الفقيه الإمام، العالم الهمام، أبو بكر بن الشيخ الفقيه أبي محمد عبد الله بن سيدي محمد بن أحمد المعافري المعروف بابن العربي، ولد رضي الله عنه بإشبيلية سنة ثمان وستين وأربعمائة وبها نشأ، ثم رحل مع أبيه المذكور إلى الشام والعراق...، ثم رجع بعد وفاة أبيه بالإسكندرية إلى الأندلس وولي القضاء بها، ثم حُمل مع من حُمل إلى مدينة مراكش ثم انصرف منها لفاس فأدركته المنية.[1]
علمه ومؤلفاته:
كان رضي الله عنه من أهل التفنن في العلوم والاستبحار فيها والجمع لها، مقدَّماً في المعارف كلها، متكلما في أنواعها نافذا في جميعها، حريصا على أدائها ونشرها، ثاقب الذهن في تمييز الصواب منها، ويجمع إلى ذلك كله آداب الأخلاق مع حسن المعاشرة ولين الكَنف، وكثرة الاحتمال وكرم النفس وحسن العهد وثبات الود.[2]
صنف كتاب (عارضة الأحوذي في شرح جامع أبي عيسى الترمذي)، وفسّر القرآن المجيد، فأتى بكلّ بديع، وله كتاب (كوكب الحديث والمسلسلات)، وكتاب (الأصناف) في الفقه، وكتاب (أمهات المسائل)، وكتاب (نزهة الناظر)، وكتاب (ستر العورة)، و (المحصول) في الأصول، و (حسم الداء في الكلام على حديث السوداء)، وكتاب في الرسائل وغوامض النحويين، وكتاب (ترتيب الرحلة للترغيب في الملّة) و (الفقه الأصغر المعلب الأصغر) وأشياء سوى ذلك لم نشاهدها.[3]
ويحكي يوسف احنانا عن دور ابن العربي المعافري في انتشار الأشعرية بالغرب الإسلامي قائلا: والواقع أن أهمية هذا الرجل في نشر وتطور المذهب الأشعري كبيرة...، وذلك في كونه نقل من المشرق إلى الغرب الإسلامي مجموعة من أمهات كتب الأشاعرة، فقد كان فعلا في شبابه رحل من الأندلس إلى المشرق لقضاء مناسك الحج وعلى إثرها عرج على العراق طلبا للتوسع في العلم والاحتكاك بعلماء العصر هناك، والأخذ عنهم، وهناك التقى بأبي حامد الغزالي...وروى عنه مجموعة من كتبه من أهمها إحياء علوم الدين،[4]
ولكنَّ ابن خلدون (المتوفى سنة 808هـ/ 1406م) يذْكُر غرضًا آخَر من أغراض الرِّحلة، وهو الغرض السياسي؛ حيثُ خرج عبدالله بن العربي وابنه، مُوفدَين من يوسف بن تاشفين إلى عاصمة الخلافة، ومن ثمّ كان ابن العربي المعافري أوّل سفير سياسي لدولة المغرب في عصر ابن تاشفين، وكانت بغداد حينها أكبر مركز إسلامي،[5] فقد جاء في كتاب حضارة الموحديين للمنوني "أنَّ ابن العربي من أول الجالبين لكتاب إحياء علوم الدين عند عودته من الرحلة الشرقية عام 495هـ".[6]
ويحدثنا عن أول لقاء له بأبي حامد ببغداد فيقول: "...حتى ورد علينا ذا نشمند، فنزل برباط أبي سعيد بإزاء المدرسة الوطنية، معرضا عن الدنيا، مقبلا على الله تعالى، فمشينا إليه، وعرضنا أمنيتنا عليه، وقلت له: أنت ضالتنا التي كنا ننشد، وإمامنا الذي به نسترشد، فلقينا لقاء المعرفة، وشاهدنا منه ما كان فوق الصفة، فلما طلع ذلك النور، وتجلى ما كان تغشانا من الديجور، قلت: هذا مطلوبي حقا، هذا بأمانة الله منتهى السالكين، وغاية الطالبين". [7]
ويقول عنه في كتابه العواصم من القواصم: حين لقائي له بمدينة السلام، في جمادى الآخرة سنة تسعين وأربعمائة، وقد كان راضَ نفسه بالطريقة الصوفية، من سنة ست وثمانين، إلى ذلك الوقت نحوا من خمسة أعوام، وتجرد لها، واصطحب مع العزلة، ونبذ كل فرقة، فتفرغ لي بسبب بيناه في كتاب ترتيب الرحلة، فقرأت عليه جملة من كتبه، وسمعت كتابه الذي سماه بالإحياء لعلوم الدين، فسألته سؤال المسترشد عن عقيدته، المستكشف عن طريقته، لأقف من سر تلك الرموز، التي أومأ إليها في كتبه، على موقف تام المعرفة، وطفق يجاوبني، مجاوبة الناهج لطريق التسديد للمريد، لعظيم مرتبته، وسمو منزلته، وما ثبت له في النفوس من تكرمته، فقال لي من لفظه، وكتب لي بخطه: إن القلب إذا تطهر عن علاقة البدن المحسوس، وتجرد للمعقول، انكشفت له الحقائق، وهذه أمور لا تدرك إلا بالتجربة لها عند أربابها، بالكون معهم والصحبة لهم.[8]
ولم يقتصر ابن العربي على الأخذ عن الغزالي وحسب، بل طوف على كثير من البلدان، وتعرف على رجالات هذا الفن، وصحبهم، ودخل في طريقهم... حيث قال: "وأفنيت عظيما من الزمان في طريقة الصوفيين، ولقيت رجالاتهم في تلك البلاد أجمعين، وما كنت أسمع بأحدهم يشار إليه بالأصابع، أو تثنى عليه الخناصر، أو تصيخ إلى ذكره الآذان، أو ترفع إلى منظرته الأحداق، إلاّ رحلت إليه قصيا، أو دخلت إليه قريا..."[9]، ولم يزل -كما يقول- "أطلب هذا الفن (التصوف) في مظانه، في مراجعة شيوخه فيه، حتى وقفت على حقيقة مذهبه"[10]
شيوخه:
ارتحل مع أبيه، وسمعا ببغداد من طِرادِ بن ِ محمد الزَّينبي، وأبي عبد اللّه النِّعالي، وأبي الخطّاب ابنِ البَطرِ، وجعفر بن السَّرّاج، وابن الطُّيُري، وخلقٍ، وبدمشق من الفقيه نصرِ بنِ إبراهيم المقدسي، وأبي الفضل بن الفُرات، وطائفة، وبيت المقدس من مكيِّ بن عبد السلام الرُّمَيلي، وبالحرم الشريف من الحُسين بن علي الفقيه الطَّبريِّ، وبمصر من القاضي أبي الحسن الخِلَعي، ومحمد بن عبد الله بن داود الفارسي وغيرهما. وتفقَّه بالإمام أبي حامد الغزالي، والفقيه أبي بكر الشاشي، والعلامةِ الأديب أبي زكريا التّبريزيّ...، وذكر أبو القاسم بنُ عساكر أنهُ سَمعَ بدمشق أيضا من أبي البركات ابن طاووسن والشريف النسيب، وأنه سَمعَ منه عبد الرحمن بنُ صابر، وأخوه، وأحمد بنُ سلامة الأبّار، ورجع إلى الأندلس في سنة إحدى وتسعين و أربع مئة.[11]
تلامذته:
حدَّث عنه: عبد الخالق بنُ أحمد اليُّوسفيُّ الحافظ، وأحمد بنُ خلف الإشبيليُّ القاضي، والحسن بنُ علي القرطبي، وأبو بكر محمد بنُ عبد الله الفِهريُّ، والحافظ أبو القاسم عبد الرحمان الخثعميُّ السُّهيلي، ومحمد بن إبراهيم بن الفخَّار، ومحمد بن يوسف بن سعادة، وأبو عبد الله محمد بن علي الكتاميُّ، ومحمد بن جابر الثعلبيُّ، ونَجَبَةُ بن يحيى الرُّعينيُّ، وعبد المنعم بن يحيى بن الخلوف الغرناطيُّ، وعليُّ بن أحمد بن لبّال الشَّريشيُّ، وعدد كثير، وتخرج به أئمة، وآخر من حدث عنه في الأندلس بالإجازة في سنة ستَّ عشرةَ وستِّ مئة أبو الحسن عليّث بنُ أحمد الشَّقوريُّ، وأحمد بن عُمر الخزرجيُّ التاجر، أدخل الأندلس إسنادا عاليا، وعلما جمّا.[12]
وفاته:
توفي صاحب الترجمة رضي الله عنه بالعدوة ودفن بمدينة فاس في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة.[13]
[1] . موسوعة أعلام المغرب، 1/355، دار الغرب الإسلامي، ط2، سنة 2008م.
[2] . وفيات الأعيان، 4/116، دار الكتب العلمية، ط1 سنة 1998م.
[3] . سير أعلام النبلاء للذهبي، 20/198، مؤسسة الرسالة، ط11 سنة 2001م.
[4] . تطور المذهب الأشعري في الغرب الإسلامي-تأليف الأستاذ يوسف احنانة-منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية/2003 -ص:110
[5] . مقدمة ابن خلدون، بتصرف، تحقيق عبد الواحد وافي، ج2، ص616 وما بعدها، مكتبة الأسرة 2006م القاهرة.
[6] . حضارة الموحدين للمنوني، ص 192، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى سنة 1989.
[7] . قانون التأويل ص14-15، (مخطوط خاص).
[8] . العواصم من القواصم لابن العربي المعافري، ص24، دار التراث، الطبعة الأولى سنة 1997م.
[9] . قانون التأويل ص19.
[10] . نفسه.
[11] . سير أعلام النبلاء للذهبي، 20/198، مؤسسة الرسالة، ط11 سنة 2001م.
[12] . نفسه.
[13] . وفيات الأعيان، 4/117.