الأمر والنهي بين القصد الأصلي والقصد التبعي عند الإمام الشاطبي (ت790ﻫ)* للدكتور محمد المنتار
لا شك أن العربية أو معهود العرب في الخطاب، أو ما يمكن أن نطلق عليه دلالات الألفاظ هو الأداة الأساس لفهم مراد الشارع وحدود تكليفه والتعرف إلى مقاصد هذا التكليف. كما لا تخفى مكانة البحث اللغوي في علم الأصول؛ بحيث احتلت القواعد اللغوية دائما مكانا بارزا في كتب أصول الفقه، بسبب أهميتها في تفسير نصوص الكتاب واستخراج الأحكام منها.
وهو ما يفسر اتجاه علماء الأصول إلى وضع قواعد لغوية لفهم النصوص الشرعية، واستنباط الأحكام منها، منطلقين من مبدأ أن هذه النصوص نصوص عربية؛ لابد لفهمها والاستنباط منها أن يكون المستنبط عليما باللسان العربي، مدركا لدقائق مرامي العبارات فيه، وطرق الأداء، من تعبير بالحقيقة أحيانا، وتعبير بالمجاز أحيانا أخرى، ومدى الدلالة في كل طريق من طرق الأداء؛ لأن هذه المعرفة لها مداها في فهم النصوص، وتبين الأحكام منها.
وقد أشار الشافعي (ت204ﻫ) إلى أهمية العلم باللسان العربي في عملية الاجتهاد؛ فالقرآن نزل بلسان العرب دون غيره؛ لأنه لا يعلم من إيضاح جمل الكتاب أحد جهل لسان العرب، وكثرة وجوهه، وجماع معانيه وتفرقها، ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها.
وأكد الشاطبي (790ﻫ) أهمية اللغة العربية حين التعامل مع نصوص القرآن والسنة؛ فما دامت لغتهما عربية، جارية على أساليب كلام العرب، لزم كل من أراد التعامل معهما فهما واستنباطا أن يكون عارفا باللسان العربي، بالغا فيه مبالغ العرب، أو مبالغ الأئمة المتقدمين، ومن عدم ذلك لزم التقليد دون الاجتهاد. وقد عد ابن عاشور (ت1973م) المعرفة بعلوم اللغة العربية، وبأفانين القول، وأساليب الخطاب، المدخل الأول لفهم معاني القرآن، وتبين مقاصده، واستنباط أحكامه[1].
المعرفة اللغوية، إذن، سبيل إلى طلب فهم الشريعة، ولا سبيل إلى تطلب فهمها من غير هذه الجهة، كما يقول الشاطبي في موافقاته. ومحاولة للوقوف على بعض أساليب التعبير عن المقاصد، وطرقه من خلال تتبع الأمر والنهي الأصلي والتبعي، ومحاولة صياغتها في جملة أسس ومبادئ يرجى أن تمكن من الفهم الصحيح لمقاصد النص وتساعد في محاولة إبلاغ هذه المقاصد للآخرين، وإفهامهم بها.
أولا يأتي كتاب: "الأمر والنهي بين القصد الأصلي والقصد التبعي عند الإمام الشاطبي" للباحث الدكتور محمد المنتار، إدراكا منه لأهمية مراعاة المقاصد في معالجة القضايا الأصولية، ولمكانة الإمام الشاطبي الذي قدم في الموضوع دقائق كثيرة، هي من مهمات الفوائد، وأمهات القواعد. حيث إن من مظاهر الإبداع والتجديد التي أضفاها الإمام الشاطبي من خلال هذا الموضوع، بيانه أن لعلم المقاصد اتصالا عريقا، وترابطا وثيقا بعلم الأصول، بحيث يشكلان إلى جانب علم القواعد مركبا استنباطيا وتنزيليا متداخل الأطراف والأدوار كما يؤكد الكاتب.
وقد جاء الكتاب في شكله العام متضمنا مقدمة وبابا تمهيديا وبابين وخاتمة. وتنقسم الأبواب إلى فصول ومباحث وفقرات ونقط متفرعة عنها.
الباب التمهيدي: وهو بمثابة الشق النظري للبحث، ناقش فيه الباحث قضايا وأبعاد العلاقة بين مقاصد الشريعة وأصول الفقه. وقد قسمه إلى ثلاثة فصول:
الفصل الأول: الموسوم بـ: الإمام الشاطبي اتباع في المنهج وتنوع في الإنتاج (ص21-48). خصصه الباحث للتعريف بالشاطبي وعصره، أملا في توضيح تأثيره وتأثره، والخصائص العامة لفكره ليمكن الانتقال إلى بيان أثرها في منهجه. حيث تتبع المؤلف نتاج الإمام الشاطبي، مما مكنه من الوقوف على طريقته في التعامل مع النصوص الشرعية، ومنهجه في فهمها وتفعيلها. وقد قدم لذلك كله بنظرة عن العصر الذي عاش فيه، على المستوى الاجتماعي والفكري والثقافي والسياسي، ثم بيان حجم انعكاس ذلك على شخصيته.
الفصل الثاني: جاء بعنوان: الموافقات والتأليف الأصولي (ص:51-80). تناول فيه الأستاذ المنتار مبحثين اثنين، أبرز في الأول منهما: تعدد مدارس ومناهج علم أصول الفقه، والمراحل التاريخية التي مر بها تطور هذا العلم، وما آل إليه من التقليد والاجترار بعد القرن الثامن الهجري، القرن الذي يمثل إيذانا بانتهاء عهد الابتكار والإبداع بحسبه.
في حين أشار في المبحث الثاني إلى أن موافقات الشاطبي تمثل نقلة في التأليف الأصولي. يقر الأستاذ المنتار أن الشاطبي قد وفق على مستوى التأليف الأصولي، وتمكن من تجاوز المواقف التي سادت في الكتابات الأصولية السابقة عليه، والتي حددها الباحث في ثلاثة: موقف المتكلمين أو الشافعية، موقف الحنفية أو الفقهاء، موقف المتأخرين. مشيرا في الوقت نفسه إلى أن الشاطبي قد وفق إلى طريقة فريدة في التأليف لم يسبق إليها، فعد بذلك شيخها ومؤسسها، سماها الأستاذ المنتار بـ"مدرسة المقاصد الشرعية في أصول الفقه" التي يعتبرها الباحث سمة تميز الشاطبي عن طريقة المتكلمين، كما تميز عن طريقة الفقهاء والمتأخرين. ولهذا يرفض الأستاذ المنتار حشر الشاطبي ضمن طائفة من الطوائف السابقة الذكر، ويعتبر ذلك تعسفا في حقه.
وقد سعى المنتار جاهدا إلى تبين المحاور التي غلب أن العمل التجديدي للشاطبي تمحور حولها في كتابه الموافقات، وقد حددها فيما يلي: تجديد البناء الهيكلي أو المنهجي لعلم أصول الفقه، التقديم للكتاب بمدخل في مقدمات منهجية علمية، إدخال المقاصد كمبحث أساسي في علم أصول الفقه. وقد اعتبر الكاتب أن هذه المحاور قد مكنت الشاطبي من بناء هرما شامخا للثقافة الإسلامية، ومتأسفا في الوقت نفسه على عدم استثمار هذا التوجه في إحداث ثورة علمية وتجريبية في سائر العلوم والمعارف.
أما الفصل الثالث من هذا الباب: فجاء موسوما بـ: مقاصد الشريعة: قضايا وأبعاد (ص83-111). وتناول فيه الباحث مبحثين: المبحث الأول كان ذو طابع تأريخي، تعقب فيه الباحث الإطار التاريخي للبحث في المقاصد، مشيرا إلى أن الالتفات إلى المقاصد كان مبكرا، وكان ملازما للشريعة نفسها.
فتحدث المؤلف عن مقصدية القرآن الكريم باعتباره ينطوي على أرقى المقاصد وأعلاها. وكذا مقصدية السنة التي جاءت لتأكيد النواحي المقصدية التي أقرها القرآن الكريم. وعلى هذا المنهاج سار فقه الصحابة والتابعين. فكان عصر الأئمة الذين اهتموا جميعهم بناحية المقاصد.
وقد تتبع المؤلف الحلقات الساطعة التي عرفها الإطار التاريخي للتأليف في المقاصد. معتبرا أن عمل الشاطبي قد رفع المقاصد الشرعية إلى مستوى النظرية المتكاملة، هدف من ورائها أن تكون الأساس الفكري والمنهجي لمشروع إصلاحي، يتناول سائر مرافق المجتمع الإسلامي، ومن كافة نواحيه الاجتماعية والفكرية والسياسية وغيرها. فاستحق بذلك في نظره أن يسمى أصولي المقاصد.
وقد ختم الكاتب فصله هذا بإقرار حقيقتين: الأولى؛ أنه علم مستمد في منبعه من النصوص ودلالتها، تشكلت بذوره في زمن الرسالة. والثانية؛ أن الأصل في القول بالمقاصد يرجع بالدرجة الأولى إلى الفقهاء والأصوليين، الذين امتلكوا آليات ساعدتهم على الالتفات إلى المقصد المراد انطلاقا من وظيفتهم في فهم النصوص.
في حين شكلت علاقة المقاصد بعلم أصول الفقه موضوع المبحث الثاني من هذا الفصل، استهله بتتبع مفهوم المقاصد في اللغة وفي الاصطلاح عند علماء الشريعة، محاولا من خلاله الإجابة عن مجموعة من الأسئلة من قبيل:
هل علاقة علم أصول الفقه ومقاصد الشريعة علاقة استيعاب وتوازن، أم علاقة استقلال وانفراد؟ وما هي القواعد الضابطة لذلك؟ ثم ما هي فائدة ذلك بالنسبة للمجتهدين؟ وكيف السبيل إلى إخراج المقاصد من الإبهام الملغز إلى الوضوح المفهم، والنأي بها عن المذهبية التي أصبحت تتعرض لها يوما بعد يوم؟
وقد عرض محمد المنتار لآراء مجموعة من الباحثين في الموضوع، ميز فيها بين موقفين: موقف أول يرى أصحابه أن علم المقاصد علم جليل مستقل بذاته. وموقف ثان يرى أن علم المقاصد جزء من علم أصول الفقه. منبها أن رأي الشاطبي في القضية غير واضح، وليس هناك ما يستفاد منه تبنيه لأحد الاتجاهين السابقين، اللهم بعض الإشارات الظنية التي يترجح بها ميله إلى وضع علمي المقاصد والأصول في إطار واحد.
ليقر في الأخير بوجاهة الرأيين معا؛ على اعتبار أن لعلم المقاصد مع علم الأصول اتصالا عريقا وترابطا وثيقا، بحيث يشكلان، إلى جانب علم القواعد الكلية، مركبا استنباطيا وتنزيليا متداخل الأطراف والأدوار.
بيد أن التداخل الكبير بين العلمين المذكورين لا يحول دون القول باستقلال كل منهما عن الآخر، كما أن التداخل العميق القائم، مثلا ، بين علمي الأصول والنحو لم ينف استقلالهما، باعتبارهما اختصاصين منفصلين.
ليختم المؤلف فصله هذا بالإشارة إلى مسألة خطيرة، هي تلك المتعلقة بالأدلجة، ففي نظره أصبحت المقاصد سارية يشدها كل تيار إلى عالمه كأنها مرجعية لجدل التناقض؛ فهي عند العلمانيين جسر لرفض الثابت، والقول بتاريخية النص... وعند بعض دعاة التجديد أهم أسس المشروعية للآراء المستحدثة على نحو يستبعد النصوص. وهي أطروحات قد تخرج المقاصد من حدودها العلمية إلى حلبة الصراع ليس فيه للكلمة العلمية اليد العليا كما يقول المؤلف.
بهذا ختم الباحث بابه التمهيدي لنصل إلى الباب الأول من الكتاب، والذي سماه: الأمر والنهي بين القصد الأصلي والقصد التبعي، وقد ضمنه أربعة فصول كاملة لسبب بسيط يتمثل في أن للإمام الشاطبي حديث رحيب خصيب في فصل الأوامر والنواهي، لا يستقيم للباحث أن يوجز فيه.
خاصة وأن البلاغيين والنحويين لم يقدموا في دراستهم لأسلوب الأمر والنهي ما قدمه الشاطبي، فقد تنبه المنتار إلى أن تعلق الشاطبي الشديد بالمقاصد كان له أثر واضح في تقرير مسائل الأمر والنهي، كما تنبه إلى اختياره المنهجي في معالجته لقضاياه القائم على التمييز بين ما هو أصلي وما هو تبعي وبين ما هو مقصود بالقصد الأول، وما هو مقصود بالقصد الثاني. وهو ما جاءت فصول الباب لتناوله وبيانه.
فكان الفصل الأول (ص119-143). الموسوم بـ: موقع الأمر والنهي في البناء العام لأصول الفقه. وقد استهله المؤلف بالحديث عن أهمية الأمر والنهي عند الأصوليين، مبرزا أن المسألة تشغل حيزا كبيرا داخل المصنفات الأصولية لارتباطهما الوثيق بالخطاب الديني.
وللتدليل على ذلك يورد الأستاذ المنتار مجموعة من الأقوال الأصولية المدعمة لرأيه، منها قول شمس الأئمة السرخسي (490ﻫ) الذي قال: "أحق ما يبدأ به في البيان الأمر والنهي؛ لأن معظم الابتلاء بهما، وبمعرفتهما تتم معرفة الأحكام، ويتميز الحلال والحرام[2]."
كما وقف المؤلف في هذا الفصل على المقاربة الأصولية لمصطلحي الأمر والنهي. وقبل ذلك أعطى نبذة عن معاني الأمر والنهي في اللغة العربية، لينتقل بعدها لتتبع معانيهما في المجال الأصولي، خاتما الحديث عن المقاربة الأصولية لظاهرتي الأمر والنهي، وشروط إجرائهما بإيراد قولة للآمدي بأنها تختزل المقاربة الأصولية التي كان بصددها، والتي مفادها: "إن دلالات الألفاظ على المعاني ليست لذواتها، وإلا كانت دالة عليها قبل المواضعة، وإنما دلالتها تابعة لمقصد المتكلم وإرادته[3]."
في الفصل الثاني تناول ف المؤلف ثنائية الأصلي والتبعي في الفكر الأصولي والمقاصدي (صص:147-169). من خلال مبحثين: الأول بين فيه ثنائية الأصلي والتبعي في الفكر الأصولي باعتبارها ثنائية جديرة بالاهتمام الأصولي، وبل وفي الفكر المقاصدي. لما يترتب عنها من قضايا أصولية في مقدمتها قضية الوحدة والتعدد في الأدلة التشريعية عامة، ثم مسألة الربط بين طرفي هذه الثنائية على وجه الخصوص.
وحرصا من الباحث على توضيح المصطلحات المفتاحية في بحثه، فقد عمد أولا إلى الوقوف عند معاني الأصلي والتبعي من الناحية اللغوية قبل حديثه عن معالجة الأصوليين لهذه الثنائية. ففي المبحث الثاني من هذا الفصل، تناول ثنائية المقاصد الأصلية والمقاصد التبعية في الفكر المقاصدي. متتبعا أهم تقسيمات الأصوليين للمقاصد، واعتباراتهم المختلفة في ذلك. مبرزا رأي الشاطبي في هذه التقسيمات، واستعماله اصطلاحا قريبا منه، وهو (القصد الأصلي) و(القصد التبعي) اللذين كثيرا ما عبر عنهما بمصطلحي: (القصد الأول) و (القصد الثاني). مؤكدا أن الشاطبي هو الأول من فتق البحوث في هذه المسألة، وسبر أغوارهما.
أما الفصل الثالث، فقد كان أكثر التصاقا بالشاطبي حيث تناول فيه أستاذنا المنتار مسألة الأمر والنهي عند الإمام الشاطبي (صص:173-192). مقرا بأن مباحث الأمر والنهي عند الشاطبي أطول مباحث كتاب الأدلة الشرعية، ومشيرا إلى أنه جعلها في ثماني عشرة مسألة مبسوطة وذكر فيها من المبادئ ما هي به منوطة.
وقد تتبع المؤلف بعضا من هذه المسائل بالتفسير والتوضيح، تبين له من خلال ذلك أن القول فيما يفيده الأمر والنهي عند الإمام الشاطبي يحتاج إلى توقف وأناة، ونظر في المناطات والمقام، والمساق والمقاصد وشواهد الأحوال.
وتوضيحا منه لما سبق؛ تناول المنتار التقسيم الذي اختاره الشاطبي للأوامر والنواهي. حيث أشار إلى أن إمام الأندلس قد صرح بأن الأوامر تنقسم إلى قسمين: الأول: الأوامر والنواهي الصريحة. الثاني: الأوامر والنواهي الضمنية. معززا تناوله بإيراد العديد من الأمثلة على القسمين.
وجاء الفصل الرابع والأخير بعنوان: الطرق السليمة لفهم المقصود الشرعي من الأوامر والنواهي (صص:195-216). وهي عند الشاطبي أمور أربعة: أحدها: الاستقراء. وثانيها: النظر في القرائن الحالية والمقالية المصاحبة للأمر والنهي. ثالثها: محاولة استخلاص علة ذلك الأمر والنهي إن وجدت. رابعها: اعتبار القصد الأصلي والقصد التبعي، أو القصد الأول والقصد الثاني عند النظر في الأمر والنهي.
وقد تحدث المؤلف عن أهمية ودور هذه الأمور في تحديد المقصود الشرعي من الأمر والنهي. عجل بتناول الخطوتين الأولى والثانية في فصله الرابع هذا مرجئا الحديث عن الخطوتين الأخريين إلى الفصل الأول من الباب الثاني لكتابه. معتبرا أن المنهج الاستقرائي أهم ما قدمه الشاطبي وبرز فيه تبريزا.
وقد كشف المؤلف ممارسة الشاطبي للاستقراء، فعرض جملة من المجالات التي لها علاقة بالموضوع منها: تعليل الأحكام، العلاقة بين الكلي والجزئي...كما تناول المنتار في هذا الفصل بالشرح والتحليل دور السياق في فهم المقصود الشرعي من الأوامر والنواهي.
ليصل إلى خلاصة مفادها، إن المنهاج الذي سلكه الإمام الشاطبي لفهم النصوص الشرعية المتمثل في استقرائه للنصوص، وتعليله للأحكام واعتباره الكليات مع الجزئيات، وإعطائه الأهمية لقرائن الأحوال والمقام، وكل ما له علاقة بالمساق، كل ذلك يجسد عمليا فقه الأوليات والموازنات.
في الباب الثاني: تناول المؤلف أهم القضايا الأساسية لارتباط الأمر والنهي بالقصد الأصلي والقصد التبعي، وقد اختار لهذا الباب أربع قضايا، اعتبرها الأبرز عند الشاطبي في هذا الموضوع، مخصصا لكل واحدة منها فصلا خاصا يجمع شتاتها.
فجاء الفصل الأول (ص223-252) بعنوان: مسالك الكشف عن مقاصد الشارع وطرق استثماره في الأمر والنهي. عرض من خلاله المؤلف مسالك الشاطبي في الكشف عن مقاصد الشارع، وهي أربعة: المسلك الأول: اعتبار مجرد الأمر والنهي الابتدائي والتصريحي. المسلك الثاني: اعتبار علل الأمر والنهي. المسلك الثالث: اعتبار المقاصد الأصلية والمقاصد التابعة. المسلك الرابع: سكوت الشارع. وقد خصص المؤلف لشرح هذه المسالك الأربعة مبحثان تناول في كل واحد مسلكان. فتناول في المبحث الأول مسلكا: اعتبار مجرد الأمر والنهي الابتدائي والتصريحي. واعتبار علل الأمر والنهي. في حين تناول في المبحث الثاني مسلكا: اعتبار المقاصد الأصلية والمقاصد التابعة. وسكوت الشارع. معتبرا أن ما كتبه الشاطبي في هذه الأمور الأربعة يعد مادة ثرية في الفقه المقاصدي، لا غنى لي باحث أصولي مقاصدي عنها.
في الفصل الثاني (ص255-288) وجه المؤلف وجهه شطر القواعد الكلية باعتبارها قوانين كلية جامعة لمعنى يتحصل من استقراء عدد كبير من الجزئيات والفروع. ولأن الشاطبي أحد رجالاتها الأفذاذ لما خلفه رحمه الله من القواعد على مستوى التنظير والتطبيق، فقد حاول المؤلف استلال بعضها من مثاني كلامه وتضاعيفه في باب الأوامر والنواهي. مبتدئا بمبحث عرف فيه القاعدة، وأشار إلى أهميتها، ومدى اهتمام الشاطبي بكليتها. مستعرضا العديد من التعريفات اللغوية والأصولية وكذا المقصدية للقاعدة، ومشيرا إلى أن صفة الكلية أكثر تحققا في القاعدة المقصدية منها في القاعدتين اللغوية والأصولية.
لينتقل للحديث عن القواعد الكلية المندرجة تحت الأمر والنهي الأصلي والتبعي. وقد حصرها المؤلف في تسع قواعد بعد أن ألف بين أفرادها وضم الأشباه والنظائر بعضها إلى بعض ثم سلكها تحت عناوين كاشفة عن دفينها، بحسب الموضوع الواحد والمصطلح الواحد. وقد تناول كل قاعدة بالشرح والتمثيل.
في حين تناول المؤلف في الفصل الثالث: (ص291-311) قضية الأمر والنهي الأصلي والتبعي عند الصوفية، وموقف الشاطبي من ذلك. فيشير المؤلف أن الإمام الشاطبي قد تناول موضوع التصوف من ناحية مدى اتفاقه واختلافه مع قواعد الشرع، وأنه لم يكتف بتأصيل بعض أصول الصوفية التي تعتمد عليها طريقتهم، ويقوم عليها أنموذجهم، بل تجاوز ذلك إلى مدحهم، وإظهار شدة اتباعهم للسنة ومقاصد الشريعة، وقرر أن طريقتهم إنما داخلتها المفاسد، وتطرقت إليها البدع من جهة قوم تأخرت أزمانهم عن عهد السلف الصالح، وادعوا الدخول فيها من غير سلوك.
ونظرا لشدة التصاقهم بمقاصد الشريعة، ونظرا لامتثالهم الأوامر واجتنابهم النواهي، قدم الشاطبي الصوفية على غيرهم. ورغبة في بيان ذلك عقد المؤلف هذا الفصل، وقد جاء في مبحثين. تطرق في الأول منهما إلى موقف الشاطبي من الصوفية، فوسمه المؤلف بالوسطية والاعتدال؛ بحيث لم يك الشاطبي في نظره من الرافضين المنكرين للتصوف على الإطلاق، بل كان الرجل من بقايا الرعيل الأول الذين كانوا يقيسون كل أمر بميزان الشرع، فلا ينحرفون لأهوائهم أو رغباتهم في الحكم على الناس.
ومن خلال تتبع المؤلف لسيرة الشاطبي ووقائع حياته، وأفكاره وأرائه التي عبر عنها في مؤلفاته؛ يقر المنتار أن الرجل كان ميالا للتصوف، يدل على ذلك حسب المؤلف سلوكه على يد عدد من المشايخ، وإحاطته بعلوم الصوفية وعنايته بها، وتخريجه لبعض عباراتهم، ومدحه لهؤلاء القوم.
وفي المبحث الثاني تناول المنتار الأمر والنهي الأصلي والتبعي عند الصوفية. فأورد بعض أصول الصوفية التي بنوا عليها مذهبهم في المسألة، وكيف عرفها الشافعي وعرّف بها. وعن سبب إيراد ذلك، يقول الأستاذ المنتار: "أوردته لما لها من علاقة بموضوع البحث على أن هناك أصولا أخرى، ذكرها الشاطبي في الموافقات والاعتصام، وبنى عليها قواعد كلية جليلة، تدل على علاقتها الشديدة بمقاصد الشارع، وتفند ما يعتقده ذوو النظر السطحي من الحكم على الصوفية بإطلاق بالانحراف والتبديع والخروج عن طريق الجادة.
كما تصحح الفكرة السائدة حول اشتهار الشاطبي بين خصوم التصوف؛ لأن ذلك إنما هو راجع إلى كثرة ما كتبه "رباني المقاصد" في التحذير من انحرافات متأخري الصوفية؛ الذين دسوا أنفسهم في هذا المسلك التربوي الشريف، مع الشدة التي تميز بها أسلوبه في هذا الموضوع بالذات، خاصة في كتاب الاعتصام".
وجاء الفصل الرابع والأخير، (ص315-330) بعنوان: فاعلية القصد الأصلي والتبعي في النظر الاجتهادي، وقد كان استشرافيا بحيث تناول فيه المؤلف وجوه الاستفادة من المقاصد الأصلية والتبعية للفقيه الناظر في النصوص الشرعية، سواء في إعانته على فهمها، أو في تمكينه من حسن تنزيلها على الواقع. وقد حدد المؤلف وجوه الاستفادة في أربعة أوجه هي كالأتي:
الاستعانة بالمقاصد الأصلية والتبعية في مسائل التعارض والترجيح، والاستعانة بهما في فهم بعض الأحكام الشرعية، والاستفادة منهما في توجيه الفتوى، وكذا في استنباط الأحكام للوقائع المستجدة مما لم يدل عليه دليل، ولا وجد له نظير يقاس عليه.
أما خاتمة الكتاب، (ص333-337) فقد ضمنها المؤلف أهم نتائج بحثه، ولعل من أبرزها:
ـ إن الإمام الشاطبي قد وفق على مستوى التأليف الأصولي إلى طريقة فريدة في التأليف لم يسبق إليها..
ـ إن الشاطبي باهتمامه بمقاصد الشريعة، بعث روح التجديد والحيوية في علم الأصول..
ـ إن الأمر والنهي يتبوآن منزلة خاصة في الفكر الأصولي، ويشغلان حيزا كبيرا داخل المصنفات الأصولية..
ـ إن ثنائية الأصالة والتبعية مسألة جديرة بالاهتمام في الفكر الأصولي وفي الفكر المقاصدي، لما يترتب عنها من مسائل أصولية في مقدمتها مسألة الوحدة والتعدد في الأدلة والتشريعية..
ـ كما نبه المؤلف في خاتمته أيضا على بعض المسائل التي تحتاج إلى مزيد تفكير وبحث منها: مسألة التأريخ لعلم أصول الفقه، ومسألة علاقة هذا العلم بباقي العلوم، وكذا مسألة منهج اعتماد المقاصد.
ختاما، وبعد هذا العرض المجمل، نشير إلى أن أهمية هذا البحث تكمن في أنه استقصاء لنتاج أحد مفكري الأمة ومنظريها، الإمام الشاطبي. ذلك أن الكتب المنهجية والتأسيسية والتأصيلية تبقى حية لا يتجاوزها الزمن، وتشتد الحاجة إليها في حالة التبعثر والتضليل الفكري.
وقد وفق الأستاذ المنتار في إبراز أفكار الشاطبي في مسألة الأمر والنهي بين القصد الأصلي والقصد التبعي. كما وفق إلى رصد أهم التأثيرات التي نتجت عن تداخل قضايا المقاصد والأصول وتكاملهما، من خلال تتبع دقيق لمسائل الأمر والنهي الأصلي والتبعي عند الإمام الشاطبي..
حيث توصل، في استفادة جلية من أمهات المصادر العلمية في الباب؛ إلى استخراج درر نفيسة لها أوثق صلة بفن مقاصد الشريعة، وأعرق نسب بعلم الأصول. مما يكتسي معه هذا العمل قيمة علمية مقدرة تجعله جديرا بالقراءة.
الهوامش
* محمد المنتار، الأمر والنهي بين القصد الأصلي والقصد التبعي عند الإمام الشاطبي (ت790ﻫ)، مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث/الرابطة المحمدية للعلماء، ط1، (1433هـ/2012م).
[1] انظر، صالح سبوعي، النص الشرعي وتأويله: الشاطبي أنموذجا، كتاب الأمة، ع، 117، ط1، (1428ﻫ/2007م)، ص44-45.
[2] . أصول السرخسي: 1/11.
[3] . الآمدي، الإحكام: 2/143.