مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقدية

أحمد عبادي الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء يحاضر بكلية أصول الدين بتطوان

بمناسبة مرور خمسين سنة على تأسيسها استضافت جامعة القرويين كلية أصول الدين بتطوان في إطار أنشطتها العلمية والثقافية الدكتور أحمد عبادي الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء لإلقاء الدرس الافتتاحي في موضوع: “المجتمعات الإسلامية في سياق العولمة” وذلك يوم الأربعاء 27 نونبر 2013م.
افتُتح اللقاء بكلمة لعميد الكلية الدكتور محمد الفقير التمسماني، الذي حمد الله على أن ألف القلوب على أصول الدين، والتشبث بثوابت الأمة، وسخر لها أناسا ينفون عنها تحريف الغالين وتأويل المبطلين، كما أبدى سعادته بالضيف المحاضر العالم الدكتور أحمد عبادي الذي تفضل بالمشاركة في الاحتفاء بالذكرى الخمسين لتأسيس هذه الكلية من خلال تقديم هذا الدرس العلمي الافتتاحي الذي سيكون فاتحة خير وبركة على طلبة وأطر هذه الكلية التي تعد ثغرا من ثغور الحفاظ على المنظومة العقدية والفكرية بالمغرب.
إن هذا الاحتفاء من المنظور الشرعي يعد -بحسب قول العميد- برورا واجبا وحقا لازما، ثم إن هذا الدرس الذي سيلقيه الدكتور أحمد عبادي -جريا على السنة المتبعة والتقاليد الجامعية المعهودة-، يهدف إلى متابعة المسيرة العلمية للكلية، واسترجاع الهوية المميزة لها لتحقيق الإشعاع الوطني المميز.
وبالمناسبة هنأ العميد الشعب المغربي بإحيائه لمناسبتي المسيرة الخضراء وعيد الاستقلال المجيد، بعدها قدم ورقة تعريفية بالدكتور المحاضر معتبرا أن شهرته بين العلماء والطلبة كشهرة زيد عند علماء النحو، فالمعروف لا يعرف حسب قوله، لكنه –مع ذلك- قام بسرد أهم محطات سيرته العلمية الحافلة، ثم عرض لأهم مؤلفاته، ومناصبه العلمية وغيرها، ليفتح له المجال أخيرا لتقديم محاضرته العلمية.

افتتح الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء الدكتور أحمد عبادي كلمته بالترحيب بالضيوف كل باسمه ومرتبته العلمية وفي مقدمتهم عميد كلية أصول الدين بتطوان، ثم تلا أبياتا شعرية لابن الجوزي قال عنها: كأنها تنطق بلسان حال هذه الكلية العتيدة، والأبيات هي:
مازلت أدرك ما غلا بل ما علا ** وأكابد النهج العسير الأطــولا
تجري بي الآمال في حلباتـه ** جري السعيد إلى مدى ما أمّــلا
لو كان هذا العلم شخصًا ناطقًا ** وسألته: هل زار مثلي؟ قال: لا.
ثم بين بأن هذه المطارحة “المجتمعات الإسلامية في سياق العولمة” لها مبرر مركزي ينبني على ضرورة تحقيق مناط واقعنا الذي يستلزم المعرفة بقرائن الأحوال وتضاريس الواقع؛ لأن إناطة الأحكام صعبة وفي غاية العسر بدون هذا التحقيق، ومن ثم استشهد بكلام نفيس لابن القيم الجوزية في كتابه “إعلام الموقعين” في فصل: “في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد”، حيث قال فيه بأنه: «فصل عظيم النفع جدا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه». كما استشهد بنص آخر له في كتابه “الطرق الحكمية” مؤداه: أن على العالم أن يكون مع علمه وفهمه بالدين عالما بفقه الواقع وتنزيل أحدهما على الآخر.
من هذه المقدمة دلف المحاضر إلى عالم اليوم معتبرا أنه ليس ذلك العالم الذي كان يعرفه أسلافنا وأجدادنا بل وآباؤنا من قبل، بل هو عالم فُرضت عليه إيقاعات في غاية السرعة، جعلت الجيل الجديد تتبدى له خلال حياته من المكتشفات والمخترعات ما لم يشهده من سبقه، وهو الجيل الذي أشاد به “ألفين توفلير” في كتابه: “صدمة المستقبل –المتغيرات في عالم الغد –” واعتبره جيلا متميزا وفريدا، وهنا يستحضر المحاضر حديثا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في العلامات الصغرى للساعة (تتعلق بتداخل الزمن) باعتبارها أمارات بين يدي الساعة، ليُثَنِّيَ على هذا الحديث بكلام لابن الجوزي في كتابه “صيد الخاطر” مفاده أن في الرحلة تكون للقافلة إيقاعات بسيطة في البداية، لكن إذا تبدت لها معالم المدينة حثت المطي على الإسراع.
والحاصل من هذا الكلام – يقول المحاضر- أن جملة من الأسباب تجمعت في حوصلة الزمن، حتى إذا توطدت أفرزت بنقرة واحدة سرعة متواطئة في الزمن، فاليوم يوجد من وسائل الاتصال الحديثة ما غير وجه العالم على مستوى التحكم في اللون والصوت والصورة، فأصبح بالإمكان تغيير قناعة ما، وأن تحل محلها أخرى في عقل الفرد دون أن يعي، ففي طرفة عين تستطيع إقناع الملايين من الأشخاص بفعل أمر ما أو الابتعاد عنه، وأن تشكل ذوقهم دون أن يعوا، وفي هذا المقام يُذَكِّر المحاضر بكتاب “طوماس فريدمان” “العالم المسطح” وهو الكتاب الذي يزودنا بمفاتيح توقفنا على مدى التغيير الذي حدث في عالمنا، والذي عبر عنه بهُوي الجدران (برلين)، وصعود النوافذ (نوافذ الويندوز)، هذه الأخيرة التي جعلت الإنسان قادرا على التمكن من وسائل تشكيل المعرفة وإيصالها، ومن ثم تحدث المحاضر عن التطورات التي حصلت في هذا العالم المتغير بفضل التطور الهائل في وسائل الاتصال من استغلال الزمان بقدرة عالية فائقة، وتفويت حلقات الإنتاج، وسهولة الوصول إلى قواعد المعطيات عبر العالم، أضف إلى ذلك الأبعاد التشريعية المرتبطة بهذا التطور، ومن ثم أصبحت المعرفة في متناول الجميع بمجرد نقرة على زر أو رابط، وأضحى الجيل الجديد ذو وظائف علائقية جديدة من حيث الاختزال وصولا إلى الاستخلاص والاستنباط.
هنا يتساءل المحاضر: كيف تشكل هذا الواقع؟
وإجابة عن هذا السؤال، قدم المحاضر تعريفا للعولمة باعتبارها منظومة ومصفوفة لها جملة من المراتب، لكنه قبل هذا تساءل عن إمكانية تعريف العولمة تعريفا كلاميا بمعنى الجمع والمنع؟.
عرّف المحاضر العولمة بعد ذلك بأنها ميل حضاري، حسب عبارة مالك ابن نبي، قال تعالى:{فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء: 102]، وهو ميل بتدفق وتأثير كبيرين، كما أنه حسب ابن خلدون ولع المغلوب” أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده”، حيث تصل الحضارة القوية بفضل تأثير التراكم الضخم إلى الميل على حضارة أخرى على مستوى التصور والقيم والتشريع والحكمية والسلوك.
والعولمة في هذا الصدد -يقول المحاضر- قد تكون كلية أو جزئية، فالكلية لم يكن لها وجود قبل هذا الزمن، حيث إن العولمات في القديم كانت تتسم بالقوة ثم تتبعها الفتوحات المعرفية والقيمية التي تكون لها تبعا، (مثل فتوحات الإسكندر، والحضارة الرومانية…، وتوسع مملكة الصين في منطقتها، والهند حول محيطها).
ثم تحدث المحاضر عن العولمة الإسلامية باعتبارها عولمة قيمية بالأساس، عولمة لها وجهة وقبلة تؤمها تحت مسمى الأمة، فبقدر التبصر والإدراك للآيات يكون القرب أو البعد من القبلة الحضارية متمثلا في هذا المقام بحديث نبوي شريف: (ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم).
ويرى الدكتور أحمد عبادي أن مفهوم الأمة يحمل في طياته معنى السير وتيمم القبلة،{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [البقرة: 144] فالمسجد الحرام  “الكعبة الشريفة” سهم مصوب إلى السماء بتعبير المحاضر، تنتهي إليه وجوه المنتظم الحضاري الإسلامي، الذي يتميز عن باقي المنتظمات بأن الفارق فيه بين الناس هو التقوى، (أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ ، وَلاَ لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ ، وَلاَ أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ ، إِلاَّ بِالتَّقْوَى…)، قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا…} [الحجرات: 13]. فهذه الميزة تجعل من العولمة الإسلامية قوة اقتراحية كبرى إزاء الفراغ القيمي التي تعيشه العولمات الأخرى.
ويرى المحاضر أيضا أن العولمات تكتسي قوتها من قدرتها على التفكيك، ومن كثافة الإدراكات لشبكة التمثلاث والتصورات، ومن القيم والسلوكات، فخارطة الوجود القوية لأي عولمة هي “قدرتها التفسيرية للعالم” بحسب الدكتور عبد الوهاب المسيري، وخارطة الوجود هاته تسمى عندنا بالعقيدة فهي خارطة الوجود والتفسير للحياة والأحياء ومركزية الإنسان في الوجود. ونحن والحمد لله -يقول المحاضر- عندنا خارطة وجود واضحة يمكن أن نجدها في أصغر متن للعقيدة كعقيدة ابن أبي زيد القيرواني مثلا..
هنا يستعرض لنا المحاضر مراتب الوجود التي تحدث عنها العلماء وهي أربعة جعلها متمثلة في:
–    الوجود العيني المشخص: وهو”عين الواقع” موجود وله سنن بدون وعيها لا يمكن أن نتعامل معه، وأن تكون لنا القدرة على تذليله وتسخيره.
–    الوجود الذهني: وهو نقل للوجود العيني المشخص إلى الذهن، وفي عملية النقل هاته لابد وأن تحصل انكسارات معرفية، وأول شرط للفاعلية في هذا الوجود هو النقل الدقيق للموجودات المشخصة إلى الذهن، سواء كانت وسيلة النقل هنا فيزيائية أو كيمائية أو عبر العلوم الإنسانية…، وفي هذا المقام أكَّد المحاضر على ضرورة وجود ذاكرة توثيقية وأرشفة معرفية تسمح بالتكامل المعرفي الذي يؤدي إلى التأثيل؛ وأية حضارة تضبط هذه الحلقة تصبح قادرة على درجة من الفاعلية الجاذبة للتجمعات الحضارية الأخرى؛ ويستشهد هنا المحاضر بكتاب الإلماع للقاضي عياض باعتباره وقفة متميزة لتصحيح الانكسارات المعرفية في عملية النقل.
– الوجود اللفظي: ومعناه مكنون في الإجابة عن سؤال: كيف خزنت المعلومات؟ وكيف أعبر عنها؟ هنا يطرح المحاضر مجموعة من الأسئلة الموضحة لهذا الوجود من قبيل: هل نتوفر في جامعاتنا على تخصصات لتوثيق المعلومات، ولتوثيق المراحل والإضافات النوعية في المجال المعرفي؟ ينبغي أن تكون ذاكرة طلبتنا ونحن في كلية عتيدة –الخطاب موجه للحضور- ذاكرة منقوشة وليست عبارة عن خزانات؛ لأن التخزين أيضا له هندسته.
– الوجود البنائي: مرتبة رابعة، وهي أهم مرتبة حيث تعتبر الصورة النهائية لتشكل المراتب السابقة، فيها تُبنى المعرفة.
ويضيف المحاضر هنا مرتبة خامسة، وهي:
– الوجود الافتراضي: وهي مرتبة لها قوتها الضاربة اليوم -كما قال-.
واستطرد المحاضر بعد عرض هذه المراتب في ذكر الأسس التاريخية لتشكل العولمات المعاصرة، مختزلا لها في قطبين أساسين؛  أولاهما: النزوع نحو والتراكم الحضاري: “التكاثر” {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1]، وثانيهما: النزوع نحو الرهبنة {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27].

وكانت العولمة الإسلامية بحسب المحاضر متوازنة بين النزعتين فلا هي مالت إلى طرف الإفراط ولا إلى طرف التفريط، ففي الوحي الخاتم بحسب تعبيره موازين عدة تضبط التوازن بين النزعتين، فعندنا ميزان الشهادة على الأمم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [البقرة: 143]، فأمتنا الإسلامية هي وحدة قياسية بين الأمم، وعندنا أيضا الميزان القيمي، والميزان المقاصدي….إلى أضرب أخرى من الموازين ذكرها القرآن الكريم.
 وبسبب انعدام التوازن بين النزعتين في الغرب، وجد هناك تعطش لديهم للخروج من هذا الاختلال، فبدأت حركة الترجمة للعلوم الإسلامية، واحتفي بالعلوم على تنوعها، فوجدناهم يحتفون بعلمائنا أمثال ابن رشد وابن البناء، وابن الهيثم والشريف الإدريسي والقائمة طويلة…، وبدأت الجامعات الغربية ترمم سلسلة إدراكاتها وتمثلاتها للعالم، فأصبح لديها نوع من المركزية (العقيدة المختارية)، وبذلك اندلفت الحضارة الغربية بقوة نحو السيطرة والاستقواء مع تطورها في اختراع الأسلحة النارية.
هنا يقف المحاضر مع السؤال المركزي:
ما موقع المجتمعات الإسلامية في ظل هذا كله؟
 ثم يجيب بعرض الحل للخروج من هذا الاستلحاق الحضاري التي تعيشه أمتنا بقوله: التعليم ثم التعليم ثم التعليم… إذا أردنا بناء الخبرات والتمكن من الدربات الوظيفية لتحقيق استمرارية مفهوم الأمة؛ فنحن اليوم مطالبون بالخروج من هذا الثقب الأسود الذي يسمى الاستلحاق، وذلك لا يتأتى إلا بوجود تعليم يبني قدرات ناشئة قادرة على تفكيك وتفصيل المجملات، وهذا ليس بالأمر الصعب العسير، إذ نحن نتوفر على “تعليم الأسماء” و”منهج التلاوة”، ولدينا “قدرة تفسيرية” جبارة للعالم؛ ولدينا “خارطة قيمية” هائلة في القرآن، تشتمل على سلالم للقيم تتغير في مواضعها وتتحرك بمرونة وفاعلية، عندنا ترسانة في كل الجوانب في التشريع والسلوك و….عندنا خارطة من التفاصيل وفيها بركة ليست موجودة في حضارة أخرى.
 فهذه الأبعاد هي المنقذ لنا وللعالم من الاستلحاق الحضاري ومن هذا الميل الذي نرزخ تحته ومن  التفكير بعقلية الضحايا، فعلينا اليوم أن نبلور دور قوتنا الاقتراحية وستكون بإذن الله – يقول المحاضر- ثورة في العالم، فعندنا والحمد لله ما يكفي لنرفع هاماتنا عاليا، فلا بد إذن من حمل الأمانة ولا يكون هذا الحمل إلا بالتشمير.

 

                                                  متابعة : الدكتور يوسف الحزيمري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق