مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراثقراءة في كتاب

الإعلام بنوازل الأحكام، وقِطْرٍ من سِيَر الحُكّام

يُعدّ كتاب «الإعلام بنوازل الأحكام» المشتهر بأحكام ابن سهل من بين أهم الكتب التي نالت اهتمام العلماء قديما وحديثا، لما ضمّه من فتاوى واجتهادات في كثير من الوقائع التي كانت محلّ نظرٍ في زمن المؤلّف، كما أنه يعطينا صورة واقعية تعكس حالة المجتمع الأندلسي زمن التّفكك على عهد ملوك الطوائف.

ومؤلّفه هو الفقيه الأندلسي عيسى بن سهل بن عبد الله الأَسَدي، ويكنى أبا الأَصْبَغ، ولد بجَيَّان سنة (413هـ/1022م)، نشأ وتربى في كنف والده سهل الذي كان معدودا في أهل العلم، إذ كان يتولى الصلاة والخطبة بحصن القلعة، ثم درس ببلده أوّلا علي يدي كل من الفقيه هشام بن عمر الفزاري الجياني، والفقيه بكر بن عيسى الكندي، وبعد ذلك قصد غرناطة للأخذ عن الفقيه أبي زكريا يحيى بن محمد القليعي فروى عنه الكثير، ثم دخل قرطبة فصحب بها أبا عبد الله محمد بن عَتَّاب، ثم قَفَل إلى بَيَّاسَةَ فوُلِّىَ القضاء بها، وانتقل بعدها إلى طليطلة، ثم إشبيلية، ثم اجتاز البحر إلى سَبْتَة التي بدأ فيها تأليف كتابه الذي نحن بصدد تعريفه، ثم إلى طنجة حيث وُلّي قضاءها من طرف أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، ثم عاد إلى غرناطة حيث استقرّ بها وولي قضاءها إلى أن توفي بها يوم الجمعة الرابع من محرم سنة (486هـ).

ويرجع سبب تأليف القاضي ابن سهل لكتابه في الأحكام ـ على ما صرّح به ابن الأبار ـ إلى أن الفقيه الأندلسي أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري المعروف بابن الحداد زار طنجة سنة (479هـ)، ولقي بها القاضي عيسى بن سهل وجرت بينهما مناظرة، فألف ابن الحداد على إثر ذلك رسالة سماها: «الامتحان لمن برز في علم الشريعة والقرآن» خاطب بها عيسى بن سهل وطلب منه الجواب على مسائل عويصة.

وقسّم ابن سهل كتابه إلى مقدّمة وأبواب رتّبها ترتيبا منهجيا على النّسق الفقهي المعروف، بيّن في مقدّمته أسباب تأليفه في موضوع الأحكام والفتوى، وشرح طريقة صياغته للمسائل فقال: «ثم إني رأيت الآن ضمّ تلك النوازل إلى نظام، وجمع تلك المسائل إلى ترسيم والتئام، وجمع أشكالها بعضها إلى بعض لتكون فائدتها أمكن وأيسر، ومنفعتها أقرب وأكثر…». وقد خصّ المؤلف كتابه بنوازل الأندلسيين، ولم يورد فيه إلا القليل النادر من فتاوى فقهاء القيروان، فتراه يأتي إلى الباب الواحد فيورد النازلة المتنازع فيها، ويتبعها بأقوال الفقهاء؛ ابتداءً من أول من تكلم في بعض شأنها إلى أن ينتهي إلى معاصريه ومن تحرى الإجابة منهم عنها في مجالسهم، ثم ختم الكتاب بفصل عن تسمية الفقهاء وتاريخ وفاتهم. كلّ ذلك بأسلوب علمي خال من التكلف والتعسّف، مشفوعا بكثير من الفوائد العلمية التي جعلت للكتاب شأنا كبيرا بين كتب النوازل المعروفة.

ولم يخرج ابن سهل في كتابه عن المصادر الفقهية المالكية الأندلسية المعروفة والمنتشرة في وقته، إلا فيما يتعلق ببعض الأخبار التي عاينها أثناء مزاولته للقضاء، أو مما بلغه إلى مسامعه في مجالسه مع شيوخه وأقرانه، ومن مصادره: روايات الإمام مالك في المدونة والموطأ، ومؤلفات ابن حبيب، وابن المواز، وابن عبد الحكم، وابن زرب، وأحكام ابن زياد، والوثائق لابن العطار، وغير ذلك مما يضيق المقام لحصره. وهذا ما جعل العلماء يعدّون الكتاب موسوعة قضائية جامعة لأحكام قضاة الأندلس، ويثنون عليه أحسن الثناء؛ يقول القاضي أبو بكر ابن العربي: «… وصار الصبيّ عندهم (يعني أهل الأندلس) إذا عقل، فإن سلكوا به أمثل طريقة لهم علّموه كتاب الله تعالى، فإذا حذقه نقلوه إلى الأدب، فإذا نهض فيه حفّظوه الموطأ، فإذا لقنه نقلوه إلى المدونة، ثم ينقلونه إلى وثائق ابن العطار، ثم يختمون له بأحكام ابن سهل»، وقال ابن بشكوال: «كان ابن سهل عارفا بالنوازل، بصيرا بالأحكام، مقدما في معرفتها، وجمع فيها كتابا حسنا مفيدا يعوِّل الحكام عليه». وأما الناهلون من معين الكتاب فكثيرون؛ نذكر منهم: القاضي عياض في مذاهب الحكام، وابن سلمون الكناني في كتابه العقد المنظم للحكام فيما يجري بين أيديهم من العقود والأحكام، وأبو الحسن البناهي في المرقبة العليا، وابن فرحون في تبصرة الحكام، وغيرهم.

وقد اختصر الكتاب جماعة من العلماء منهم العلامة يحيى بن عمر القرطبي (567هـ)، واحتفظت لنا دار الكتب الوطنية بتونس بنسخة منه تحت رقم (96)، كما قام الفقيه الألمعي أبو عمران موسى بن أبي علي الزَّنَاتي الزَّمُّوري (تـ702هـ) باختصاره أيضا في كتاب سماه «اقتضاب السّهل من اختصار أحكام ابن سهل»، وتحتفظ لنا المكتبة الوطنية بالرباط بنسخة منه تحت رقم (742أوقاف).

واشتغل بالكتاب الأستاذ أنيس العلائي الذي حقّق جزءًا منه في رسالة دكتوراه بإشراف الشيخ محمد الشاذلي النيفر سنة (1402هـ)، بكلية الزيتونة بتونس، كما نشر فتاوى من هذا الكتاب التهامي الزموري، فيما قام بإخراجه كاملا على بعض نسخه المخطوطة يحيى مراد، وصدر عن دار الحديث للنشر والتوزيع بالقاهرة سنة (1428هـ/2007م) في (752) صفحة في مجلد واحد.

الكتاب الإعلام بنوازل الأحكام، وقِطْرٍ من سِيَر الحُكّام.
المؤلف الإمام الفقيه أبي الأصبغ عيسى بن سهل بن عبد الله الأسدي الجياني (تـ486هـ).
مصادر ترجمته الصلة (2/415)، المرقبة العليا (96).
دار النشر دار الحديث للطباعة والنشر والتوزيع ـ القاهرة، الطبعة الأولى 1428هـ/2007م.
تحقيق ودراسة يحيى مراد.

إعداد: ذ. نور الدين شوبد

Science

الدكتور نور الدين شوبد

باحث مؤهل متعاون مع مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط

أستاذ مساعد بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية أبو ظبي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق