مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

أفكارُ الكاتب على طَبَقٍ من لُغَةٍ

د.عبد الرحمن بودرع
ما من كاتبٍ إلاّ ويتقدّمُ إلى قارئه، أو يُقدّمُ نفْسَه إليه، على طَبَقٍ من لُغةٍ، فمَطيّتُه الألفاظُ والتَّراكيبُ والمَجازاتُ والاستعاراتُ، ولعلَّ السَّببَ في ذلِكَ أنّ رُتبةَ الوُجودِ التي يتمتّعُ بها اللّفظُ –في وَهْمِ المُتكلّمِ- أرْقى وأكثرُ واقعيّةً من رُتبةِ وُجودِ الشّيءِ، وأنّ «العالَم الإنسانيّ ليسَ عالَمَ إحساساتٍ ورُدودِ أفْعالٍ بَل هو عالَمُ أفكارٍ وتَحْديداتٍ لفظيّةٍ» (1)؛ وذلِك لأنّ الكلمةَ تخْلَعُ على الشيءِ ذاتيتَه ووُجودَه (2) ، وتُتيحُ للإنسانِ الانتقالَ من حالَةِ الاضْطرابِ والفَوْضى إلى حالةِ النّظامِ، وأن يتصرّفَ بالكلمةِ من بُعْد، وهو مُنفصلٌ عن عالَم الأشياءِ، يُقلِّبُ العالَمَ كيفَ يَشاءُ، فيُحَسِّنُ القَبيحَ باللّغةِ إذا أرادَ، أو يُقَبِّحُ الحَسَنَ، فرُبّ قُبْحٍ عندَ شخصٍ هو حُسنٌ عندَ غيْرِه، وقد يكونُ وهماً عندَ ثالثٍ. وباللُّغةِ أيضاً يُركِّبُ من القِطَعِ المُتَباعداتِ بناءً مُتّسقاً وعالَماً متحضّراً؛ إذْ يُحوّلُ التّجارِبَ والفِكَرَ والذّكْرى إلى عالَمٍ من المَقالاتِ، ومهمّةُ تلكَ المَقالاتِ والعباراتِ أنّها تؤلِّفُ بين الأشياءِ وتُركِّبُ وتُعدِّلُ وتُقدّمُ وتؤخِّرُ .
فالكلمَةُ قُوّةٌ نافذةٌ مؤثّرةٌ ومُغيّرةٌ قبْلَ أن تَكونَ مُجرّدَ تسميةٍ مَوضوعيّةٍ، وحَقيقَةُ الكلمةُ قائمةٌ في ذاتِ الكاتبِ أكثرَ منْ مُثولِها في ذاتِها، فهي مُتلبِّسةٌ بِذاتِه مُتحرّكةٌ بحركتِه ساكنةٌ بسُكونِه، إنّها فعلٌ قبلَ أن تَكونَ قولاً، وتَحملُ دلالةَ الفعلِ قبلَ أن تَكونَ أصْواتاً تَذهبُ أدْراجَ الرّياحِ. وعندَما نَقولُ إنّ الكلمةَ تحملُ مَعْنىً مُعجمياً لازماً لَها عندَ إطلاقِ اللّفظِ، فهي لا تُغيِّبُ عن أذهاننا أنّها تَخرجُ عن هذا الوَضعِ الدّلاليّ إلى أوضاعٍ أخرى فتَبْدو جَديدةً كلّما تكلّمَ بِها متكلّمٌ أو استعْمَلَها مُستعملٌ . بَل تجدُ المتكلّمينَ بلغةٍ من اللّغاتِ يُهرَعونَ إلى الكناياتِ عَمّا يُستهْجنُ ذِكرُه ويُستقبَحُ نشرُه، أو يُستَحْيا من تسميتِه، أو يُتطيَّرُ منه، أو يُصانُ عنه، بألفاظٍ مَقْبولةٍ تُفصحُ عن المَعْنى وتُحسِّنُ القَبيحَ وتُلطِّفُ الكَثيفَ، في مُذاكَرَةِ ذَوي المُروءَةِ، فيَحْصُلُ المُرادُ مَع العُدولِ عَمّا يَنْبو عنه السّمعُ ولا يأنسُ بِه الطَّبْعُ، إلى غيرِه ممّا يَقومُ مَقامَه مع زيادَة في الحَياءِ والحُسْنِ.
هذه حَقيقةٌ من حَقائقِ الكلماتِ والألفاظِ والعباراتِ وغيْرِها من الأدواتِ اللّغويّةِ التي يتوسّلُ بِها المتكلّمُون وحَمَلَةُ الأقْلامِ، لكي يُسمُّوا أحوالَهُم الشّعوريّةَ وذِكْراهُم الماضيةَ بأسماءٍ معيَّنَةٍ، فيَسِمُوها بميسَمِ اللّغَة، ويُخرِجُوها من إبهامِ النّفسِ والزّمنِ الغابِرِ إلى وُضوحِ الكلمات[3]
ـــــــــــ
 (1) زكريّا إبْراهيم: مُشكلةُ الحَياة، سلسلة مُشكلات فلسفيّة (7)، مَكتبَة مص، دار مصر للطّباعَة، القاهِرَة. ص:68 وما بعْدَها.
(2) ولكنّ هذا الصّفةَ الرّفيعةَ التي توجَدُ في اللّغةِ لا تَعْني أنّها هي التي توجِدُ عالَمَ الأشياءِ، فالعالَمُ ماثلٌ، مَوْجودٌ، موضوعياً.
(3) أنتَ عندما تكتبُ فإنّكَ تُشاركُ الناسَ هُمومَهم وأحزانَهم وتشتركُ في مُعالجَة أمورِ الحياةِ وحلّ مُشكلاتها، وتقترحُ من الحُلول ما أنضجتْه قُدورُ تَجاربِكَ، وأسْفرَ عنه صُبحُ عُمرِكَ، فإذا اختلَفوا عليْكَ وأنكروا رأيَك وفسَقَت رُطَبُهُم اعتزَلْتَهُم فصرْتَ وحيداً، كأنّك أمّةُ في فردٍ ولمْعَةٌ من بطنِ برقٍ ورَعْد. أجَلْ، تحرصُ على الالتحاقِ برَكْبِ الأحداثِ والغَوصِ فيها حتّى الرُّكب، ومُواكبَةِ وَقْعها وإيقاعها، بل المُشاركَةِ في صنعِها أو جَبرِ مَكسورِها وتصحيحِ مُعْوَجِّها، وإنّما تُسهِمُ -في مُشاركَتِكَ- بصُنعِ المفاهيم التي بها تُتناوَلُ الإشكالاتُ ويُنفَذُ منها إلى التّحليل والمُعالجَة، فتكونُ لغتُك التي منها اشتقاقُ مَفاهيمِك ويَكونُ ما أبدعتْهُ مُفكِّرتُك ومُخيّلتُك وناطقَتُكَ، حظَّكَ الذي تَملكُ من صنعِ الحَدَث أو توْجيهه وتَقويمه والانفتاحِ على مُمْكناته، لأنّك تعلمُ أنّ الكلمةَ مسؤوليّةُ مَن يَملكُ زمامَها ويُحسنُ نظَمها على النّحو الذي يُنشئُ بها نَسَقاً مؤتلِفاً مَسبوكاً حسنَ الصّنعَة، يكونُ نصّاً لغويّاً ثمّ يُفضي إلى خطابٍ تَدخلُ في تداوُله أطرافٌ كثيرةٌ، فتصيرُ حَرَكَةُ الانسلاكِ في تَداوُل القَضايا في ظلِّ خطابٍ لغويٍّ، عيْنَ الاشتراكِ في صنع الحَدث أو تَوجيهِ مَصنوعِه. وأنتَ إذا انفتحْتَ على المُمكناتِ فإنّما تَفعلُ ذلكَ بما تَملكُه من طاقةٍ لغويّةٍ تُعربُ بالدّقّة اللازمّةِ عن طاقةٍ فكريّةٍ نافذةٍ في جسمِ الأحداث وخضمِّها، فتكونُ الأحداثُ الممكنةُ والمَخارحُ المُحتَمَلَةُ التي لم تحدثْ بعدُ عبارةً عن مَفاهيمَ في كلماتٍ، وكلّما أخذَتْ المَفاهيمُ اللُّغويّةُ حظّها من الواقعيّةِ والصّدقِ والتَّماسُك المَنطقيّ والمصلحَة العامّة، تحوّلَت من ألفاظٍ ذاتِ طابعٍ صوتيّ يحملُ في جوفِه دَوالَّ ومَدلولاتٍ إلى أحْداثٍ تَجْري في واقعِ النّاسِ وتُتداوَلُ في مَسالِك حَياتِهم وتُصنَعُ منها القراراتُ السَّديدُ التي تَقودُ رَكبَهُم أو توجّهُ مَسيرَتُهم وتتحكّمُ في طرُق عيشهِم وتنميةِ أوضاعِهم …

ما من كاتبٍ إلاّ ويتقدّمُ إلى قارئه، أو يُقدّمُ نفْسَه إليه، على طَبَقٍ من لُغةٍ، فمَطيّتُه الألفاظُ والتَّراكيبُ والمَجازاتُ والاستعاراتُ، ولعلَّ السَّببَ في ذلِكَ أنّ رُتبةَ الوُجودِ التي يتمتّعُ بها اللّفظُ –في وَهْمِ المُتكلّمِ- أرْقى وأكثرُ واقعيّةً من رُتبةِ وُجودِ الشّيءِ، وأنّ «العالَم الإنسانيّ ليسَ عالَمَ إحساساتٍ ورُدودِ أفْعالٍ بَل هو عالَمُ أفكارٍ وتَحْديداتٍ لفظيّةٍ» (1)؛ وذلِك لأنّ الكلمةَ تخْلَعُ على الشيءِ ذاتيتَه ووُجودَه (2) ، وتُتيحُ للإنسانِ الانتقالَ من حالَةِ الاضْطرابِ والفَوْضى إلى حالةِ النّظامِ، وأن يتصرّفَ بالكلمةِ من بُعْد، وهو مُنفصلٌ عن عالَم الأشياءِ، يُقلِّبُ العالَمَ كيفَ يَشاءُ، فيُحَسِّنُ القَبيحَ باللّغةِ إذا أرادَ، أو يُقَبِّحُ الحَسَنَ، فرُبّ قُبْحٍ عندَ شخصٍ هو حُسنٌ عندَ غيْرِه، وقد يكونُ وهماً عندَ ثالثٍ.

وباللُّغةِ أيضاً يُركِّبُ من القِطَعِ المُتَباعداتِ بناءً مُتّسقاً وعالَماً متحضّراً؛ إذْ يُحوّلُ التّجارِبَ والفِكَرَ والذّكْرى إلى عالَمٍ من المَقالاتِ، ومهمّةُ تلكَ المَقالاتِ والعباراتِ أنّها تؤلِّفُ بين الأشياءِ وتُركِّبُ وتُعدِّلُ وتُقدّمُ وتؤخِّرُ .

فالكلمَةُ قُوّةٌ نافذةٌ مؤثّرةٌ ومُغيّرةٌ قبْلَ أن تَكونَ مُجرّدَ تسميةٍ مَوضوعيّةٍ، وحَقيقَةُ الكلمةُ قائمةٌ في ذاتِ الكاتبِ أكثرَ منْ مُثولِها في ذاتِها، فهي مُتلبِّسةٌ بِذاتِه مُتحرّكةٌ بحركتِه ساكنةٌ بسُكونِه، إنّها فعلٌ قبلَ أن تَكونَ قولاً، وتَحملُ دلالةَ الفعلِ قبلَ أن تَكونَ أصْواتاً تَذهبُ أدْراجَ الرّياحِ. وعندَما نَقولُ إنّ الكلمةَ تحملُ مَعْنىً مُعجمياً لازماً لَها عندَ إطلاقِ اللّفظِ، فهي لا تُغيِّبُ عن أذهاننا أنّها تَخرجُ عن هذا الوَضعِ الدّلاليّ إلى أوضاعٍ أخرى فتَبْدو جَديدةً كلّما تكلّمَ بِها متكلّمٌ أو استعْمَلَها مُستعملٌ .

بَل تجدُ المتكلّمينَ بلغةٍ من اللّغاتِ يُهرَعونَ إلى الكناياتِ عَمّا يُستهْجنُ ذِكرُه ويُستقبَحُ نشرُه، أو يُستَحْيا من تسميتِه، أو يُتطيَّرُ منه، أو يُصانُ عنه، بألفاظٍ مَقْبولةٍ تُفصحُ عن المَعْنى وتُحسِّنُ القَبيحَ وتُلطِّفُ الكَثيفَ، في مُذاكَرَةِ ذَوي المُروءَةِ، فيَحْصُلُ المُرادُ مَع العُدولِ عَمّا يَنْبو عنه السّمعُ ولا يأنسُ بِه الطَّبْعُ، إلى غيرِه ممّا يَقومُ مَقامَه مع زيادَة في الحَياءِ والحُسْنِ.

هذه حَقيقةٌ من حَقائقِ الكلماتِ والألفاظِ والعباراتِ وغيْرِها من الأدواتِ اللّغويّةِ التي يتوسّلُ بِها المتكلّمُون وحَمَلَةُ الأقْلامِ، لكي يُسمُّوا أحوالَهُم الشّعوريّةَ وذِكْراهُم الماضيةَ بأسماءٍ معيَّنَةٍ، فيَسِمُوها بميسَمِ اللّغَة، ويُخرِجُوها من إبهامِ النّفسِ والزّمنِ الغابِرِ إلى وُضوحِ الكلمات[3]

ـــــــــــ

 (1) زكريّا إبْراهيم: مُشكلةُ الحَياة، سلسلة مُشكلات فلسفيّة (7)، مَكتبَة مص، دار مصر للطّباعَة، القاهِرَة. ص:68 وما بعْدَها.

(2) ولكنّ هذا الصّفةَ الرّفيعةَ التي توجَدُ في اللّغةِ لا تَعْني أنّها هي التي توجِدُ عالَمَ الأشياءِ، فالعالَمُ ماثلٌ، مَوْجودٌ، موضوعياً.

(3) أنتَ عندما تكتبُ فإنّكَ تُشاركُ الناسَ هُمومَهم وأحزانَهم وتشتركُ في مُعالجَة أمورِ الحياةِ وحلّ مُشكلاتها، وتقترحُ من الحُلول ما أنضجتْه قُدورُ تَجاربِكَ، وأسْفرَ عنه صُبحُ عُمرِكَ، فإذا اختلَفوا عليْكَ وأنكروا رأيَك وفسَقَت رُطَبُهُم اعتزَلْتَهُم فصرْتَ وحيداً، كأنّك أمّةُ في فردٍ ولمْعَةٌ من بطنِ برقٍ ورَعْد. أجَلْ، تحرصُ على الالتحاقِ برَكْبِ الأحداثِ والغَوصِ فيها حتّى الرُّكب، ومُواكبَةِ وَقْعها وإيقاعها، بل المُشاركَةِ في صنعِها أو جَبرِ مَكسورِها وتصحيحِ مُعْوَجِّها، وإنّما تُسهِمُ -في مُشاركَتِكَ- بصُنعِ المفاهيم التي بها تُتناوَلُ الإشكالاتُ ويُنفَذُ منها إلى التّحليل والمُعالجَة، فتكونُ لغتُك التي منها اشتقاقُ مَفاهيمِك ويَكونُ ما أبدعتْهُ مُفكِّرتُك ومُخيّلتُك وناطقَتُكَ، حظَّكَ الذي تَملكُ من صنعِ الحَدَث أو توْجيهه وتَقويمه والانفتاحِ على مُمْكناته، لأنّك تعلمُ أنّ الكلمةَ مسؤوليّةُ مَن يَملكُ زمامَها ويُحسنُ نظَمها على النّحو الذي يُنشئُ بها نَسَقاً مؤتلِفاً مَسبوكاً حسنَ الصّنعَة، يكونُ نصّاً لغويّاً ثمّ يُفضي إلى خطابٍ تَدخلُ في تداوُله أطرافٌ كثيرةٌ، فتصيرُ حَرَكَةُ الانسلاكِ في تَداوُل القَضايا في ظلِّ خطابٍ لغويٍّ، عيْنَ الاشتراكِ في صنع الحَدث أو تَوجيهِ مَصنوعِه. وأنتَ إذا انفتحْتَ على المُمكناتِ فإنّما تَفعلُ ذلكَ بما تَملكُه من طاقةٍ لغويّةٍ تُعربُ بالدّقّة اللازمّةِ عن طاقةٍ فكريّةٍ نافذةٍ في جسمِ الأحداث وخضمِّها، فتكونُ الأحداثُ الممكنةُ والمَخارحُ المُحتَمَلَةُ التي لم تحدثْ بعدُ عبارةً عن مَفاهيمَ في كلماتٍ، وكلّما أخذَتْ المَفاهيمُ اللُّغويّةُ حظّها من الواقعيّةِ والصّدقِ والتَّماسُك المَنطقيّ والمصلحَة العامّة، تحوّلَت من ألفاظٍ ذاتِ طابعٍ صوتيّ يحملُ في جوفِه دَوالَّ ومَدلولاتٍ إلى أحْداثٍ تَجْري في واقعِ النّاسِ وتُتداوَلُ في مَسالِك حَياتِهم وتُصنَعُ منها القراراتُ السَّديدُ التي تَقودُ رَكبَهُم أو توجّهُ مَسيرَتُهم وتتحكّمُ في طرُق عيشهِم وتنميةِ أوضاعِهم …

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق