مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

أحمد بن عجيبة شاعر التصوف المغربي

                                                                                      لا مشاحة في أن الأدب هو الحال الناطق واللسان المعبر عن تطلعات الأمة وطموحاتها، والمصور لآمالها وآلامها وهو يساهم إلى جانب مكونات أخرى: علمية، فكرية، تاريخية…، في ائتلاف النسيج الحضاري لهذه الأمة وربطه بإطارها المرجعي متمثلا في التراث الأصيل.

ولا شك أن الأدب العربي في المغرب الأقصى، باعتباره رمزا لحضارتنا ومعبرا عن هويتنا، قد عانى الأمرين وهو يحاول أن يجد لنفسه مكانا بين آداب الأمم الأخرى ولعل ذلك راجع، بنسبة مهمة، إلى الإجحاف الذي طاله من عدد غير يسير من المبيتين المغرضين الذين صموا آذانهم وأبوا أن يعترفوا بوجود أدب مغربي قائم الذات، ذي خصائص ومميزات، فنعتوه تارة بالضعف، ووسموه أخرى بالتبعية، ولمزوه عن غير روية، بأنه أدب فقهاء…

والمتصفح للشعر المغربي، عبر تاريخه الممتد، وبالخصوص في العهد العلوي الثاني (1171هـ- 1238هـ/ 1757م- 1823م) يكتشف بسهولة بطلان تلك الادعاءات المغرضة أمام الازدهار الكبير الذي عرفه هذا الشعر والانتشار الواسع لمختلف أغراضه، سيما وانه خاض في مجموعة من العوالم الاجتماعية، السياسية، الفكرية… علاوة على مشاركة العلماء الواسعة في العملية الإبداعية الشعرية ومساهمة سلاطين الدولة العلوية (ونخص بالذكر في هذه المرحلة المولى سليمان) في تشجيع الحركة الأدبية وتحفيز الأدباء…

وقد شكل “الاتجاه الصوفي” احد أقوى الاتجاهات الشعرية في هذا العصر، ويمثل شاعرنا “أحمد بن عجيبة” أبرز من حملوا لواءه وخاضوا في موضوعاته المتشعبة.

ويأتي اهتمام هذا البحث المتواضع بدراسة شعر “ابن عجيبة” في سياق رصد ما يزخر به المتن الشعري الصوفي بالمغرب من مميزات موضوعية وفنية.

ولئن عرف “ابن عجيبة” صوفيا من كبار شيوخ التربية في القرن 13هـ/ 18م، فإنه لم يعرف شاعرا أدبيا بالقدر نفسه، وذلك راجع في نظري إلى شح الدراسات، إن لم أقل ندرتها، التي تناولت إبداعه الشعري وحاولت مقاربته أو تحليله. ويمكن أن أشير، في هذا الصدد، إلى دراسة المستشرق الفرنسي الدكتور “جان لوي ميشون”[1] (J.L. Michon) التي تضمنت بعض الإشارات الأدبية والنقدية في المتن الشعري “العجيبي”، علاوة إلى إشارات أخرى وردت في بعض الدراسات التي تناولت الشعر الصوفي بالمغرب في هذه الحقبة، وأخص بالذكر دراسة أستاذنا الدكتور “أحمد العراقي”[2] ودراسة الدكتور “عبد الوهاب الفيلالي” [3] وغيرها مما يعد على رؤوس الأصابع.

وقد حاولت، في هذا العمل المتواضع، دراسة المتن الشعري “العجيبي” انطلاقا من مقاربة لسانية أدبية تروم رصد الحقول المعجمية التي يزخر بها هذا المتن، والنفاذ منها إلى بواطن المعاني، وذلك بالنظر إلى النتائج الباهرة التي أفرزها هذا الصنف من التحليل في الكشف عن دلالة الحقول (Champs sémantiques) ومعرفة خصائص المفردات المحورية الدلالية، إضافة إلى معرفة الخصائص التركيبية والصرفية والإيقاعية…

وترتبط هذه الرؤية التحليلية بمناهج الدراسات الأدبية الحديثة التي تجعل النص مشاهدا بدل أن يكون شاهدا. فالنص المشاهد يجعل القارئ ينطق ما بين يديه عوض أن ينساق مع ما يمليه عليه هذا النص لأول وهلة، فيظل محصورا في دائرة الفهم، وفي أحسن الأحوال في دائرة التحليل السطحي، دون أن يتخطاها إلى دائرة التأويل.

ومما سهل مأموريتي، نسبيا، كون أشعار “ابن عجيبة” مجموعة في ديوان مثبت ضمن فهرسته[4]، حيث توافر لدي كم لا بأس به منها، صلح لأن يكون أرضية لهذه الدراسة، زد على ذلك سابق احتكاكي بالمنهج اللساني- الأدبي الذي وظفته في دراسة “مخصص ألفاظ الرثاء عند أبي ذؤيب الهذلي” (دراسة معجمية ودلالية) لنيل الإجازة من كلية الآداب بوجدة سنة 1996.

كما يسر لي الرجوع إلى كتاب “معراج التشوف إلى حقائق التصوف” لسيدي أحمد بن عجيبة، بعضا من مهام التحليل، إذ وجدت فيه عددا مهما من المصطلحات الصوفية التي ترددت عند شاعرنا في الديوان، وخدمت هذا البحث خدمة جلى نظرا لارتباطها الوثيق بمنهج البحث القائم على المقاربة اللكسيكولوجية.

وقد اقتضت خطة العمل تقسيم هذا البحث إلى مقدمة وأربعة فصول وخاتمة. وقفت في الفصل الأول، بإيجاز شديد، على ملامح الواقعين الصوفي والأدبي بالمغرب إلى غاية القرن 13هـ/ 18م بما يفي بمعرفة الظروف التي انبثق في ظلها إبداع شاعرنا مع الإشارة إلى ما له علاقة بحياته إنسانا ومتصوفا وشاعرا.

أما الفصل الثاني فقد خصصته لدراسة البنية المعجمية، وما تحيل عليه من مضامين، فعرفت الحقول المعجمية وحددتها انطلاقا من تصور “جاكلين بيكوش (J. Picoche) و”جورج مونان” (G. Mounin) و”محمد مفتاح” للمعجم وما يرتبط به من حقول دلالية أفضت إلى الوقوف على مضامين خمسة رئيسة في الديوان وهي: الحب الإلهي (أو التلويحات الخمرية)، الحقيقة المحمدية، التوسل، مدح سالكي الطريق وبيان شروطهم، ثم الزهد ومتعلقاته.

وقد خصصت الفصل الثالث لدراسة البنية التركيبية انطلاقا من المستوى النحوي والمستوى البلاغي، فدرست في الأول أزمنة الفعل ونوعية الجمل من حيث فعليتها واسميتها، ثم بنية الضمير.

بينما درست في الثاني نوعية الجمل من حيث إنشائيتها وخبريتها مع الوقوف عند الأساليب البيانية والمحسنات البديعية.

أما الفصل الرابع  فقد خصصته لدراسة البنية الإيقاعية في الديوان، فعرفت، في البداية، الإيقاع وخصائصه، ثم عرجت على الوزن الشعري الذي درسته انطلاقا من الرؤية المقطعية، ثم وقفت عند القافية ودرستها بالنظر إلى نوعها وتكوينها المقطعي وصورتها المعجمية، وختمت هذا الفصل بدراسة حرف الروي من منظور لساني قائم على تحديد المخرج والصفة وعلاقة ذلك بالمعنى الشعري الصوفي لأصل إلى خاتمة الدراسة التي لخصت فيها أهم سمات التماثل والتمايز التي طبعت المتن الصوفي “العجيبي”، وختمت البحث بلائحة المصادر والمراجع العربية والأجنبية إضافة إلى الدواوين الشعرية والرسائل الجامعية والمنشورات والمجلات والجرائد…

ولا يسعني، في هذا المقام، إلا أن أزجي خالص شكري وعظيم امتناني لأستاذي الدكتور الفاضل “أحمد العراقي” الذي أضحى من رواد البحث في الأدب المغربي، تشهد بذلك أعماله الوفيرة في هذا الحقل جمعا وتحقيقا ودراسة.

وكم كانت سعادتي فائقة حين تفضل وقبل الإشراف على هذا العمل، فوجهه وسدده حتى استوى على هذه الصورة.

كما أزجي خالص شكري لكل أساتذة وحدة الأدبية المغربية الذين تجشموا عبء تكويننا وتأطيرنا.

وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.

 

تحميل الرسالة

الهوامش:


[1]– L’autobiographie ( FAHRASA) du saufi marocain AHMAD Ibn’ AGIBA, Leiden 1969.

[2]– الشعر الصوفي ضمن: الشعر المغربي على عهد محمد الثالث وابنه سليمان (موضوعاته الكبرى ومقوماته الفنية)، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في اللغة العربية وآدابها. موسم 1991- 1992. القسم الأول/ الجزء الثاني (ص 314- 327) مرقونة بكلية الآداب بفاس.

[3]– شعر التصوف في المغرب خلال القرن 13هـ. رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في الآداب. مرقونة بكلية الآداب بالرباط 1991- 1992

[4]– انظر معلومات عنها ضمن ص 17،  من هذا البحث.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق