طارق العلمي
التصوف تجربة ذوقية وجدانية، وهو كغيره من العلوم له اصطلاحات ومفاهيم اختص بها في حقله المعرفي، تلك الاصطلاحات التي وسمها أهل الطريق-الصوفية- بالمقامات يتدرج فيها السالك، وبالأحوال تعتريه أثناء سيره في طريق الله عز وجل، وجعلها البعض الآخر- على رأسهم الجنيد رحمه الله تعالى- خصائص ومبادئ أقاموا عليها التصوف من حيث هو طريقة سلوكية قوامها التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل وملازمة الشريعة الإسلامية السمحة.
والصوفية على مر العصور عُرفوا بألفاظ وعبارات ميّزتهم عمّن سواهم، وانفردوا بها عن غيرهم "...فلكل علم أهله وأتباعه، والصوفية تكلموا في مواجيد القلوب ومواريث الأسرار، ووصفوا علومهم، واستنبطوا في ذلك إشارات لطيفة ومعان جليلة... والذي يريد أن يفهم هذه المسائل لا يرجع فيها إلى المحدثين والفقهاء، وإنما يرجع إلى عالم ممارس لهذه الأحوال مستبحث عن علومها ودقائقها".[1]
ولا يمكن إدراك هذه الدقائق بالعقل أو الاستدلال، إنما عن طريق الذوق والقلب والوجدان والممارسة التي تخول للسالك المريد لطريق الله عز وجل تذوقها، ومعرفة غوامض معانيها، والولوج إلى أسرارها، لأن التصوف في أصله تربية علمية وعملية للنفوس وعلاج لأمراض القلوب، وغرس للفضائل واقتلاع للرذائل، وقمع للشهوات وتدريب على الصبر والرضا والطاعات، وهو مجاهدة للنفس ومحاسبة لها، وحفظ للقلوب من الغفلة.
والتصوف أيضا معرفة لله عزوجل وتوحيد له وتوجه إليه سبحانه، وإقبال عليه وإعراض عما سواه، وعكوف على عبادته وطاعته، ووقوف عند حدوده، وتعبد بشريعته فهو"المظهر الداخلي الباطني للإسلام، فهو لبه ونواته وجوهره، لا يقوم إلا على المظهر الآخر للدين، وهو الشريعة الظاهرة التي هي بمثابة الشكل واللحاء، فهو روحانية الإسلام...".[2]
وروحانية الإسلام تلك شكلت المحور الذي أسس عليه الجنيد البغدادي تصوفه، بإقامته على خصائص ومميزات لا تخرج بحال عن مضمون الشريعة الإسلامية، من خلال أقواله ورسائله وأدعيته.
ورغم الإطار العام الذي تخضع له الطرق الصوفية من خلال مبادئ العلم والعمل بالأحكام الشرعية، واتخاذ النموذج والقدوة في التحقق بالكمالات الخلقية، فإن المدرسة الجنيدية قد تميزت بتوجهها الأخلاقي الداعي إلى الاهتمام بالجانب العملي والسلوكي، دون أن يغلب عليها الجنوح إلى إطلاق القول في حقائق المعرفة الصوفية، أو الالتفات إلى ما يحصل من الكرامات السنية، بل لقد عمل رجالات هذا المسلك على الخوض فيما يفيد تقرب المسلم، وما تقتضيه أحوال معاشه.
فكان الجنيد (المتوفى عام 297هـ) رحمه الله يرى مخاطبة الناس على قدر عقولهم، وأن الجواب يكون على قدر السائل لا على قدر المسائل، وكان يقول: "إن للعلم ثمنا فلا تعطوه حتى تأخذوا ثمنه، قيل له: وما ثمنه؟ قال: وضعه عند من يُحسن حمله ولا يضيعه". وقد بوب البخاري أحد أبواب صحيحه بهذا المعنى فقال: "باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا"،[3] ومنه قول علي رضي الله عنه: "حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يُكَذَّب الله ورسوله"،[4] وقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة".[5]
فكان منهج الإمام الجنيد في تعامله مع "الحقائق" إبعادها على من ليست له أهلية تقبلها، بل الإنكارعلى من يفشي ذلك، مثلما ورد في قوله مُؤنِّبا الإمام الشبلي على إشاعته هذه العلوم بين العوام: "نحن حبَّرنا هذا العلم تحبيرا ووضعناه في السراديب، فجئت أنت فأظهرته على رؤوس الملأ".[6]
سيراً على هذا النهج، وعَملاً بقاعدة سدّ الذرائع، فقد اختار المغاربة في ممارستهم للتصوف المنحى السني الأخلاقي، ورمزوا له بالإمام الجُنيد الذي عُرفت مدرسته بمدرسة السلوك والأخلاق في مقابل مدرسة الشطح والإغراق، هذه الأخيرة التي ركزت على البوح بما تُثمره المجاهدة من فتوحات وعلوم وهبية، في حين ركزت الأولى على تبليغ التجربة من خلال القيم ومكارم الأخلاق ، ومن تم ظلت غاية التصوف الأولى بالمغرب هي التحلي بالأخلاق المحمدية حرصا منهم على التسنن الأكمل، قولا وفعلا وحالا، بسيرة سيد المرسلين عليه أزكى الصلاة والتسليم... حتى قالوا: "التصوف خلق، فمن زاد عليك في الخُلق، فقد زاد عليك في الصفاء".[7]
ليس معنى هذا أن تلك المعاني المُصطلح عليها ب"الحقائق" يُمكن فصلها عن التجربة الصوفية، أو أنّ الصوفية المغاربة لم يكونوا في الذروة من المعرفة، بل على العكس من ذلك، إذ مِن شُفوف إدراكهم، ورُسوخِهم المعرفي الكبير أنْ غلب صَحْوُهُم على سُكرهم...، والنطق ب"الحقائق" يدل على عكس ذلك. وصوفية الأخلاق هي الطائفة المرموقة، إذ الشرف يستند إلى وراثة من وصفه الله بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم).[8]
فمنهجهم إذاً إنما هو النظر إلى جهة التعبد والاستغراق في مدارج الاقتداء والأخلاق، دون إطلاق القول في "الحقائق" إلا إذا كانت فيه منفعة عملية للسالك في سيره وتقربه، وإلى ذلك ذهب معظم صوفية المغرب في تعاملهم مع الأذواق وعدم إطلاق الحقائق.
فكان مِن آثار ذلك أنْ تميز "الخطاب الصوفي" بالمغرب بالبساطة والوضوح والبعد عن التعقيد، وغلب عليه جانب الممارسة أكثر من جانب التجريد والتنظير العلمي؛ حيث راعى صُلحاء المغرب في كتاباتهم جانب التبسيط، فجاءت كتاباتهم واضحة المعنى، سهلة الفهم والتناول، تُركِّز على ما تَحْتَهُ عمل أو ما كان باعثا على العمل، وهي أقرب ما تكون إلى كُتُب الوعظ والتذكير من حيث الأسلوب، مع عمق الخطاب ودقة الألفاظ واختصارها، مِن ذلك ما تجلى في سردِ أخبار الصالحين، وقصصهم وتوجيهاتهم لمُريديهم، وهو منهج جُنيْدي يُلخِّصُه قوله رحمه الله: "الحكايات جند من جنود الله تعالى يُقوِّي بها قلوب المريدين. قيل: فهل في ذلك شاهد؟ فقال رضي الله عنه: نعم قوله تعالى: (وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَك)[9]".[10]
ولقد ساهم المذهب المالكي في تشبع صوفية المغرب بتوجه أخلاقي أضفى على تصوفهم طابعا عمليا كان أكثر ارتياحا لعموم السالكين حيث إن البعد العملي الذي يتحلى به المذهب المالكي لم يكن ليقبل إلا المبادئ التي تنسجم طبيعته العملية البعيدة عن التجريدات الميتافيزيقية، وهو ما يبدوا واضحا في قول الإمام مالك "الكلام في الدين أكرهه... ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل"[11]
كما أن رجالات التصوف المغربي كانوا من أعلام الفقه والدراية، ومن ثمة فقد كانوا أقدر على تقريب معاني التصوف تحت غطاء ما يألفه الجمهور، وهو ما أشاد به العلامة علال الفاسي في بيان ميزة التصوف المغربي ب"أن معظم رجاله ودعاته من أهل العلم بأصول الدين وفروعه، ولذلك فهُم يعرفون كيف يُكيِّفون آراءهم، وقلّما تجدهم مصطدمين مع العلماء كما وقع في المشرق العربي.."[12]
وهو ما سبق أن أبرزه أبو نعيم في حليته عند ترجمته لشخصية الإمام الجنيد بقوله: "كان كلامه بالنصوص مربوطا، وبيانه بالأدلة مبسوطا. فاق أشكاله بالبيان الشافي، واعتناقه للمنهج الكافي، ولزومه للعمل الوافي".[13]
لذلك فإن الخطاب الصوفي يخضع في بنيته لتراتبية معرفية تتشكل وفق أحوال السالك بما يحقق له توجها تربويا وفق الضوابط الأخلاقية، كما تبرز قدرته على استيعاب فئات المجتمع على اختلاف طبقاته وتنوع توجهاته المعرفية. وهو ما طبع التصوف المغربي الذي كان مرآة عكست المبادئ الأخلاقية الذي وضع إطارها سيد الطائفة.
جاء عن الحافظ الفاسي واصفا والده أبو المحاسن: بأن "طريقته: كتمان الأسرار، والفرار من الدعوى بغاية الإمكان، إذا كوشف بحال أحد، أخبره به في طي أمر عادي أوحكاية منقولة أومسألة يفرضها ثم يذكر حكمها، وكذا إذا أراد أن يُعلم أحداً بأمر، حتى لايتفطّن له إلا من له استعداد لذلك".[14]
كل ذلك يدخل في حِكمة المُربِّي في الأخذ بمجامع الاستعداد التي يستنبطها المريد، فيُنمِّي ذلك حتى يغلب على جوانب النقص التي يعاني منها، بشكل لا يُوقِعه في اليأس والقنوط، بل يتجاوز ذلك إلى أن يكون النقص داعيا إلى الاستشراف نحو تخليص الأعمال وتقويم السلوكات والاجتهاد بمزيد من الطاعات.
وعلى كُلٍّ فإن أعلام التصوف المغربي كانوا يثوقون إلى إشاعة مبادئ التصوف على أوسع نطاق، من غير أن يضيقوا من مجال تداوله كما هو الشأن بالنسبة للتصوف المشرقي الذي ظل حبيس النخبة، بل إن التصوف المغربي ظلت معانيه مُيسّرة لكل من أراد أن يتذوق معاني الإحسان.
فكل معنى من معانيهم إلا وتتنـزل حسب مايناسب المريد في سلوكه، بحكم السياق الذي تخضع له عملية التلقي من الشيخ إلى المريد، وهو سياق تربوي من شأنه توجيه السلوكات إلى مايستقيم مع إرادة الشارع.
ومن المظاهر التي يتميز بها التصوف الجنيدي هو عدم الالتفات إلى الكرامات، واعتبارها من أسباب الاستدراج التي قد تعود على السالك بالتوقف في سيره إذا ما تعلق بها واستكان إليها.
فكان رجال التربية لا يُظهِرون الكرامات إلا حينما تدعو الحاجة إلى ذلك، أي أن يكون في إظهارها فائدة تربوية، من شأنها أن ترفع مواطن الشك التي قد تعتري المُتشكِّك في أمر التصوف، أو في أحد مبادئه الأساسية، وإلا فإن الظهور بوجه عادي يبقى هو ديدن أهل الولاية في غالب أحوالهم.
ومما يُظهِر هذا المعنى التربوي للكرامات، ما رواه الإمام الجنيد عن أبي حفص النيسابوري حينما عارضه هذا الأخير أحد تلامذته، بكونه لا تظهر على يديه أية كرامة، بخلاف من كان قبله الذين أُيِّدوا بهذه الخوارق، فكان من أمر الشيخ أبي حفص النيسابوري "أن عمد إلى كور عظيم محميٍّ، فيه حديدة عظيمة، فأدخل يده في الكور فأخذ الحديدة المحمّاة، فبردت في يده، فقال له: يجزيك هذا. فسئل بعضهم عن معنى إظهار ذلك من نفسه، فقال الجنيد: كان مُشرفاً على حاله، فخشي على حاله أن يتغير عليه إن لم يُظهر ذلك له، فخصّه بذلك شفقة عليه، وصيانة لحاله، وزيادة لإيمانه".[15]
فيظهر أن لجوء الشيخ إلى إظهار الكرامة لم يكن عن رغبة ذاتية، ولانزعة نفسية، وإنما دعا إلى ذلك أمر توجيهي، يتمثل في زرع الثقة التي ينبغي أن تسود بين المريد وشيخه، وهي الأساس في سلوك طريق القوم.
ولقد استثمر صوفية المغرب هذا المبدأ، حيث أدخلوا الكرامات في باب الرخص، فلا ينبغي إظهار شيء منها، إلا حينما يُضطر إلى ذلك، حيث يقول الإمام الشاطبي بعد ما ذكر مذهب القوم من عدم التفاتهم إلى لكرامات بقوله: " وهذا كله يدلك على ما تقدم من كونها في حكم الرخصة، لا في حكم العزيمة".[16]
ويضيف قائلا: " بل كان منهم من استعاذ منها ومن طلبها، والتشوف إليها، كما يُحكى عن أبي يزيد البسطامي. ومنهم من استوت عنده مع غيرها من العادات، من حيث شاهد خروج الجميع من تحت يد المنّة، وواردة من جهة مجرد الإنعام. فالعادة في نظر هؤلاء خوارق للعادات. فكيف يتشوف إلى خارقة ؟ ومن بين يديه ومن خلفه، ومن فوقه، ومن تحته مثلُها. مع أن ما لديه منها أتم في تحقيق العبودية كما مرّ في الشواهد. وعدُّوا من ركن إليها مستدرجاً، من حيث كانت ابتلاءً لا من جهة كونها آية أونعمة".[17]
وذلك أن الراسخين في مقامات القرب، قد تجردوا عن حظوظهم، فليس لهم قصد إلا طلب وجه الله تعالى، لذلك كان "للولي أن يقصد إظهار الكرامة الخارقة لمعنى شرعي مبرإ من طلبه لحظ نفسه ... وعلى هذا المعنى ظهرت كرامات الأولياء الراقين عن الأحوال، حسبما دلّ عليه الاستقراء".[18]
ومن ثمة فإن التوجه العام الذي اتخذه صوفية المغرب، أنهم عملوا على الظهور بمظهر لا يخرج عما يألفه الجمهور، وذلك نابع من خصوصية المسلك الجنيدي، الذي يعتبر مجال الكرامة من المسائل التي لا ينبني عليها ادعاء الرسوخ في المعرفة الربانية، بل يمكن أن يظهر الله تعالى الكرامة على من لم يستقم حاله، فيكون ذلك امتحانا له ولغيره، لذلك اعتبر الراسخون من الصوفية، بأن أعظم كرامة أن يكون العبد على استقامة.
فالتصوف المغربي يعطي لجانب السلوك أهمية كبرى باعتباره قوام الرقي في مدارج الكمال المحمدي، ولا يمكن ادعاء الوصول إلى مقامات القرب إلا بانغماس المريد بالعمل على جهة التعبد، رغم ما يحصل لديه من معان ذوقية وفتوحات وهبية، التي ينبغي يتعامل معها السالك بحكمة وفق الآداب التي حددها أهل الرسوخ المعرفي.
وبالنظر إلى المصادر التي أرّخت للمئات من رجالاتِ التصوف بالمغرب منذ بدايةِ القرن الخامس الهجري وما بعده، نجدها تنحو وتؤكد هذا المسلك الجنيدي الذي اتخذه أهل الولاية بالمغرب، منها:
- كتاب: "المستفاد في مناقب العباد بفاس وما يليها من البلاد"، للتميمي (ألّفه قبل عام 572 هـ)، وهو في التعريف بصلحاء فاس.
- كتاب: "التشوف إلى رجال التصوف"، لابن الزيات (ألّفه عام 617 هـ)، وهو في التعريف بصلحاء الجنوب خصوصا مراكش وأغمات وما جاورهما.
- كتاب: "المقصد الشريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف"، للبادسي، وقد أرَّخ فيه لرجالات التصوف بالريف من الفترة الممتدة ما بين منتصف القرن السادس الهجري إلى أوائل الثامن الهجري.
- كتاب: "دوحة الناشر بمحاسن من كان بالمغرب من مشايخ القرن العاشر"، لابن عسكر الشفشاوني.
- كتاب: "نشر المثاني لأهل القرن الحادي عشر والثاني"، لمحمد بن الطيب القادري.
- وكتب الأسانيدِ، مثل: "تحفة أهل الصديقية بأسانيد الطريقة الجزولية الشاذلية"، و"الترجمان المعرب عن أشهر فروع الشاذلية بالمغرب"، لعبد الحفيظ الفاسي، و"ممتع الأسماع في الجزولي والتباع وما لهما من الأتباع"، و "المعزى في مناقب أبي يعزى"، لأحمد التادلي الصومعي، و"أخبار أبي العباس السبتي"، لابن الزيات التادلي، و"المنهاج الواضح في تحقيق كرامات أبي محمد صالح"، لأبي العباس الماجري، و "مرآة المحاسن من أخبار الشيخ أبي المحاسن"، لمحمد العربي الفاسي...
فالناظر في هذه المؤلفات وفي كثرتها يُدرك من جهة، أن المغرب كان وما يزال بلد التصوف والأولياء بامتياز، كما يدرك من خلالها ما ميّز ويُميِّز هؤلاء الأعلام ذوي المنحى الأخلاقي والذوق الإسلامي الصادق بعيدا عن الشطحات الإشراقية والحقائق المبهمة؛ فمن ذلك:
• ما صرّح به ابن الزيات في أوائل القرن السابع الهجري (617 هـ) في مقدمة كتابه، أنه جرّده من "الحقائق"، وأنه خبر رجالات الصلاح والولاية في عصره، ومن قبلهم، وأكد تمسكهم "بالسنة والجماعة، وطهارتهم من البدع والإحداث في الدين، والاقتفاء لآثار من مضى من السلف الصالح..".[19]
• وأبرز ابن قنفذ (740-810هـ(، الذي جال بالمغرب في منتصف القرن الثامن، هذه الخصوصية المغربية في منظومته التي يُؤكد فيها تشبت التصوف المغربي بأخلاق القرآن والسنة والإجماع، فقال:
فاطلُبه في القرآن أو في سُنّةٍ
واعضُدهُ بالإجماع واترُك تاليه[20]
• وقعّد الشيخ زروق الفاسي (846-899هـ) جُملة من قواعد التصوف، بناها على المنحى الجُنيدي وفي ارتباط وثيق مع النصوص الشرعية، وقد عبّر عنه تصريحا في مواطن عدة من كتابه، مثلما نجد في القاعدة السابعة عشرة مثلا.[21]
• وعبّر الفقيه المغربي ابن عاشر (990-1040هـ) في منظومته المشهورة بالمرشد المعين عن هذه الخصوصية المغربية بقوله:
"في عقد الأشعري وفقه مالك *** وفي طريقة الجنيد السالك".[22]
• وتعتبر "البردة" و"الهمزية" للإمام البوصيري المغربي (608-696هـ)، وكذا "دلائل الخيرات" للإمام الجزولي (807-870هـ)، و"الدعاء الناصري" للشيخ والفقيه سيدي ابن ناصر الدرعي (1011-1085هـ)، و"الشفا" للقاضي والمحدث عياض اليحصبي (476-544هـ)، وغيرها من تآليف صوفية المغرب أكبر شاهد على التزام المغاربة بالمسلك السني الأخلاقي للتصوف.
هكذا استمرت هذه الخصوصية الجنيدية المبنية على الأخلاق وعلى الاعتصام بالكتاب والسنة عبر تاريخ المغرب حتى سارت واقعا مُتأصلا.
كما حظي التصوف المغربي بوافر التقدير من طرف علماء الأمة سلفا وخلفا، وعلى رأسهم علماء أقدم جامعة في التاريخ "جامعة القرويين" الذين وضعوا التصوف ثابتا من ثوابت الهوية الدينية المغربية.
وتميزت الممارسة الصوفية بالمغرب بالفعل الاجتماعي النافع والمندمج، بعيدا عن الدروشة والانزواء، ودحضا لتقسيم الناس إلى خاصة يصلح لهم أمر التصوف وعامة لا يصلح لهم، فلا تقصي أحدا إلا من أراد أن يقصي نفسه من دائرتها؛ فعامة المسلمين يجمعون بين الضروري من علوم الدين وبين الممارسة الصوفية في توافق وانسجام، وذلك عملا بقول إمام دار الهجرة: "من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق، ومن جمع بينهما فقد تحقق".[23]
وتميز التصوف في تاريخ المغرب في علاقتة بالمجتمع بالفاعلية والحركية، وأخذ ذلك أشكالا متعددة، خصوصا بأدواره المباشرة في التربية والتوجيه، أو في تجلياته النافعة في كل مجالات الحياة المادية: اجتماعية كانت أو اقتصادية أو سياسية، بعد ما أضفى عليها لباسا أخلاقيا، أعطى لهذه المجالات بعدا تربويا.
إن هذه الاعتبارات وغيرها جعلت للمسلك الجنيدي أثرا في قلوب العامة والخاصة من أهل المغرب، إذ حظي التصوف بتوجهه الأخلاقي عبر التاريخ المغربي بتقدير من الملوك المتعاقبين على حكم المغرب إلى عصرنا الحاضر.
وهو ما تشير إليه خطابات جلالة الملك محمد السادس أيده الله في ذكر مزايا التصوف المغربي، يقول: "ولعل صوفية المغرب قد تميزوا عن سواهم بما غلب عليهم من نزعة اجتماعية وتربوية وخلقية، فقد اشتغلوا على الخصوص بتعليم القرآن الكريم ونشر تعاليمه، بأسلوب مبني على مخاطبة القلوب وتعميق رجائها في رحمة الله".[24] ويضيف جلالته قائلا: "والتصوف وإن كان مداره على التربية وترقية النفس في مدارج السلوك، فإنّ له تجليات على المجتمع، ومن هذه التجليات ما يظهر في أعمال التضامن والتكافل، وحب الخير للغير، والحلم والتسامح ومخاطبة الوجدان والقلوب، بما ينفعها ويقومها."[25]
هكذا قدّم التصوف المغربي عبر التاريخ دروسا في التضامن والوطنية عكست المسار السني الذي صار عليه صوفية المغرب على مر التاريخ؛ بما شكل لديهم أحد ثوابت هويتهم الأساسية، حيث ظل مرتبطا بمرجعيته السنية فكرا وممارسة.
[1] - مجدي إبراهيم: التصوف السني حال الفناء بين الجنيد والغزالي، مكتبة الثقافة الدينية، ص: 29 .
[2] - زكية زوانات: ابن مشيش: شيخ الشاذلي، ترجمة: أحمد التوفيق، د.ط، د.ت، ص:16.
[3] - أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري الجعفي(194- 256هـ): صحيح البخاري، دار الحديث، القاهرة، د.ط، 1425هـ/2004م، كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا.
[5]- مقدمة مسلم، ص: 17.
[6]- سعاد الحكيم: تاج العارفين، ص: 36.
[7]- القشيري: الرسالة القشيرية"، ص: 281.
[8]- القلم. آية 4.
[10]- سعاد الحكيم: تاج العارفين، ص: 110.
[11]- ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله، تحقيق ياسر سليمان أبو شادي، المكتبة التوفيقية، ص367.
[12]- علال الفاسي : التصوف الإسلامي في المغرب، إعداد: عبد الرحمن بن العربي الحريشي، مطبعة الرسالة، الرباط، د.ط، د.ت، ص: 21.
[13]- أبو نعيم : حلية الأولياء، 10/274.
[14] - أبو حامد الفاسي الفهري : مرآة المحاسن من أخبار الشيخ أبي المحاسن، دار ابن حزم، مركز التراث الثقافي المغربي، ص: 130.
[15]- سعاد الحكيم : تاج العارفين، ص: 196.
[16]- الشاطبي : الموافقات،1/268.
[17] - الشاطبي: الموافقات 1/267.
[18] - نفس المصدر: 1/264.
[19] - ابن الزيات: التشوف، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط ص: 14.
[20] - أبو العباس أحمد بن الحسين القسنطيني الشهير بابن قنفذ( 740- 810هـ): أنس الفقير وعز الحقير في التعريف بالشيخ أبي مدين وأصحابه رضي الله عنهم، تحقيق: أبو سهل نجاح عوض صيام، تقديم: علي جمعة، دار المقطم للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 1422هـ/2002م، ص: 44.
[21]- أبو العباس أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى زروق الفاسي البرنسي (ت 899هـ) : قواعد التصوف، تقديم وتحقيق: عبد المجيد خيالي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط3، 1428هـ/2007م، ص:28.
[22]- "الحبل المتين في نظم المرشد المعين"، ص: 6 (البيت 5)، الطبعة 1، دار الرشاد 1992م.
[23]- من " قواعد التصوف" للشيخ زروق، ص: 22، الطبعة 3، لبنان 2007م.
[24]- من نص الرسالة الملكية إلى المشاركين في الدورة الوطنية الأولى للقاء سيدي شيكر(2008م).
[25] - من نص الرسالة الملكية إلى المشاركين في الدورة الوطنية الأولى للقاء سيدي شيكر(2008م).