مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

الأوصاف النموذجية للشيخ المربي *

أوصاف النموذج: نذكر للنموذج الأوصاف الأربعة التالية

– أول هذه الأوصاف: أنه مثال المراقبة:  فقد راقب النموذج بدون انقطاع، على خير الوجوه مراقبة مباشرة سلوك نموذج آخر أخذ بدوره عن غيره بنفس الطريق، وهكذا صُعُدا إلى رسول الله ﷺ، فتسلفه معاينة خاصة لأفعال السلف القريب، فالسلف البعيد، فالأبعد، فالأبعد منه، فالرسول عليه الصلاة والسلام، وعلى هذا، فلسلوك النموذج سند عملي متصل كما يكون للحديث سند قولي متصل.

كما أنه ليس من الغريب أن يتحرى المتنمذج أو بالاصطلاح العام «المقتدي» طلب من اتصل سنده بالنموذج الأكمل، حرصا منه على الأخذ ممن كان أكثر الناس تحققا بالمراقبة الفعلية لسلوك السلف، وأكثرهم تخلقا بفوائد هذه المراقبة، فلا تنمذج إلا لمن كان سلوكه ثمرة ملاحظة مباشرة ودائمة لأفعال نموذج حي، لأن هذا النموذج ينقله بالسند المتصل إلى مراقبة سلوك الرسول عليه أفضل الصلاة والتسليم.

ومما يؤسف له في تاريخ الفكر الإسلامي أنه لم ينشأ في غمرة تأسيس العلوم الإسلامية، علمٌ مستقل يختص بدراسة سند النماذج على شكل علم الحديث، وكل ما نجده في هذا الشأن، إنما هو شذرات مبثوثة هنا وهناك، وخاصة في كتب الطبقات، شذرات لا يمكن نظمُها في سلك مادة علمية منفصلة.

وكان بالإمكان الجري في بناء علم النماذج على طريقة المحدثين في اصطناع مقولات تقنية ووضع تصنيفات إجرائية، ورسم معايير للنقد والتصحيح، فتحدد وترتب شروط النموذج، وتصنف النماذج بحسب استيفاءها لهذه الشروط، كأن يكون سند النموذج مرفوعا أو موقوفا أو مقطوعا، وأن يكون بطريق واحد، أو بطرق متعددة، وكأن يغني بالتسلسل والإجازة عناية خاصة.

– ثاني أوصاف النموذج، أنه مثال للفهم، إن فهم النموذج المبني على الممارسة والمعاينة والملازمة يظهر في أمرين أساسيين:

أ‌- إدراك الدلالة العملية لمعاني النصوص، فكل معنى مأخوذ من النصوص الأصلية، ليس فكرة مجردة عنده، وإنما هو قيمة معتبرة، وكل قيمة هي أمر معتقد يستوجب السلوك وفقه.

ب‌- تقمص السلوك لهذه القيم بحيث تشاهد في أفعال النموذج كما لو كانت عنده عبارة عن طبائع جبلية لا انفكاك له عنها.

ويكفي هذان الأمران: التحقق بالخاصية التقويمية للنصوص والتخلق السلوكي بمعانيها لتجعل النموذج قريبا من الأصول الإسلامية قرب عمل وحال لا قرب نظر ومقال، ومتى حضر مع هذه الأصول بعقله المؤيد لا بالنظر المجرد، كان أبصر الناس بأخبارها وأحكامها، إذ يكون فهمه لها فهما بالحضرة لا فهما بالفكرة، وشتان بين فهم مستنير بنور الاشتغال، وفهم منقطع عن الاشتغال.

– ثالث أوصاف النموذج: أنه مثال الاجتهاد: إذا لبست المعاني النموذج، واتحدت بها جوارحه، وتفاعلت بها أحواله، تجددت مداركه العقلية والوجدانية، وقامت بها أسباب الإنتاج والإبداع، ومن يكن بهذا الوصف، يكن اجتهاده من الداخل، سواء من داخل الظرف الذي يحتضنه أو من داخل النص الذي يتأمله أو من داخلهما، فأما الظرف، فإن النموذج يأخذه من جوانبه الفاعلة والمنهضة إلى العمل، ويتصرف فيه بمقدار فاعلية هذه الجوانب وإنتاجيتها، وبمقدار حاجته العملية منها، وأما النص، فيتناوله في دلالته التي تفتحه على أسباب تتعدى أسباب وروده، والتي تجعله يحيا في قلوب العاملين به، وأما اجتماع الظرف والنص، فيتخير النموذج وجوه تنزيل أحدهما على الآخر من جهة ما يختزنان من قوة عملية، سواء بإخراج الظرف عن آليته أو بإخراج النص عن ظاهريته، إيمانا منه بأنه ليس كل ما جمد في الظرف لا يمكن تحريكه، ولا كل ما سكت عنه ظاهر النص لا يمكن استنطاقه.

ومتى كان النموذج يأخذ بالأسباب الحية الكامنة في الظروف والنصوص، والباعثة على تجددها وعلى استمرار هذا التجدد، كان أوفق وأكمل مجتهد وأحق من غيره بأن يقتدى به على يديه.

وليس لقائل أن يقول بأن التسلف والتجدد صفتان متعارضتان في الحقيقة النموذجية، ذلك أن التسلف الذي يتخلق به النموذج، ليس وصفا نظريا، وإنما وصف عملي حي يستمد خصائصه، بالتوجه والمراقبة، من الأسلاف، ولا انقطاع له أبدا عن هذين المعيارين العمليين، وهما كافيان لأن يجعلا النموذج آخذا في كل وقت بأسبابه في وجوهها الخاصة بهذا الوقت وفي وجوه ارتباطها بغيرها من وجوه أسباب الأوقات الأخرى، كما يجعلانه قادرا على جمع آثار هذه الأسباب المتراكمة كلها، وعلى أن يفعل بمقتضى ما يستوجبه من تغيير خلقي، في الوقت الذي هو فيه، إن تكيفا معه أو تكييفا له.

– رابع أوصاف النموذج: أنه مثال القبول: لما كانت المعاني قيما سامية مطلوبة، ومثلا عليا محبوبة، وكان النموذج متحققا ومتخلقا بها في جميع جهاته الظاهرة والباطنة، انعكس عليه وصفها وقدرها، فصار عند الناس مطلوبا ومحبوبا مثلها، وإذا طلبوه، فلا يطلبون فيه إلا المعاني التي تمثلت فيه خير تمثيل، ولا تكون استجابته لهم إلا بصرف شخصه الحسي ودواعيه البشرية عن هذه المعاني، وإذا أحبوه، فلا يحبون فيه إلا جمال وكمال هذه المعاني، ولا تكون محبته لهم إلا بإرشادهم إلى طريق التقرب منها والتخلق بها، فليس لهذا الطلب ولا لهذه المحبة أية دلالة مادية تتصل بشخص من الأشخاص أو بغرض من الأغراض، وإنما هي دلالة معنوية محض تخرج بالطالب وبالمحب إلى عالم يذوق فيه ثمرة الأعمال ولذة الأفضال.

   ومتى كان النموذج مأخوذا عن الإحساس بشخصه وبنفسه وبأغراضه ومستغرقا بالكلية في المعاني، كان الإقبال عليه إقبالا على هذه المعاني الروحية والتشبه به تشبها بها.

   وبفضل هذه الأوصاف الناتجة عن الاستغراق في العمل، يكون النموذج قادرا على التخليق، فيمكننا من التطهير والترسيخ المطلوبين في تحصيل التسلف واكتساب القدرة على فهم النصوص الأصلية فهما يجدد علاقتنا بها، ولا يزيدنا بعد الزمان عنها إلا احتياجا للتنمذج من جهة، وتعرضا للابتداع بترك هذا التنمذج من جهة أخرى، وبيان ذلك كما يلي:

الاحتياج المتزايد إلى النموذج: لقد سلمنا بالحقيقتين التاليتين:

– أولاهما: أن النص كلما بعد عن عصره، وعن أسباب وروده، غطت معانيه ألوان من التجارب والمعارف المتراكمة في عقولنا.

– ثانيهما: أن التسلف العملي يقتضي مراقبة سلوك النموذج، لأن المدرك بالمعاينة من أفعاله فوق المدرك بالمعاينة من أفعاله فوق المدرك بالنظر من النصوص.

      يلزم عن هذا التسليم أن الحاجة إلى النموذج وإلى مراقبة أحواله، تزداد بازدياد تباعد الزمن بيننا وبين هذه النصوص، وعلى هذا، يكون الناس اليوم أحوج إلى طلب النموذج، وإلى التنمذج منه بالأمس، فالتنمذج وحده هو القادر على قهر الصفات العقلية والخلقية التي تزداد رسوخا فينا مع مرور الزمن.

الابتداع المتزايد بترك النموذج: لقد تقرر الأمران التاليان:

– أولهما: أن إرادة الخروج عن آثار الأزمان والتحقق بالأعمال، تستوجب التوجه إلى سلوك معين.

– ثانيهما: أن الاحتياج إلى نموذج يشتد بمقدار ما تقوى آثار الزمان في العقل.

     يترتب على ذلك أن عدم التوجه إلى النموذج في فعل أو في ترك، يؤدي إلى النتيجتين الآتيتين:

– أن تارك التوجه إلى سلوك النموذج الحي في عمل ما واقع في الابتداع، لأنه سيتخذ لا محالة نفسه في هذا العمل، وهو لما يبلغ مبلغ النماذج.

– أن الابتداع الحاصل بسبب ترك التوجه تعظم إساءته بمقدار البعد عن زمن النصوص، لأن أسباب الوصل بهذا الزمن الخاص التي يحملها ظاهر جوارحنا وتخفى في باطن جوانحنا، تكون أقرب إلى الانقطاع كلما ابتعدنا عن هذا الزمن الأصيل.

هوامش

* طه عبد الرحمان: العمل الديني وتجديد العقل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط4، 2006م، ص ص: 193-197.

د. طارق العلمي

  • أستاذ باحث في الرابطة المحمدية للعلماء، متخصص في المجال الصوفي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق