مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةمفاهيم

أهل الحقائق عند الإمام الجنيد

دة. ربيعة سحنون

باحثة بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة

    بناء على طلب أحدهم من الإمام الجنيد رحمة الله عليه، تبيان من هم أهل الحقائق من أهل العلم، فكان جوابه كالآتي: “وأنا واصف لك –إن شاء الله تعالى- ما سألتَ عنه، من نعت أهل الحقائق من أهل العلم، والعاملين به، الصادقين في القصد إليه، المجتهدين في إقامة حقه، المريدين للعلم لما وجب عليهم منه، الذين لم تفتنهم فيما قصدوه أطماع الدنيا، ولم تمل بهم عن الأخذ بحقيق، ولم يستفزهم الغواة من الأعداء، ﴿أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون﴾. [سورة المجادلة. آية 22].

    اعلم أن أول ما أوتي المحققين من أهل العلم من العمل في أول الطلب، إصلاح النية، وصحة المراد، والموافقة فيه للنفوس فيما بدا من إرادة الطلب، فلم يبيحوا أقدامهم السعي، ولم يتحركوا في ذلك بالجوارح، إلا من بعد ما أحكم جميل النظر لهم بالانبساط فيه؛ فسعوا فيه على أصل ما أدبهم العلم به في أول الأمر، ومضوا على صحة الحال وشهادة العلم بذلك…

    لا يؤذون الناس، ولا يحقرونهم، ولا يغتابونهم، ولا يذمونهم، بل يشفقون عليهم إذا رأوا منهم الزلل، ويدعون لهم إذا بدا منهم الخلل، يعرفون المنكر وينكرونه ويتجنبونه، ويعرفون المعروف ويحبونه ويستعملونه، لا يزدرون المقصرين لكثرة وجوده…، ألسنتهم بحمد ربهم عند سماع العلم ناطقة، وقولهم إلى اعتقاد العمل به مبادرة، وآذانهم بحسن الإصغاء إليه سامعة، وأبدانهم بالخدمة لله تعالى ساعية. أحسنوا على جميل السيرة جمعه، وبالوفاء بفضل الله تعالى عليهم فهمه، ولم يزالوا بدوام السعي إليه، وشدة الإقبال عليه، وبكثرة اللزوم لمن العلم حاضر لديه، حتى أخذوا منه بالحظ الأوفر، والنصيب الأكبر. فلما بلغوا منه إلى ما به يستعينون، وغاية ما إليه يحتاجون، وبحقائقه في سائر الأوقات يعملون، رجعوا إلى تفتيش ما كتبوا، وإلى البحث عما منه طلبوا، فكان ذلك مانعا لهم من السعاية، جامعا لهم إلى الخلوة بالعبادة.

    ووقفت بالناس إليهم الحاجة، وعرف موضعهم بجميل الإرادة، وعرف أماكنهم من العلم، وشرفت أحوالهم من الفضل، وانبسط ذلك ونشأ، وظهر ذلك وبدا.

   فمن بين خال بعلمه، متشاغل عن الخليقة بعبادته، مؤثر للعمل فيما فتح الله تعالى له من ذلك حولا.

    ومن بين من حضرته في نشر العلم النية، وقويت له على تعليمه العزيمة، وسنحت له في ذلك رؤية الفضيلة، فانبسط في نشر العلم محتسبا، وكان في العمل لله تعالى بذلك مخلصا، يرغب إلى الله عز وجل في جميل الثواب، ويؤمل من الله تعالى جميل العائدة في المآب، مصحوبا في ذلك بمصادفة الصواب، إذا قال نطق بقوة العلم. وإذا سكت، سكت بوقار الحلم. وإذا قصد إلى البيان، قرّب منال الفهم. إذا كثروا عليه أحب نفعهم، وإذا تفرقوا عنه نصحهم. يؤدي إليهم ما حمل من العلم بلسان فصيح وبيان صحيح، بقلب نصوح وقول صادق، ولا يعجّل على من جهل، ولا يكافئ من زلّ وأخطأ، ولا يوافق بالمراءاة أحدا.

    يعفو عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويحسن إلى من أساء إليه، ويتجاوز عمن يتعدى عليه، ولا يريد على شيء من أعماله من الخلق أجرا، ولا يميل إلى مدحة ولا ثناء. يجتهد لله تعالى في إخلاص أعماله، ويريد وجهه بجميل أفعاله…، هو من أقوم الناس بالأحكام، وأعلمهم بالحلال والحرام، وأبصرهم بشرائع الإسلام. يقع على آثار المرسلين، ويتبع سنن الأنبياء والصالحين. لا يميل إلى بدعة، ولا يقصّر عن الأخذ بالسنة، بعلم بارع محكم قوي، وحال واضح بيّن مستوٍ. متوسط بجميع المذاهب، متحر لأقوم الآراء…

    أولئك الذين عمروا بالذكر لله تعالى أعمارهم، وقطعوا بالعمل الفاضل الزكي آجالهم، وبقوا بذلك للخليقة محمود آثارهم، ووضحت للبرية ضياء أنوارهم، فمن اقتبس من سنا نورهم استضاء، ومن قفّا على آثارهم اهتدى، ومن اتبع سير ما هم عليه سعد، ولم يشق.

    أحياهم الله تعالى حياة دائمة، ويتوفاهم وفاة سالمة. وأنسوا بما قدموا به إلى الآخرة، جعل الله خواتم أمورهم أفضلها، وأحوالهم التي قبضوا عليها أجملها…

    ويختم بقوله: وبعد، أيها السائل عن نعت المحققين، من العلماء العاملين بالعلم في مدة البقاء، فقد وصفتُ لك بعض أحوالهم، ونعتُّ لك كثيرا من جميع أفعالهم، ولو أردتُ بلوغ الاستقصاء لوصفهم، وذكر ما يستحقونه من نعتهم، لطال بذلك كتابي، واتسع به جوابي. وفيما أجرى الله تعالى ذكره من ذلك كفاية لمن اهتدى، وبلاغ لمن عمل بما هو أولى[1].  

الهوامش:


[1] تاج العارفين، الجنيد البغدادي، الأعمال الكاملة، دراسة وجمع وتحقيق: سعاد الحكيم، دار الشروق، القاهرة، مصر، ط3، 2007م، ص ص: 283-287.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق