وحدة الإحياءدراسات عامة

الأخلاق في الاقتصاد الإسلامي.. في الخطاب القرآني

 أولا: في ماهية الاقتصاد الإسلامي

كلمة اقتصاد في المصطلح اللغوي تعني شيئين اثنين: البحث عن قصد أي هدف، وتعني كذلك التوسط؛ (أي اختيار الحلول الوسطى)؛ بمعنى الموازنة بين الرغبات والإكراهات. وبالتالي لو أدمجنا المفهومين لأصبحت كلمة اقتصاد تعنى التوازن في سبيل تحقيق هدف مادي معين.

 أما إذا أضفنا كلمة “إسلامي” فيمكن تعريف الاقتصاد الإسلامي بأنه “مجموع المفاهيم والقواعد والنظريات والمعاملات التي تهدف إلى تسخير المال للرفع من قيمة الإنسان من خلال تحقيق توازن وتزاوج بين المصلحة المادية والمصلحة الروحية من جهة، وتوازن  بين المصلحة الفردية والمصلحة الجماعية من جهة ثانية”. ويبرز الجانب الأخلاقي في السلوك الاقتصادي أساسا من خلال أولوية الجانب الروحي على الجانب المادي، وأولوية المصلحة الجماعية على المصلحة الفردية في حالة تعارضهما.

وحيث أن الاقتصاد سلوك، والسلوك قيم، والقيم أخلاق، فلا يمكن تصور سلوك اقتصادي خارج معايير أخلاقية. وبالتالي لا يمكن فصل الدين عن العلم خصوصا العلوم الاجتماعية التي تركز على سلوك الإنسان، كما لا يمكن فصل الدين عن الدولة في بعض العبادات (تطبيق الزكاة مثلا) وفي كل المعاملات.

والنظام الاقتصادي الإسلامي جزء لا يتجزأ من النظام الاجتماعي الإسلامي الذي يحدد المعايير الأساسية لسلوك الإنسان ظاهرا وباطنا، تاركا له صلاحية ابتكار المناهج والطرق الكفيلة بتحقيق رفاهيته المادية وراحته النفسية. وهذا الجزء يحمل بالتحديد مبادئ وقيم تنظم علاقة الفرد وعلاقة المجتمع بالمال؛ أي تحدد قواعد سلوك المجتمع المسلم مع المال.

وقيم الاقتصاد الإسلامي جزء من القيم الاجتماعية؛ بحيث لا يمكن أن تتعارض القيم الاقتصادية مع القيم الاجتماعية الإسلامية انطلاقا من وحدة السلوك الإنساني من جهة، ووحدة السلوك المجتمعي من جهة ثانية كشرط لتحقيق الاستخلاف في الأرض و بناء الأمة.

والاقتصاد الإسلامي، تبعا لذلك، لا يبحث في ماهية المعايير؛ لأنها محددة مسبقا، بالقرآن والسنة، وهو من هذا المنطلق ليس اقتصادا معياريا من حيث بحثه على إنتاج المرجعيات والمعايير الصالحة للمعاملات الاقتصادية والمالية، كما هو الأمر في المدارس الاقتصادية الغربية، إلا ما تعلق بتقييم شرعية هذه المعاملات وقياس درجة هذه الشرعية.

 ومقاصد الشريعة الخمسة واضحة: (حماية الدين والنفس والعقل والنسل والمال). وحيث أن مقاصد الشريعة مرتبطة بعضها ببعض، نجد أن الاقتصاد الإسلامي جاء بقصد حماية كرامة الإنسان من خلال حماية المال، وتحقيق العمران في الأرض في إطار استخلافه في الأرض.

 فالاقتصاد الإسلامي يعد في واقع الأمر اقتصادا إيجابيا يبحث في المناهج والآليات والمؤسسات الاقتصادية والمالية الكفيلة بتحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية في إطار الشرعية الإسلامية.

 إن المفاهيم الاقتصادية الإسلامية، في حد ذاتها، تختلف عن المفاهيم المتعارف عليها في الاقتصاد الوضعي؛ فالمصطلح الاقتصادي الإسلامي يحمل، في أغلب الأحيان، حمولة أخلاقية.. فالاستثمار يعني حقيقة الاستثمار الشرعي، والادخار يعني الادخار الشرعي، والاستهلاك يعني الاستهلاك الحلال، حتى أن كلمة حلال دخلت الخطاب التجاري في الأسواق الغربية كمعيار أخلاقي،  بينما المصطلح الاقتصادي نفسه في المفهوم الوضعي لا يتجاوز الحمولة التقنية أو القانونية.

والإسلام يتميز، وفقا لذلك، عن الشرائع المسيحية واليهودية والديانات الكبرى البوذية والهندوسية، التي تركز كلها على الجانب الأخلاقي في بعده الفردي، بمنظومة اقتصادية أخلاقية، فردية وجماعية متكاملة. وهي مفصلة فيما يخص المعايير التي تحكم المعاملات الاقتصادية والمالية، سواء تعلق الأمر بنظام الملكية  أو بنظام الإنتاج أو بنظام التوزيع، لذا لا نجد الحديث عن اقتصاد مسيحي أو يهودي أو بودي أو هندوسي في أدبياتهم.

 ويغلب على هذه المعايير الطابع التربوي الأخلاقي المباشر أو غير مباشر. وتحدد في كل واحد منها خصائص المعاملات المحرمة أو المفروضة أو المستحبة. وتحدد، كذلك، درجة الثواب أو العقاب بحسب المعايير الإلهية الملزمة.

وبناء الإنسان المسلم ينطلق من عنصرين متكاملين: الفطرة وهي خصائص الإنسان الأخلاقية الطبيعية، والتربية الإسلامية وهي القيم الإسلامية التي تحملها الشريعة. والاقتصاد كسلوك اجتماعي لا يخرج عن هذه القاعدة الثنائية المبنية على تكامل الفطرة والتربية.

ثانيا: الأخلاق في الاقتصاد الإسلامي تنطلق من فطرة الإنسان

تحمل فطرة الإنسان في آن واحد خصائص محمودة وخصائص مذمومة، وبذلك تخضع النفس البشرية للامتحان الدنيوي. وهناك عدة آيات تشهد على طبيعة الجشع لدى الإنسان وخوفه من الفقر ونزوعه نحو الإيمان، وهي خصائص بشرية متناقضة. يقول الباري، عز وجل، في الإقرار بتمسك الإنسان بالدنيا: ﴿المال والبنون زينة الحياة الدنيا﴾ (الكهف: 45).

ويقول، الله تعالي، محذرا: ﴿زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطر المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والاَنعام والحرث﴾ (ءال عمران: 14)؛ ﴿اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الاَموال والاَولاد﴾ (الحديد: 20).

ـ ﴿يأيها الذين ءامنوا لا تلهكم أموالكم وأولادكم عن ذكر الله﴾ (المنافقون: 9).

ولذا يوصي الله، عز وجل، الإنسان بالتصدق بما يحب. قال تعالى: ﴿وءاتي المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين﴾ (البقرة: 176).

ويقول، عز وجل، في خوف الإنسان من الفقر: ﴿لقد خلقنا الاِنسان في كبد﴾ (البلد: 4)؛ أي في شدة وطلب معيشة. ويقول كذلك ﴿إن الاِنسان خلق هلوعا. اِذا مسه الشر جزوعا. وإن مسه الخير منوعا﴾ (المعارج: 19-21). وقال تعالى للخائفين من الفقر: ﴿وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء﴾ (التوبة: 28).

 ولكن فطرة الإنسان لا تقف عند حب المال أو الخوف من الفقر، ولكنها كذلك تتميز بحب الإيمان وعمل الخير، في قوله تعالى ﴿ولكن الله حبب إليكم الاِيمان وزيّنه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان، أولئك هم الراشدون. فضلا من الله﴾ (الحجرات: 7-8).

كما تتميز أحيانا بإيثار الغير على النفس في قوله تعالى: ﴿ويوثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة﴾ (الحشر: 9).

أما بالنسبة للتربية الأخلاقية الإسلامية فيمكن تصنيفها إلى ثلاثة أقسام: 1. الأخلاق الموصى بها شرعا، 2. الأخلاق المنهي عنها، 3. الأخلاق المستحبة.

1. الأخلاق الموصى بها  شرعا

أ. في الإنفاق

الالتزام بالأمانات والعهود

قال تعالى:

ـ ﴿فإن اَمن بعضكم بعضا فليود الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه..﴾ (البقرة: 282).

ـ ﴿اِن الله بامركم أن تودوا الاَمانات إلى أهلها﴾ (النساء: 57).

ـ ﴿ولا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون﴾ (الأنفال: 27).

ـ ﴿والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون﴾ (المومنون: 8؛ المعارج: 32).

ـ ﴿وأوفوا بالعهد، إن العهد كان مسئولا﴾ (الإسراء: 34).

ـ ﴿وأوفوا الكيل والميزان بالقسط﴾ (الأنعام: 153).

ـ ﴿فأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم﴾ (الأعراف: 84).

   الالتزام بنفقات التكافل الأسري والاجتماعي

ـ النفقة على الوالدين

قال تعالى:

ـ ﴿يسئلونك ماذا ينفقون، قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والاَقربين﴾ (البقرة: 213).

ـ ﴿إن ترك خيرا، الوصية للوالدين﴾ (البقرة: 179).

ـ النفقة على المولود عند الطلاق

ٍ قال تعالى: ﴿وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف﴾ (البقرة: 231)؛ أي النفقة على المطلقة إن أرضعت ولدها أو المرأة التي أرضعته.

ـ النفقة على ذوي القربى

قال تعالى: ﴿ولا ياتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يوتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله﴾ (النور: 22)؛ أي لا تتوانوا عن صلة قرابتكم المساكين والمهاجرين، وهذا في غاية الترفق والعطف على صلة الرحم.

ـ النفقة على أولى القربى في الإرث و المحتاجين

قال تعالى: ﴿وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه﴾ (النساء: 8).

ـ النفقة على السفهاء حماية لأموالهم

قال تعالى: ﴿ولا توتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيما، وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا﴾ (النساء: 5).

في التكافل الأسري والاجتماعي نجد الحث على صيانة كرامة الأسرة وكرامة المجتمع، وإذكاء روح الانتماء للجماعة، وإبعاد الشعور بالغيرة والحسد، وتغذية روابط الحب مع الآخرين والتعاطف معهم والتحسيس بثقل أمانة المال.

ـ فداء الأسرى 

قال تعالى: ﴿وإن ياتوكم أسارى تفادوهم﴾ (البقرة: 85).

وهذه من أخلاق الإسلام في الحرب التي لها بعد مالي. وهي اعتراف للأمة بتضحيات المحارب، وتعبيرا لوفاء الأمة لأسرى الحرب.

ـ البر والإحسان

هناك آيات عديدة تعرف بالبر والإحسان وتحث عليه،  كقوله عز وجل:

ـ ﴿مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة اَنبتت سبع سنابل، في كلّ سنبلة مائة حبّة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم﴾ (البقرة: 260).

ـ ﴿يوم لا ينفع مال ولا بنون. إلا من اَتى الله بقلب سليم﴾ (الشعراء: 88-89).

ـ ﴿خذ من اَموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصلّ عليهم إن صلواتك سكن لهم، والله سميع عليم﴾ (التوبة: 104).

ـ ﴿ولكن البر من ـامن بالله واليوم الاَخر والملائكة والكتاب والنبيئين وءاتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل﴾ (البقرة: 176).

ـ ﴿ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم، أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس﴾ (البقرة: 222).

ـ ﴿وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل﴾ (النساء: 36).

البر والإحسان من الأخلاق النبيلة التي يحث القرآن الكريم على التحلي بها وقد ربطها الباري، عز وجل، مرارا بإنفاق المال في أبواب الخير، وفي الأقربين. ووعد بالأجر المضاعف عليها. وفرض جزءا منها وترك الباقي تطوعا رأفة بالمتصدق وامتحانا لقدرته على شراء آخرته بما رزقه الله في دنياه.

ـ إمهال المعسر

قال تعالى: ﴿وإن كان ذو عسرة فنظرة اِلى ميسرة﴾ (البقرة: 279). وهنا يبرز خلق الرأفة والحلم بمن يجد نفسه في ضائقة مالية. فقد حرم الإسلام أداء أي تعويض مقابل التأخر في أداء الدين. وهي قيمة أساسية في التعامل المالي الإسلامي قلما وقع التركيز عليها من طرف الباحثين. وهذا يدل على أن الأصل في المعاملة هو الثقة. والأصل في الثقة هو المسؤولية الذاتية قبل أن تكون مسئولية القانون. ومن تجاوزها يعتبر خائنا للأمانة وعقابه شديد.

ب. في العدل و المساواة

ـ العدل المقرون بالإحسان

قال تعالى: ﴿إن الله يامر بالعدل والاِحسان﴾ (النحل: 90).

ـ العدل في كتابة الحقوق والديون 

قال تعالى:

ـ ﴿وليكتب بينكم كاتب بالعدل﴾ (البقرة: 281).

ـ ﴿واشهدوا ذوي عدل منكم، وأقيموا الشهادة لله﴾ (الطلاق: 2).

ـ الطمأنينة في البيع من خلال الإشهاد

قال تعالى:

ـ ﴿وأشهدوا إذا تبايعتم﴾ (البقرة: 281).

ـ ﴿وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل﴾ (النساء: 57).

ـ العدل في صيانة الحقوق

قال تعالى: ﴿إن يكن غنيا اَو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا﴾ (النساء: 134).

ـ العدل في الكيل

قال تعالى:

 ـ ﴿وأوفوا الكيل والميزان بالقسط﴾ (الأنعام: 153).

 ـ ﴿فأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم﴾ (الأعراف: 84).

ج. في الاستهلاك

  • قال تعالى في استغلال نعم الله: ﴿كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله﴾ (البقرة: 171).
  • وقال تعالى في تحديد ما يسمح بأكله:

ـ ﴿فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا، واشكروا نعمت الله﴾ (النحل: 114).

ـ ﴿كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه﴾ (طه: 79).

ـ ﴿كلوا و اشربوا من رزق الله و لا تعثوا في الأرض مفسدين﴾ (البقرة: 60).

ـ ﴿يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا﴾ (المومنون: 52).

  • وقال تعالى في ما يتعلق بأضحية العيد:

ـ ﴿فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير﴾ (الحج: 26).

ـ ﴿فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر﴾ (الحج: 34).

وهنا الخطاب فيه دعوة صريحة للتصدق منها للفقراء والمساكين.

  • وقال تعالى في آداب الأكل:

ـ ﴿ليس عليكم جناح اَن تاكلوا جميعا اَو اَشتاتا﴾ (النور: 59).

ـ ﴿فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه﴾ (المائدة: 5).

ـ ﴿فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بئاياته مومنين. وما لكم ألاّ تاكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصّل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه﴾ (الأنعام: 119-120).

ـ ﴿ولا تاكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق﴾ (الأنعام: 122).

ـ ﴿ليس على الاَعمى حرج ولا على الاَعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على  أنفسكم أن تاكلوا من بيوتكم أو بيوت ءابائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم﴾ (النور: 59).

وهذه الآية تحمل معاني أخلاقية في غاية السمو، فعملية الأكل جماعة تعبير عميق على الشعور بالتآخي والتقارب والتشارك في نعم الله، ولا حرج فيها إذا شارك فيها من يشكو من عاهة أو مرض. كما لا حرج إن أكل الإنسان في بيت أقاربه أو أصدقائه في حالة غيابهم عن البيت إذا كان عن طيب خاطر منهم، كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “إنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه[1][2].”

وبشكل عام، فإن هاته الآيات تحدد شروط الاستهلاك وآدابه. فالمسلم يتعين عليه أن يأكل ما هو طيب وما كسب بالحلال، وأن يذكر اسم الله في الذبائح وقبل الأكل، وأن يشكر الله على نعمته، وأن لا يأكل المحرمات إلا في حالة الضرورة، وأن لا يطغى بما حباه الله من نعم وأن لا ينسى إطعام الفقراء، وأن ينأى عن الشعور بالحرج في الأكل مع من وضعه الصحي غير سليم.

د. الأخلاق المعبرة عن قوة النفس

ـ الصبر في البأساء

قال تعالى: ﴿ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص في الاَموال والاَنفس والثمرات، وبشر الصابرين﴾ (البقرة: 154).

﴿والصابرين في البأساء والضراء﴾ (البقرة: 176).

قال ابن مسعود: “البأساء الفقر والضراء السقم[3]“.

هذه الآيات تعبر في الوقت نفسه عن قانون الابتلاء الذي سنّه الله للإنسان لامتحانه، وترويض النفس على الصبر وتقويتها لإعلاء قوة النفس وسموها إزاء المال.

ـ التعفف

قال تعالى: ﴿يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف﴾ (البقرة: 272).

الصبر والعفة من أخلاقيات قوة النفس لدى المسلم.

2. الأخلاق المنهى عنها

أ.  في الإنفاق

ـ   أكل ما هو حرام

قال تعالى: ﴿حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع﴾ (المائدة: 4).

وفي سياق هذا التحريم، الذي يعد بمثابة عقد أخلاقي بين الإنسان وربه، تواصل روحي دائم بين الإنسان وخالقه، واستحالة فرض رقابة كاملة خارجية على سلوك الإنسان، واستكانته لرقابته الذاتية لوجود واستمرارية هذا التواصل.

ـ حب المال وكراهية إنفاقه

قال تعالى:

 ـ ﴿قل لو اَنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الاِنفاق وكان الاِنسان قتورا﴾ (الاِسراء: 100).

ـ ﴿ولا يحسبن الذين يبخلون بما ءاتاهم الله من فضله هو خيرا لهم، بل هو شر لهم، سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة﴾ (ءال عمران: 180).

ـ ﴿وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا ياتون الصلاة إلاّ وهم كسالى ولا ينفقون إلاّ وهم كارهون﴾ (التوبة: 54).

ـ ﴿ومن الاَعراب من يتخذ ما ينفق مغرما و يتربص بكم الدوائر﴾ (التوبة: 99).

ـ الإنفاق والنفاق

قال تعالى: ﴿هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا﴾ (المنافقون: 7).

ـ الاستغناء مع البخل أو الطغيان

قال تعالى:

ـ ﴿وأما من بخل واستغنى. وكذّب بالحسنى. فسنيسره للعسرى﴾ (اليل: 7-10)

ـ ﴿أما من استغنى. فأنت له تصدى. وما عليك ألاّ يزكى﴾ (عبس: 5-7).

ـ ﴿كلا إن الاِنسان ليطغى. أن رءاه استغنى﴾ (العلق: 6-7).

وفي هذا الخطاب القرآني إقرار بأن الاستغناء ابتلاء من الله وامتحان منه، قد تكون نتيجته غير الطبيعية إمساك عن الإنفاق وكراهية إنفاقه. بل هناك ربط بين البخل والاستغناء من جهة، وبين احتمال البعد عن الدين والطغيان من جهة أخرى.

ـ الاكتناز

قال تعالى: ﴿والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اَليم. يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون﴾ (التوبة: 34-35).

عندما تصل درجة حب المال وكراهية إنفاقه إلى مستوى الاكتناز يصبح الحرص على المال من الكبائر، ويدخل صاحبه إلى فئة الظالمين، ويصبح العقاب نار جهنم.

ـ الإسراف

قال تعالى:

ـ ﴿والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما﴾ (الفرقان: 67).

ـ ﴿وءاتو حقه يوم حصاده، ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين﴾ (الأنعام: 142).

ـ ﴿وكلوا واشربوا، ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين﴾ (الأعراف: 29).

الخطاب القرآني يميز بين الإنفاق الذي يحث عليه والإسراف الذي ينهى عنه. فإذا كان الله، عز و جل، هو الرازق فلا معنى أن يتصرف الإنسان بتهور فيما لا يملك إلا منفعته لا مصدره، بحكم أنه مستخلف فيه فقط.

ـ حب إنفاق المال للتباهي به

﴿والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس﴾ (النساء: 38).

﴿كالذي ينفق ماله رئاء الناس﴾ (البقرة: 263).

ـ الخوف من الإملاق

الإملاق هو كثرة إنفاق المال، وتبذيره يورث الحاجة.

قال تعالى في خوف الإنسان من الإملاق: ﴿ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم﴾ (الاِسراء: 31).

ـ  أكل المال بالباطل

قال تعالى: ﴿وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل﴾ (النساء: 160).

كل هذه الآيات تحدد أخلاقيات التعامل بالمال في الإنفاق. فلا يحل أكل ما حرم أو ما كسب من الحرام. ولا يحل التمسك بالمال وكراهية إنفاقه. أو إنفاقه للتباهي به، ولا البخل بالمال أو الطغيان به، أو اكتناز المال، أو الإسراف في إنفاق المال وتبذيره.

 وقد ربط القرآن  بين الإنفاق وانحراف المسلم عن الدين في عدة آيات نذكر منها:

ـ الإنفاق والفسق

قال تعالى: ﴿قل اَنفقوا طوعا اَو كرها لن يتقبل منكم، إنكم كنتم قوما فاسقين﴾ (التوبة: 53).

ـ الإنفاق والكفر

قال تعالى: ﴿إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صِرٌّ اَصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته﴾ (ءال عمران: 116-117).

وقال تعالى: ﴿وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله﴾ (التوبة: 54).

ب. في الإنتاج

 وذلك عن طريق تحريم الربا. قال تعالى: ﴿وأحل الله البيع وحرم الربا﴾ (البقرة: 274).

وقد أجاب الإمام جعفر الصادق رجلا يسأل عن سبب تحريم الربا، بكلمة واحدة جامعة مانعة تحمل مضمونا أخلاقيا محضا، حيث قال رضي الله عنه: “لكي لا يتمانع الناس المعروف”؛ والتمانع معناه عدم التشارك في النتائج بين المتعاقدين. فإذا أقرض شخص آخر وحقق المدين ربحا كبيرا لن يتقاسمه معه، وإذا خسر لن يتقاسم الدائن معه الخسارة؛ بمعنى أن تحريم الربا ليس الأساس فيه أبعاده الاقتصادية، ولكن الأساس طبيعتها الأنانية المتعارضة مع هدف بناء الأمة وبالتالي ضمان خلق المصلحة المشتركة وتقاسم  النتائج.

ج. في المعاملات الأخرى

ـ الكذب في المعاملات عن طريق الأيمان

قال تعالى:

ـ ﴿إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الاَخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة﴾ (ءال عمران: 76).

ـ ﴿ولا تنقضوا الاَيمان بعد توكيدها﴾ (النحل: 91).

ـ ﴿ولا تطع كل حلاّف مهين﴾ (القلم: 10). وهو كثير الحلف بالباطل

  • ·     التخلف عن الجهاد

قال تعالى: ﴿إنما السبيل على الذين يستاذنوك وهم أغنياء، رضوا بأن يكونوا مع الخوالف﴾ (التوبة: 94). يعني يطلبون التخلف عن الجهاد.

  • ·     البطر

دهش يعتري الإنسان من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها وصرفها في غير وجهها (الأصفهاني 50)[4]. وقيل كذلك التبختر بعد حصول النعمة.

قال تعالى:

ـ ﴿وكم اَهلكنا من قرية بطرت معيشتها﴾ (القصص: 58).

ـ ﴿ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا﴾ (الأنفال: 48).

  • ·        البغي

البغي طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتحرى وقد يعني التعدي بالقوة.

قال تعالى:

ـ ﴿يأيها الناس

 إنما بغيكم على أنفسكم، متاع الحياة الدنيا، ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون﴾ (يونس: 23).

ـ ﴿ينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي﴾ (النحل: 90).

ـ ﴿ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الاَرض﴾ (الشورى: 25).

ﻫ. الحسد

قال تعالى: ﴿اَم يحسدون الناس على ما ءاتاهم الله من فضله﴾ (النساء: 53).

وقال تعالى في النهي عن الإنفاق من الحرام: ﴿ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون﴾ (البقرة: 266).

3. الأخلاق المستحبة

أ. الابتغاء من فضل الله؛ أي الكسب مما قدره الله

قال تعالى: ﴿ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله﴾ (الإسراء: 66).

ب. شكر النعمة

قال تعالى:

ـ ﴿وإذ تأذّن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم﴾ (اِبراهيم: 9).

ـ ﴿كذلك نجزي من شكر﴾ (القمر: 35).

ـ ﴿ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون﴾ (النحل: 14).

ـ ﴿ولقد ـاتينا لقمان الحكمة أن أشكر لله، ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه﴾ (لقمان: 11).

ـ ﴿إن تكفروا فإن الله غني عنكم، ولا يرضى لعباده الكفر، وإن تشكروا يرضه لكم﴾ (الزمر: 8).

ج. الإكثار من عمل الخير والإسراع به

قال تعالى:

ـ ﴿من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا﴾ (البقرة: 243).

ـ ﴿إن المصدقين والمصدقات أقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم﴾ (الحديد: 18).

﴿ويسارعون في الخيرات﴾ (ءال عمران: 114).

د. الإنفاق من المستحب

قال تعالى: ﴿لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون﴾ (ءال عمران: 92).

  • ·     الاعتدال في الإنفاق

وهو أحد التفسيرات التي أعطيت للآية الكريمة: ﴿يسئلونك ماذا ينفقون، قل العفو﴾ (البقرة: 213).

  • ·     التوكل على الله في الرزق         

قال تعالى:

ـ ﴿وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه، وهو خير الرازقين﴾ (سبإ: 39).

ـ ﴿وما تنفقوا من شيء في سبيل الله  يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون﴾ (الأنفال: 61).

  • ·    الإنفاق من دون من ولا أذى

قال تعالى: ﴿الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ (البقرة: 261).

  • ·     القناعة بالتفاضل في الرزق

قال تعالى: ﴿والله فضّل بعضكم عن بعض في الرزق﴾ (النحل: 71).

  • ·     إخفاء الصدقات والأمر بها

قال تعالى:

ـ ﴿وإن تخفوها وتوتوها الفقراء فهو خير لكم﴾ (البقرة: 270).

ـ ﴿لا خير في كثير من نجواهم إلا من اَمر بصدقة اَو معروف اَو اِصلاح بين الناس﴾ (النساء: 113).

وهكذا نجد أن على قمة الأخلاق المستحبة الابتغاء من فضل الله، وشكر النعمة والإكثار من عمل الخير والإسراع به، وأسمى السلوك في مجال الإنفاق الاعتدال فيه، والإنفاق من المستحب، والقناعة بأن كل إنفاق في الخير يوفى للإنسان فيه، والإنفاق من دون منّ ولا أذى، والقناعة بالنصيب في الرزق، وإخفاء الصدقات والأمر بها.

وهكذا نخلص إلى أن الأخلاق في الاقتصاد الإسلامي منظومة متكاملة لسلوك الإنسان مع المال، تعفيه من الوجهة العملية من البحث عن المعايير الأخلاقية ليضع تركيزه على المناهج التطبيقية لضمان توفير هذه المعايير. ومقاصد الشريعة الخمسة تضع الأركان الأساسية لتحقيق المعايير الأخلاقية الصالحة لكل زمان ومكان؛ هذه المقاصد تضع المال في خدمة الإنسان عوض أن تضع الإنسان في خدمة المال كما يظهر في النظام الليبرالي الغربي، وتضع المال في تآلف مع الإنسان عوض أن تضعه في صراع مع الإنسان كما هو الشأن في النظام الاشتراكي.

الهوامش


[1]. (رواه أحمد) الماوردي 3/143.

[2]. محي الدين عطيه، “الكشاف الاقتصادي لآيات القرآن الكريم” المعهد العالي للفكر الإسلامي، هيرندن، فرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية، ص71.

[3]. الماوردي، 1/189.

[4]. انظر: “الكشاف الاقتصادي لآيات القرآن الكريم”، م، س، ص142.

Science

الدكتور عمر الكتاني

• رئيس الجمعية المغربية للدراسات والبحوث في الاقتصاد الإسلامي.
• دكتوراه الدولة في الاقتصاد من جامعة السربون 1982.
• دبلوم الدراسات العليا في إدارة المقاولات من جامعة باريس 1 سنة 1979.
• أستاذ التعليم العالي، كلية الحقوق ـ أكدال، جامعة محمد الخامس الرباط.
• خبير لدى البنك الإسلامي للتنمية
• أستاذ باحث في اقتصاد التنمية والاقتصاد الإسلامي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق