- ص:305
[13] المنطق في الثقافة الإسلامية- حمو النقاري-ص:95
[14] رسائل ابن حزم-إحسان عباس-ص:296
[15] نفسه- ص: 299
[16] مقال: “قياس الغائب على الشاهد”-د.أحمد علمي حمدان- أعمال ندوة:”آليات الاستدلال في الفكر الإسلامي الوسيط” منشورات مركز الدراسات والبحوث الإنسانية/وجدة-ص: 173
[17] فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال-تحقيق محمد عمارة-المؤسسة العربية للدراسات والنشر-الطبعة الثالثة/1986-ص:56
[18] تهافت التهافت لابن رشد-تحقيق سليمان دنيا-ر دار المعارف/مصر-ص:645
[19] الكشف عن مناهج الأدلة لابن رشد-تحقيق مصطفى حنفي- مركز دراسات الوحدة العربية/بيروت -الطبعة الأولى /1998-ص:34
[20] مقال:”استخدام ابن رشد لقياس الغائب على الشاهد”-د.امحمد آيت حمو- أعمال ندوة:”آليات الاستدلال في الفكر الإسلامي الوسيط” منشورات مركز الدراسات والبحوث الإنسانية/وجدة- ص:426
[21] نفسه.
[22] مقال: “المصطلح الكلامي في الإسلام بين المصدر الاشتقاقي والتداول الاصطلاحي”- منشور ضمن أعمال ندوة “المصطلح في الفلسفة والعلوم الإنسانية-منشورات كلية آداب الرباط-رقم:42/1995-ص: 15
إعداد الباحث: منتصر الخطيب

تقديم:

اعتمد المتكلمون، ومن بينهم الأشاعرة مسلكا رئيسيا في الاستدلال؛ هو الاستدلال بقياس الغائب على الشاهد، فما هو مفهومه عندهم؟

المقصود بالشاهد في علم الكلام؛ أنه هو المعلوم بالحس أو باضطرار، وإن لم يكن محسوسا.

والمقصود بالغائب؛ أنه هو ما غاب عن الحس، ولم يكن في شيء من الحواس.

والاستدلال بالشاهد على الغائب في اللغة يُقصد به – كما ورد في أغلب الدراسات حوله- أنه استدلال بما يشاهده الحس على ما لا يشاهده؛ أي أن الشاهد يدل لغة على الحاضر أمام الحس والعين، وأن الغائب هو مقابل للشاهد؛ يدل على اللامحسوس واللامعاين.

مفهومه عند الأشاعرة:

يقول د.حمو النقاري: (نجد عند الأصوليين من النظار المسلمين تناولا للاستدلال بالشاهد على الغائب متميزا ومخالفا للتناول الفلسفي له. ولقد رأينا أن يكون شاهدنا في هذا التميز والاختلاف أقوال الشيخ أبي الحسن الأشعري الذي لا يكابر أحد في مكانته الكلامية ، إذ لا يمثل الأشعري شيخ الأشعرية ورأسها، ولكنه يمثل أيضا الاعتزال وقد نقح وعدل وطور، فهو كما نعلم رَبي في حضن الاعتزال وفي كنف شيخ من شيوخه.

 يكمن تميز التناول الأشعري بالاستدلال بالشاهد على الغائب ومخالفته للتناول الفلسفي في أنه كان أوثق اتصالا بمحددات المجال التداولي الإسلامي- العربي، فلم يتجاهل في نظره الاهتداء بحيثيات لغوية عربية، ولم يستبعد في اهتدائه مقتضياته العقدية الإسلامية. فجاءت بناءاته العلمية والمعرفية طامحة لأن تكون بناءات موصولة بالمقومات اللغوية والمقومات العقدية التي يختص بها المجال التداولي الإسلامي العربي في لحظته)[1].

وهذه جملة من أقوال أبي الحسن الأشعري كما جمعها ابن فورك في مقالاته: 

1- (ويبني مذهبه في الاستدلال بالشاهد على الغائب، فكان يقول: معنى “الشاهد والمشاهدة” هو المعلوم بالحس أو باضطرار وإن لم يكن محسوسا. ومعنى قولنا “غائب” ما غاب عن الحس، ولم يكن في شيء من الحواس والضروريات طريق إلى العلم به)[2].

2- ومعناه كذلك كما ورد عنده بالقول: (معنى قولنا “شاهد وغائب” كمعنى قولنا “أصل وفرع” و”منظور فيه ومردود إلى المنظور فيه” و”معلوم ومشكوك فيه مطلوب علمه من المعلوم”، وكان يقول: ليس المراد بالغيبة هاهنا البعد والحجاب، إنما المراد غيبة العلم وذهاب العالم عن العلم به)[3].  

