الرابطة المحمدية للعلماء

أزمة النظام المالي المعاصر

الخبير منصف بن الطيبي: الأزمة الحالية تشكل “فرصة لإعادة هندسة النظام المالي والنظام الاقتصادي العالمي وفق ضوابط وأخلاقيات تراعي المصلحة العامة”.

اتخذ “الحوار الحي” للأسبوع الماضي (الخميس 16 أكتوبر 2008) من “الأزمة المالية العالمية” الحالية موضوعا له بعد أن تجاوزت هذه الأزمة، بمضاعفاتها الخطيرة، اهتمام النخبة الاقتصادية لتغدوا شأنا عاما يهم مختلف الشرائح الاجتماعية. وهو ما عكسه حجم ونوعية الأسئلة التي تم توجيهها لضيف الحوار الأستاذ منصف بن الطيبي؛ والتي تراوحت بين أسئلة تستفسر عن طبيعة هذه الأزمة وعن الأسباب المؤدية إليها وهل تشكل مؤشرا على نهاية النظام الرأسمالي، وأخرى انشغلت بالمضاعفات الناتجة عنها، أو التي يمكن أن تنتج عنها، كما انصبت تساؤلات أخرى عن حدود وجدوى سياسات الإنقاذ المتخذة من طرف الدول الرأسمالية الكبرى لتلافي هذه الأزمة، بينما انشغلت استفسارات أخرى بتأثيرات هذه الأزمة بشكل أساسي على قطاع العقار، في حين تمحور جانب مهم من الأسئلة عن دور “النظام الاقتصادي الإسلامي” ومنظومته الأخلاقية والقيمية في تجاوز هذه الأزمة، فضلا عن الدروس المستفادة منها..

ففيما يتعلق بأهم أسباب هذه الأزمة فقد أجملها الأستاذ  منصف بن الطيبي في عاملين رئيسيين:

أولهما، يتمثل في “البحث عن الربح الكبير من قبل المؤسسات المالية بنسب تفوق بكثير نسبة النمو الاقتصادي؛ حيث لا تقبل هذه المؤسسات في الغالب ربحا يقل عن 14 و15 في المائة، فيما نسب النمو الاقتصادي لا تتجاوز 5 في المائة في المتوسط”. الأمر الذي يدفعها بالضرورة إلى المخاطرة المجازف فيها، بحثا عن أعلى قدر من الأرباح في تجاهل تام لقواعد التدبير السليم.. وثانيهما، يتمثل في النزوع إلى الاستهلاك بما يتجاوز حدود القدرات المالية للمستهلك بكثير ، مما يوقعه في حبال الاستدانة لتلبية رغباته الاستهلاكية دون مراعاة قدراته. وبالتالي فإن هذه الأزمة المالية ناتجة بشكل أساسي عن المبالغة في الاقتراض..

ومما عمل على تكريس هذا الوضع تبني المؤسسات المالية لسياسات وحملات ممنهجة تشجع وتغري على الاقتراض “مما دفع العديد من المؤسسات والأفراد إلى الاقتراض بنسب فائدة مرتفعة أدت فيما بعد إلى عجزهم عن سداد مستحقات الديون وتراكم هذه الأخيرة عند المؤسسات المقرضة التي أصبحت في حاجة إلى سيولة كبيرة للاستمرار في القرض وهو ما يصعب في الظرف الراهن لاستحالة استرجاع المبالغ المقرضة”.

أما عن جدوى القرارات والإجراءات المتخذة لانقاد الاقتصادات الرأسمالية من مضاعفات هذه الأزمة، فقد أبرز الضيف الكريم أن “الدول الغربية قد اتخذت في الأيام الأخيرة العديد من القرارات التي تخرج عن القواعد المتعارف عليها في النظام الرأسمالي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه”. غير أنه لم يجزم بأن هذه القرارات ستخرج النظام من الأزمة الحالية؛ “لأن التكلفة عالية جدا وتفوق ما يمكن لأي دولة أن تتحمله لوحدها، لدى فهي تلح على ضرورة مشاركة الجميع في عملية الإنقاذ ولا يمكن هنا الجزم أيضا بأن هذه المشاركة ستكون فعالة”.

ومع أن النظام الرأسمالي استطاع تجاوز كثير من الأزمات السابقة، وأن هناك بعض أوجد التشابه مع أزمة 1870 وأزمة 1929، إلا أن الأستاذ منصف بن الطيبي يكشف أن “الظرفية السياسية والاقتصادية والمالية العالمية الحالية تختلف عن الأزمات السابقة”. مبرزا أن التدخل القوي للدول الغربية من أجل إنقاذ النظام المالي وعلى الخصوص النظام المصرفي “ستكون له تكلفة عالية جدا تتجاوز حتى القدرات المالية لمختلف الدول المعنية المثقلة في غالب الأحيان بالديون. وسيؤثر هذا لا محال لسنوات عديدة على المالية العمومية لهذه الدول التي ستعرف مزيدا من العجز” مما سيضطرها للجوء إلى الاقتراض  الأمر الذي “قد يدفع إلى الرفع من الضرائب ويحد من الاستثمارات..” ليستخلص  أن تجاوز هذه  الأزمة الحالية لن يكون بالأمر الهين.

ومع أن ضيف الحوار الحي أكد تأثر الاقتصاد المغربي على غرار سائر الاقتصاديات النامية من مضاعفات هذه الأزمة، مفسرا ذلك بكون “الأسعار السوقية لكثير من الأسهم تفوق قيمتها الحقيقية، وأن هناك حاجة لتصحيح الوضع..”، إلا أنه أكد بالمقابل أن هذه الأزمة المالية الحالية ستعمل على تصحيح هذا الوضع المختل..
مذكرا أن المغرب “يعتمد كثيرا على تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج، وعلى الاستثمارات الخارجية، وأن الأزمة الحالية ستؤثر لا محالة على التدفقات المالية إلى المغرب”.

كما أبرز الخبير منصف بن الطيبي أن البنوك الإسلامية لن تنجوا هي الأخرى من التأثيرات السلبية لهذه الأزمة خاصة في دول الخليج التي تربطها علاقات مالية واقتصادية كبيرة مع الولايات المتحدة الأمريكية بوجه خاص، والدول الغربية الأخرى بوجه عام. خاصة وأن كثيرا من البنوك الإسلامية استثمرت أموالا طائلة في مجال العقارات بالولايات المتحدة الأمريكية والذي يعرف انهيارا كبيرا كما هو معلوم.
ونظرا للارتباط بين هذه الأزمة وقطاع العقار أوضح الأستاذ منصف بن الطيبي أن قطاع العقار مع أنه قد “عرف في السنوات الأخيرة بالمغرب انتعاشا كبيرا نظرا للتسهيلات الائتمانية التي تقدمها البنوك، إلا أن الأسعار ارتفعت بشكل كبير يفوق القدرة الشرائية لأغلبية المواطنين نتيجة المضاربات.. مما أدى في الآونة الأخيرة إلى شبه ركود في المبيعات..”، وتبعا لذلك فإن “الأزمة المالية العالمية الحالية ستدفع البنوك والمستثمرين إلى المزيد من الحذر مما سيؤثر على نمو هذا القطاع، ويدفع بالمنعشين العقاريين إلى مراجعة برامجهم الاستثمارية وبالبنوك لمراجعة شروط منح الائتمان لكي تتماشى أكثر مع حاجيات المواطنين وقدراتهم المالية”. غير أن هذه المراجعة لن تكون بالضرورة في مصلحة المواطنين، وإن “كان المنطق يستلزم، حسب الباحث، أن تراعي هذه المراجعة مصلحة المواطن؛ لأن في مصلحته مصلحة للمنعشين العقاريين ومصلحة للبنوك”.

أما بخصوص العوامل التي من شأنها أن تسهم في التخفيف من هذه الأزمة أو إيجاد حل لها على المدى البعيد، فقد شدد الأستاذ منصف بن الطيبي على “ضرورة للتقيد بمجموعة من القيم والأخلاقيات التي تراعي المصلحة العامة والخاصة” مؤكدا أن “ديننا الحنيف يقدم نماذج عديدة من هذه القيم لو تقيد بها العالم لتجنب العديد من الأزمات”.

ليستخلص أن الأزمة المالية الحالية تشكل “فرصة للقائمين على الاقتصاديات العالمية لمراجعة أوراقهم وإعادة هندسة النظام المالي والنظام الاقتصادي العالمي وفق ضوابط وأخلاقيات تراعي الإنسان ومصلحته الاجتماعية والاقتصادية؛ بعيدا عن المخاطرات التي جعلت من النظام المالي نظاما تغلب عليه المقامرة والجري وراء الربح السريع دون أي مراعاة للتنمية الحقيقية”. مشددا على ضرورة “الاهتمام أكثر بالاقتصاد الحقيقي ووضع كل التحفيزات للدفع بعجلة التنمية..” إلى جانب “وضع كل الضوابط الضرورية التي تحد من المضاربات والاحتكارات، والضرب على أيدي المضاربين والمحتكرين ..”

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق