أَسرَارُ البيَان في القُرآن (42) البَيانُ في كَلمةِ (الْكُفَّار) في قولِهِ تعَالى: ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ﴾

وذَلكَ قولهُ تعالَى في سُورَة (الحَدِيد): ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ في الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَـرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً﴾، حَيْثُ تَستوقفُكَ كَلمةُ (الكُفَّار)، فَالسيَاق الّذي وَردَت فيهِ سِيَاقُ غَيثٍ وزَرعٍ وإنْباتٍ، في نُضجِهِ وانْحِطامِه. لكنَّ الحُمُولة العَهديَّةَ لِلَفْظةِ (الكُفَّار)، وتِلكَ الغَلبةُ الدَّلاليّة لِلِاسْتعمَال القُرآنيّ فيهَا، تَسبقُ إلى الذِّهْن، فَيَنْصَرِفُ الفِكْرُ فِيهَا بَدَاءَةً إلَى مَعنَى (الكُفْر باللهِ)، علَى المعنَى الّذي اسْتجَدّ لهُ في الاسْتعمَال القُرْآنيّ، كمَا هوَ الأمرُ عندَما تَقرأُ قولهُ تعَالى في سُورَة (التَّوبَة): ﴿وَعَدَ اللهُ الْـمُنَافِقِينَ والْـمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ﴾، أَو قولَه عزّ وجلَّ في سورَة (الْـمُطفِّفِين): ﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الكُفَّارِ يَضْحَكُونَ﴾. وكذَلكَ هوَ في آياتٍ عَديدَة، سَواءٌ جاءَ على الجَمع: (الكُفَّار، والكَافرُون، والكَفَرَة، والكَوَافِر)، أو علَى المفرَد: (كَافِر، وكَفَّار، وكَفُور).
فيكونُ فيهَا جَليّاً أنّ المقصُود بذلكَ هوَ (الكُفْر) ضدُّ (الإيمَان). وهوَ مَعْنى مُحْتمَلٌ في هَذهِ الآيَة. وذَكرهُ علَى هذَا الوجهِ منَ الفَهْم عَددٌ منَ المفَسّرين، بَلْ إنّ بعضهُم اقْتصَرُوا عَليهِ. ومنْ ذلكَ ما ذكَرهُ (ابنُ القَيّم) في كتابهِ (الجَامِع في أمْثَال القُرْآن)، حيثُ قالَ: «والصَّحيحُ إنْ شاءَ اللهُ أنَّ (الكُفّار) همُ (الكُفَّارُ باللهِ)، وذلكَ عُرفُ القُرآنِ، حيثُ ذُكِروا بهَذَا النَّعتِ في كُلّ مَوضعٍ... وإنَّما خَصّ (الكُفَّار ) بهِ لأنّهُم أشَدُّ إعجَاباً بالدُّنيَا، فإنَّهَا دَارُهُم الّتي لهَا يَعملُونَ ويَكدَحُونَ. فهُم أَشدُّ إعْجاباً بِزينَتِـها ومَا فيهَا، منَ الْـمُؤمنينَ».
وأنتَ واجدٌ أنّ كثيراً من عُلمَاء اللُّغةِ والْـمُفسرِينَ قدْ أَورَدُوا هذَا المعنَى وأَقرُّوهُ، لكنَّـهم أردَفُوه بمعنىً آخَر جَديرٍ بأَنْ يَستَوقفَ الْـمُتدبّر. فذَهَبُوا إلى أنّ (الكُفَّار) في هذهِ الآيَةِ مَعْنَاهَا (الزُّرَّاع)؛ لأنَّ الفَعْلَ (كَفَر) في أَصْلِ مَعْناه، يُفيدُ معْنَى: سَتَر وغَطَّى. وقدْ أطلَقَ العَربُ عَلَى (الزَّارِعِ) لفظَ (الكَافِرِ)، لأنهُ يَضَع البُذور في بَطنِ الأرْضِ، ثُمَّ يَسْتُرها ويُغَطّيها بالتُّراب. قالَ (ابنُ مَنظُور) في (لِسَان العَرَب): «كُلّ مَن سَتَرَ شَيْئاً فَقَدْ كَفَرَهُ وكَفَّرَهُ. والكَافِرُ : الزَّرَّاعُ، لِسَتْره البَذْر بالتّرَاب . والكُفَّار : الزُّرَّاع. وتقُولُ العَرَب للزَّرَّاعِ: كافِر، لأَنّهُ يَــكْفُر البَذْرَ الْـمَبْذُورَ بتُرَاب الأَرْضِ الْـمُثارَة، إِذَا أَمَرّ عَليْـها مالَقَهُ. ومِنهُ قولُهُ تعَالى : ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ﴾، أيْ أَعجَبَ الزُّرَّاعَ نَباتُه». وعلَى هذَا المعنَى أَوردَت المعاجِمُ أنَّ العَرَب سَمَّوا كلَّ سَاتِرٍ كَافِراً، فالبَحرُ كَافِر، والنَّـهرُ كافِر ، واللَّيلُ كافِر، لِـمَعنَى السّتْر والتَّغطيَة. قالَ (لَبيدُ بنُ رَبيعَة) عنِ الشَّمسِ وقَدْ هَوَت للْمَغِيب، وكأَنَّهَا تَمدُّ يدَهَا لتَلمَسَ ظَلامَ اللَّيلِ الـمُقبِل الَّذي سَيستُــرُها:
حتَّى إذا ألْقَتْ يَداً في كافِرٍ /// وأجَنَّ عَوراتِ الثُغورِ ظَلامُها
ومنْ جَميلِ ما أَبدعَهُ شاعِرٌ في التَّوريَةِ بهذِهِ اللَّفظَة، قولُ (البَـهَاء زُهَيْر-تــ:656هـ):
يَا لَيْلُ طُلْ يَا شَوْقُ دُمْ /// إِنّي عَلَى الْحَالَيْـنِ صَابِرْ
لِيَ فِيكَ أَجْرُ مُجَاهِدٍ /// إِنْ صَحَّ أَنَّ اللَّيْلَ كَافِرْ
ومنْ هُنا أَيْضاً تُدرك أنّ (الكَافِر بالله)، سُمّي ( كافِراً) لأنَّهُ يَسْتُر فِطرَةَ اللهِ الَّتي فَطرَهُ عليْـها، ويُغَطِّيها بأقْوَالٍ وأفعَالٍ واعْتقادَاتٍ بَاطلةٍ. وقدْ صارتْ هذهِ الصِّفَة في الاصْطِلاحِ الإسْلاميّ اسْماً يُطلَق علَى (غيْـر المؤْمِن)، إطْلاقاً مَخصوصاً، إذَا دَخَلَها التَّعريفُ: (الْكَافِر)، وَلا يُصارُ إلى المعَاني اللُّغويّةِ الأخْرَى، إلّا بقَرينةٍ حَاليّة أو مَقاليّة. وفي ذلكَ يقُولُ (أبُو القَاسِم الزَّجّاجيّ-تـــ:340هـ) في (كِتَاب اللَّامَات): «وكَذلكَ (الكَافِر)، أَصلهُ منَ (السّتْـر)، كلُّ مَنْ سَتَر شَيئاً فَقدْ كَفرَهُ. ثمَّ صارَ صفَةً تَقعُ مُعَرَّفةً بِــــ(الأَلِف واللّام) علَى مَنْ (خَالَف الإسْلَام)، فَلَا تَقُول لِـمَن سَتَر شَيئاً بِعينِهِ: ( قدْ جاءَ الْكَافِر ) أوْ (رَأيتُ الكَافِرَ )،حتَّى تَقرِنَهُ بمَا يُخرجُهُ منَ الإِشْكَال، فَتقولُ: ( قَدْ جاءَنَا الكافِرُ للثَّوْبِ) ومَا أشبهَ ذَلكَ».
وأنتَ إذا نَظرتَ في السّياقِ، لفَتَ نظرَك كلمَاتٌ يُرجَّحُ لِذِكرِها هذَا المعنَى، وذلكَ قولهُ: (كَمَثَل غَيثٍ – نَباتُهُ – يَهيجُ – مُصفرّاً – حُطاماً)، وهيَ ألفاظٌ تَنتَمي إلى حَقلٍ مُعجَميّ واحدٍ، يُشيرُ إلَى الزَّرعِ وَإنْبَات الأَرضِ. فكانتْ بذلكَ قَرَائِنَ مَقاليّةً علَى الذَّهابِ بمَعنَى (الكُفَّار) في الآيَة إلَى (الزُّرَّاع). وكانَ مِمَّن رَجَّحوا هَذا المعنَى، لأَجلِ تلكَ القَرائنِ، (أبُو القَاسِم الزَّجّاجي) حينَ وقفَ عندَ هذهِ الآيَة في (كِتَاب اللَّامَات)، في دَحضٍ بَيانِيّ لِـمَن أَلحدَ في كَلامِ اللهِ،جهلاً بغَير عِلْمٍ، فَقالَ، بَعدَ ذِكْر الآيَة: « يَعِني (الزُّرَّاع). فبَانَ ذَلكَ بِذِكْر الزَّرْعِ والنَّبَاتِ. ولذَلكَ تَعلَّقَ بهذهِ الآيَةِ بعْضُ أَغبِيَاءِ الْـمُلحِدِينَ، ممَّنْ لا عِلْمَ لَهُ بالعَرَبيّة، فَقالَ: وَكَيْفَ يُعْجِبُ الزَّرْعُ (الكُفَّارَ) دُونَ الْـمُؤمنينَ؟ وَذهَبَ عَليْهِ أنَّ الْـمَعنِـــيَّ بِهِمْ، هُم (الزُّرَّاع)، لأنَّهُم بهِ عندَ اسْتِحكامهِ وجَوْدتهِ، أَشدُّ فرَحاً منْ غَيرهِمْ، لِطُول مُعَاناتِـهِم لهُ وكَدِّهِم فيهِ وتَأمِيلِهم إيَّاهُ».
وتنظُرُ بافْتحَاصِ مُدَّكِرٍ، فتجدُ أنهُ قَد اجتَمعَت كَلمَتَا (الزُّرَّاع) و(الكُفَّار)، في قَولهِ تعَالى في سُورَة (الفَتْح): ﴿وَمَثَلُهُمْ في الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ليَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ﴾. فَجَاءتْ كُلٌّ مِنهُمَا علَى المعنَى الذَّي يَتبادَرُ إلَى الذَّهْنِ بَداءَةً؛ حَيثُ (الزُّرّاع) هنَا هُمُ الزَّارِعُون للأَرضِ، لأنَّ سِياقَ الآيةِ فيهِ تَشبيهٌ لأصحَابِ النَّبيّ، صلّى اللهُ عليهِ وسَلّم، بالزَّرْعِ الَّذي أَخرجَ شَطْأَهُ واسْتَوى، وذلكَ لتَكاثُرهِمْ و الازدِيَاد البَالغِ في عدَدهِمْ، معَ اكْتمالٍ في الإيمَانِ، وَصِدقٍ في العَقيدَة. أمَّا (الكُفَّار)، فهُم الكَافِرُونَ باللهِ عَلَى حَقِيقَةِ المَعْنى، لأنّ ازْدِيَادَ عَدَد الْـمُؤْمِنِينَ علَى الهَيئَةِ الّتي هُم عَليْـها، كَانَ يغِيظُهُم، وَيَمْلأُ صُدُورَهُم كَمَداً وغَمّاً.
ولعَلّكَ أنْ تَجدَ في اخْتيَار لفظِ (الكُفَّار) في آيَة سُورَة (الحَديدِ) لَطيفةً بَيانيّةً بَديعةً، ذلكَ أنَّ السيَاقَ سياقُ ذَمٍّ لهؤُلاءِ الّذينَ تَستَغوِيهِمُ الحَياةُ الدُّنيَا بِزينَتِـها ونَعْمَتِــها الظاهِرَةِ الزّائلَةِ، واخْضِرارهَا الذَّابلِ الْـمُصفَرّ. وهذَا المعنَى لا يَظهَرُ إذَا استُعمِل لفظُ (الزُّرّاع)،الَّذي بِذكرِهِ يَنصرفُ الذِّهْنُ إلى الْـمَثَل الْـمَضرُوب لِلْحيَاةِ الدُّنيَا، علَى الوَجهِ الَّذي جاءَ بهِ الْـمَثَل في سورَةِ (الكَهف)، في قولهِ تعَالَى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ﴾. في حِين تَجدُ أنَّ لَفظَ (الكُفَّار) قدِ اتَّسعَ بهِ المعنَى وَانْفسَحَت الدّلالَة، لِتَشمَلَ الَّذينَ ضُربَ بِهمُ الْـمَثَل، في إعْجَابهِم بالزَّرْع النَّابِت بعدَ الغَيْث، وهمُ (الزُّرَّاع)، لِرُؤيَتِــهِم ثَمرَةَ ما جَهِدُوا ومَا بَذَلُوا وكدُّوا. ولتَشمَل أيْضاً مِنْ طَرْفٍ خَفيٍّ، ومَلمَحٍ لَطيفِ الإشَارَة، بَيِّن العِبَارَة، قَريبِ المعنَى بِلَفظِهِ: (الكُفَّار)، عَميقِ الدَّلالَة، بَعيدِ الغَوْر، عندَ النَّظَر في الأَدْبَار، لاسْتخلاصِ مَثَلٍ خَفيٍّ مِنْ مَثَلٍ جَليٍّ، مَثَلِ إعجَابِ (الكُفَّار بِاللهِ) بالحَيَاة الدُّنيَا وَزينَتِـها، وتَعظيمِهِم لِـمَظاهِرهَا، وَافْتِتَانِـهم بمَحاسِنِـها، ثمَّ تَذهبُ نِعَمُ الدّنيَا إلَى زَوالٍ، وزِينَـتُـها إلَى اضْمِحلالٍ، كمَا هاجَ الزَّرعُ وَاصفرَّ، ثمَّ انْحَطَمَ.
وأمَّا آيةُ سُورةِ (الفَتْح)، فجاءَتْ في سِياقِ مَدْحٍ، زَكَّى رجالاً مُصْطَفَيْنَ مِن أَزَلٍ، لهُمْ مَثَلٌ في (التَّورَاة) ومَثَلٌ في (الْإنجِيلِ)، وذِكْرٌ جَليلٌ في القُرآنِ. فكانَ الْـمَثَل علَى وجهٍ واحدٍ، ذي مَحمَلٍ واحدٍ، لَفظاً ومَعنىً، فالزُّرَّاعُ همُ الزُّرّاعُ، والزَّرعُ هوَ الزَّرعُ في أَبْهى عُنْفُوانهِ، وأكْمَل مَا يَكونُ اسَتِواءً ونَضارَةً وبَهجَةً. فلا يَزالُ يُعجبُ النَّاظرَ على الدَّوَام، إعْجاباً يَتجدَّدُ، وكأنَّ الزَّمانَ قدْ تَوقّفَ عندَهُ، فلَا يَهيجُ ولَا يَصفرُّ ولَا يَنْحَطمُ. لذلكَ جاءَت اللَّفظتَان ثَابتَتينِ عَلى المعنَى اللُّغويّ الَّذي لهُمَا في أصْلِ الوَضْع، باقتِصارٍ عليْهِ، فَلا يُستَساغُ الاسْتِبدَال. فأنتَ تَستبْعِدُ أنْ تقُولَ: (يُعْجِبُ الكُفَّارَ ليَغيظَ بِهِمُ الكُفَّار)، أَو تَقولَ: (يُعْجِبُ الزُّرّاعَ ليَغيظَ بِهِمُ الزُّرَّاعَ).