3- فتحديدات الأشعري لمفهوم الشاهد والغائب تنص على أن: (الاستدلال هو النظر والفكر من المفكر والمتأمل، وهو الاستشهاد وطلب الشهادة من الشاهد على الغائب)[4]. 

4- وورد قوله كذلك: (وكان يقول: إن ما ذكره بعض الناس من ضروب الاستدلال بالشاهد على الغائب في قوله: يجوز أن يكون الشيء موصوفا في الشاهد بصفة من الصفات لعلة من العلل، فالواجب أن يقضى بذلك على الغائب إذا استوت العلة، لأن ذلك هو طرد العلة في المعلول، وذلك كالمتحرك والعالم الذي إنما كان عالما متحركا لوجود الحركة والعلم به فواجب أن يقضى بذلك على الغائب في كل عالم ومتحرك)[5].  

5- وأضاف: (وكان يقول: إن هذا النوع من الاستدلال قد يؤكد بأن يقال: إذا كان الشيء في الشاهد موصوفا بصفة من الصفات لعلة من العلل ولم يقم دليل على موصوف بتلك الصفة في الغائب ألا يقام على وجود تلك العلة، فواجب أن يقضى على أن كل موصوف بتلك الصفة في الغائب فلأجل وجود تلك الصفة)[6].  

6- وفي موضع آخر: (وكان يقول: إنه أكد ذلك بأن يقال: كل موصوف في الشاهد بصفة من الصفات لعلة من العلل، و ما دل على العلة فهو الدال على حكمها، ولم يدل على أن الموصوف بالصفة إلا ما دل على تلك العلة فالواجب أن يقضى بذلك على الغائب)[7].     7- ثم يخلص إلى القول في التعريف بهذا الاستدلال بأن الأشعري كان يقول: (فطريقة جوابه في جميع ذلك طريقة واحدة؛ وهو أنه يقول: إنما نوجب القضاء بالشاهد على الغائب ونرد الحكم إلى الحكم إذا استوى معنياهما واتفقت علتاهما، وكان لأحدهما مثل ما لصاحبه)[8].   

7- وهذا ما ذهب إليه الجويني حين اعتبر أنه من الأدلة: (أن يجب الحكم والوصف للشيء في الشاهد لعلة ما، فيجب القضاء على أن كل من وصف بتلك الصفة في الغائب، فحكمه في أنه مستحق لها لتلك العلة حكم مستحقها في الشاهد)[9]، فهذا هو مفهومه للاستدلال بالشاهد على الغائب. وعنه يقول عضد الدين الإيجي: (الطريق الثاني..قياس الغائب على الشاهد؛ وإنما يسلكونه إذا حاولوا إثبات حكم لله سبحانه فيقيسونه على الممكنات قياسا فقهيا، ويطلقون اسم الغائب عليه تعالى لكونه غائبا عن الحواس. ولا بد في هذا القياس بل في القياس الفقهي مطلقا من إثبات علة مشتركة بين المقيس والمقيس عليه)[10].

– فالمعنى الذي نخلص إليه في تعريف الأشعري وغيره لدليل الشاهد على الغائب إذن؛ أن الشاهد في الاستدلال يقوم مقام الأصل، والغائب يسد مسد الفرع. يقول د.حمو النقاري: (الاستدلال بالشاهد على الغائب إذن لا تعلق له بميدان الكلام أو الفقه أو العلوم الدينية عامة، إن له تعلقا بكل ميدان تستثمر فيه صفات الموصوفات التي يعتقد أن انطباقها على موصوفاتها كان لعلة من العلل؛ فالاستدلال بالشاهد على الغائب عام وشامل شريطة انضباطه بقانون عام صاغه الأشعري بعبارة دقيقة ومحكمة لا حمولة عقدية فيها)[11]، وهو ما تضمنه النص الذي أوردناه سابقا والذي قرن فيه أنه متى وجدت صفة في شاهد ما  توجب أن يقضى بها  في الغائب لأجل وجود تلك الصفة [12].

وعن تجلياته واستمراريته في العلوم الاستدلالية الحديثة يقول د.حمو النقاري: (يعد اليوم الاستدلال التمثيلي الذي يندرج فيه الاستدلال بالشاهد على الغائب عاما لكل المجالات التي ينشط فيه النظر الإنساني الطبيعي فعلا وتفاعلا، تعقلا وتعاقلا، بل إن البعض اليوم لم يعد يعرّف الإنسان بأنه الحيوان العاقل أو الناطق بل يعرفه بأنه الحيوان المدرك للتماثلات بين الأشياء أو المماثل للأشياء بعضها ببعض، المتمثل بهذه المماثلة المدركة أو المفترضة والموضوعة. وما الاستدلال بالشاهد على الغائب إلا تمثل بالمماثلة الموجودة أو الموضوعة بين الشاهد والغائب)[13].

وعلى الرغم من اعتداد الأشاعرة وغيرهم من الفرق الكلامية بهذا الاستدلال، إلا أنه لم يخل من انتقادات من طرف بعضهم، ويمكن رصد انتقادين واضحين لعَلَمين من أعلام الغرب الإسلامي وهما ابن حزم الظاهري وابن رشد المالكي.

نقد ابن حزم لقياس الشاهد على الغائب:

انتقد ابن حزم استدلال المتكلمين بقياس الغائب على الشاهد في كتابه “التقريب لحد المنطق”، فقال: (فمن ذلك شيء سماه الأوائل؛ الاستقراء، وسماه أهل ملتنا القياس..و .. أن قوما.. غلطوا.. فسموا فعلهم في هذا الباب..الاستدلال بالشاهد على الغائب..)[14].

ويرده بقوله: (فليس وجودنا أشياء كثيرة مشتركة في بعض صفاتها اشتراكا صحيحا، ثم وجودنا بعض تلك الأشياء ينفرد بحكم ما، نتيقنه فيها، بموجب أن نحكم على سائر تلك الأشياء باستوائها في هذا الحكم الثاني من قبل استوائها في الحكم الأول. هذه دعوى سمجة وتحكم فاحش)[15]. 

ويتضح من هذا النص – كما يقول د. أحمد علمي حمدان- : (أن المقصود بالنقد هو قياس الغائب على الشاهد فيما هو إجراء العلة في المعلول، أي الصنف الثاني من أصناف الجمع بين الشاهد والغائب، وما يمكن أن يلحق به من جمع بما يجري مجرى العلة. أما الصنف الأول وهو الجمع بالأدلة والذي لا يحصل فيه للغائب وصف بالرد للشاهد بل يحصل بنفس الدلالة التي يحصل بها للشاهد فلا يعرض له ابن حزم..)[16].

لكن ورغم هذا الا نتقاد يخلص د. أحمد حمدان إلى أن الأمر في النهاية ليس على عمومه فإن بعض أوجه القياس لا يخلو الأمر فيها من الاستدلال بالشاهد على الغائب كما استقرأها من استدلالات ابن حزم من كتبه في مجموعة من المسائل. 

نقد ابن رشد لقياس الشاهد على الغائب:

وانتقد هذا الاستدلال (بالشاهد على الغائب) كذلك ابن رشد وحكم عليه باللامعقول، وذلك في كتابه “الكشف عن مناهج الأدلة”، وخاصة عند حديثه عن الفرق الأربع التي انتقدها ومنها (الأشعرية) وبيانه مواطن الضعف في الاختيارات التي ارتضوها ومكامن الوهن في الدلائل التي استدلوا بها، وخاصة عندما يستعمل للاستدلال والمماثلة بين العالم الإلهي والعالم الإنساني فقال في “فِصله”: (وأما الطريق التي سلك بالجمهور في تصور هذا المعنى (يقصد الخلق) فهو التمثيل بالشاهد وإن كان ليس له مثال في الشاهد. فأخبر تعالى أن العالم وقع خلقه إياه في زمان، وأنه خلقه من شيء، إذ كان لا يعرف في الشاهد مكون إلا بهذه الصفة.. فالشرع أعطى التمثيل في خلق العالم وميّز بين الحدوث في الغائب والحدوث في الشاهد، مستعيضا عن لفظة الحدوث بلفظتي الخلق والفطور. ومن العجب الذي في هذا المعنى أن التمثيل الذي جاء في الشرع في خلق العالم يطابق معنى الحدوث الذي في الشاهد، ولكن الشرع لم يصرح فيه بهذا اللفظ، وذلك تنبيه منه للعلماء على أن حدوث العالم ليس هو مثل الحدوث الذي في الشاهد، وإنما أطلق عليه لفظ الخلق ولفظ الفطور، وهذه الألفاظ تصلح لتصور المعنيين، أعني لتصور الحدوث الذي في الشاهد، وتصور الحدوث الذي أدى إليه البرهان عند العلماء في الغائب)[17]. 

ويقول في “تهافت التهافت”: (فكيف يصح أن ينتقل الحكم من الشاهد إلى الغائب؟ وهما في غاية المضادة؟ وإذا فهم معنى الصفات الموجودة في الشاهد وفي الغائب، ظهر أنهما باشتراك الاسم اشتراكا لا يصح معه النقلة من الشاهد إلى الغائب)[18]، وقال في الكشف: (فتؤول أدلتهم على حدوث جميع الأعراض إلى قياس الشاهد على الغائب؛ وهو دليل خطابي إلا حيث النقلة معقولة بنفسها. وذلك عند التيقن باستواء طبيعة الشاهد والغائب)[19].

 وقد علق د.امحمد آيت حمو على هذا النقد بعدما عرض أوجه انتقاد ابن رشد لقياس الشاهد على الغائب عند الأشاعرة، لكن ابن رشد هو الآخر لم يسلم من بعض آلياته، يقول معلقا: (ولو سرنا نتتبع استناد ابن رشد إلى قياس الغائب على الشاهد في أدلته لأطلنا أنفاسنا، ولذلك لا نذكر منها سوى عينات على قدر مسيس الحاجة إليها، نروم باختيارنا لها قطع تشغيبات لابن رشد الذي عظم نكيره على قياس التمثيل لدى المتكلمين، بالرغم من لجوئه، طوعا أو كرها، إلى نفس هذا الاستدلال القياسي الذي يخفي على غير الخبير معدنه الذي هو نفسه عند المتكلمين..)[20].

ويخلص د.آيت حمو إلى القول: (إن علاقة الاستدلال بالشاهد على الغائب ليست حكرا على حقل علم الكلام، ولا وقفا على مجال الفقه، ولا قصرا على العلوم الدينية، لأن الاستدلال بالشاهد على الغائب يتصف بالعمومية والشمولية. ولعل البحث في تاريخ الإنتاج النظري في الإسلام، يكشف لنا عن رواج مفهوم قياس الغائب على الشاهد في سوق الكلام واشتداد الطلب عليه. بل إنه يمكن القول أبعد من ذلك بأن هذا القياس يشكل الأساس المنهجي لعلم الكلام..)[21].

وختاما فإن الاستدلال بالشاهد على الغائب قد راج عند الفلاسفة والمتكلمين بمختلف فرقهم، نظرا لتجذر قياس التمثيل هذا في بنية اللغة الطبيعية، مما يجعله حاضرا بالضرورة ومتداولا ليس بين المتكلمين فحسب، بل أيضا بين الفلاسفة – كما يذكر ذلك د. عبد المجيد الصغير في كتاباته، حيث يعتبره: (وإن كان شرا، فهو شر لا بد منه، ما دام الإنسان لا يملك سوى ذلك الاستدلال القياسي سبيلا للمعرفة)[22]. 

 

 

الهوامش: 

[1] المنطق في الثقافة الإسلامية- حمو النقاري- دار الكتاب الجديد المتحدة/ لبنان- الطبعة الأولى/2013- ص:85

[2] مجرد مقالات الإمام أبى الحسن الأشعري – الشيخ أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك- نشر دار الشروق- دانيال جيمارية-ص:10

[3] نفسه- ص:302

[4] نفسه- ص:286

[5] نفسه- ص:304

[6] نفسه- ص:305

[7] نفسه- ص: 305

[8] نفسه- ص:306

[9] –الشامل في أصول الدين للجويني- حققه وقدم له: سامي النشار- منشأة المعارف/الإسكندرية/1966- ص:292 وما بعدها

[10] . كتاب المواقف-لعضد الدين الإيجي- تحقيق : د.عبد الرحمن عميرة-الناشر : دار الجيل /بيروت-(المرصد السادس: في الطريق). 

[11] المنطق في الثقافة الإسلامية- حمو النقاري-ص:91

[12] مجرد مقالات الإمام أبى الحسن الأشعري- ص:305

[13] المنطق في الثقافة الإسلامية- حمو النقاري-ص:95

[14] رسائل ابن حزم-إحسان عباس-ص:296

[15] نفسه- ص: 299

[16] مقال: “قياس الغائب على الشاهد”-د.أحمد علمي حمدان- أعمال ندوة:”آليات الاستدلال في الفكر الإسلامي الوسيط” منشورات مركز الدراسات والبحوث الإنسانية/وجدة-ص: 173

[17] فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال-تحقيق محمد عمارة-المؤسسة العربية للدراسات والنشر-الطبعة الثالثة/1986-ص:56

[18] تهافت التهافت لابن رشد-تحقيق سليمان دنيا-ر دار المعارف/مصر-ص:645

[19] الكشف عن مناهج الأدلة لابن رشد-تحقيق مصطفى حنفي- مركز دراسات الوحدة العربية/بيروت -الطبعة الأولى /1998-ص:34

[20] مقال:”استخدام ابن رشد لقياس الغائب على الشاهد”-د.امحمد آيت حمو- أعمال ندوة:”آليات الاستدلال في الفكر الإسلامي الوسيط” منشورات مركز الدراسات والبحوث الإنسانية/وجدة- ص:426

[21] نفسه.

[22] مقال: “المصطلح الكلامي في الإسلام بين المصدر الاشتقاقي والتداول الاصطلاحي”- منشور ضمن أعمال ندوة “المصطلح في الفلسفة والعلوم الإنسانية-منشورات كلية آداب الرباط-رقم:42/1995-ص: 15

 

                                               إعداد الباحث: منتصر الخطيب

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق