مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكأعلام

أبو الوليد الباجي ذو الفنون

 

            إعداد دة. أمينة مزيغة

            باحثة بمركز دراس بن إسماعيل

          الإمام الحافظ القاضي سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي أبو الوليد الباجي – رحمه الله- ولد حوالي سنة ثلاث وأربع مائة، من أسرة علم وتقوى ونبل وحسن تديُن، فقد كان والده من أهل العِفَّة والصلاح، ووالدته فقيهة عابدة، وهي بنت فقيه الأندلس أبي بكر محمَّد بن موهب القبري المعروف بالحصار، وسط هذه الأسرة العربية الأصيلة، وفي كنف هذه البيئة العلمية نشأ أبو الوليد ونال حظَّه من التربية الحسنة، وأخذ تعليمَه الأوَّلي في سن مبكرة، مما ساعده على تنمية قدراته الذهنية ومواهبه الفكرية و فسح أمامه آفاقًا واسعةً تبشر بغدٍ مُشرقٍ بالعلم والمعرفةِ، فتوجه برغبة أكيدة إلى طلب العلم، وعمل على تحصيل مدارك العلوم والمعرفة بشتى الوسائل.

          كان أبو الوليد رحمه الله، فقيهاً نظارا محققا راوية محدثا، متكلما أصوليا فصيحا شاعرا، حسن التأليف، متقن المعارف، كان وقوراً بهياً مهيباً جيد القريحة، قال الأمير أبو نصر ابن ماكولا في إكماله: “هو من باجة الأندلس، متكلم فقيه أديب شاعر، كان جليلاً، رفيع القدر”، قال أبو علي الصدفي الحافظ: “هو أحد أئمة المسلمين لا يسأل عن مثله ما رأيت مثله”، وقد كان للمناظرات العلمية التي أجراها بالأندلس، وظهور تآليفه الأصولية والفقهية، وانتشار علمه وذيوع صيته، وما تميز به من صفات خلْقِية في هيئته وسمته ووقاره، فضلاً عن اتصافه بالديانة والتقوى، الأثر البالغ في نفوس الناس، كما كان تكوينه العلمي والأدبي محلَّ ثقتهم.

           كان في رحلته مقلاً من دنياه حتى احتاج في سفره الى القصد بشعره، واستأجر نفسه مدة مقامه ببغداد مستفيضاً لحراسة درب، فكان يستعين بإجارته على نفقته، وبضوئه على مطالعته. ثم ورد الأندلس وحاله ضيّقة، فكان يتولى ضرب ورق الذهب للغزل ويعقد الوثائق، ومما يروى أنه كان يذهب للقراءة وفي يديه أثر المطرقة وصدأ العمل، إلى أن فشا علمه وعرف واشتهرت تواليفه، فعُرف حقه وقدره، وجاءته الدنيا راغمة، وعظم جاهه وقرّبه الرؤساء وقدّروه قدره، واستعملوه في الأمانات والقضاء. وقد كان لكلامه طلاوة، أخذت قلوب الناس، وكان له تصرف في فنون تقصر عنها ألسنة فقهاء الأندلس في ذلك الوقت، لقلة استعمالهم النظر وعدم تحققهم به، فلم يكن يقوم أحد بمناظرته، فَعَلا بذلك شأنه، وسلموا الكلام له …

          عُرف رحمه الله بالمثابرة في الطلب والاجتهاد و التحصيل لا يَهاب في سبيل تحقيق رغبته حر الصيف ولا برد الشتاء، فأخذ عن شيوخ كثر منهم: ابن الرحوي وأبي الأصبغ، ابن أبي درهم وأبي محمد مكي وأبي شاكر القبري (خاله) ومحمد بن اسماعيل بن فورتش، وأبي سعيد الجعفري، والقاضي يونس بن مغيث، وخلال إقامته بالحجاز مع أبي ذر سمع هناك أيضاً من أبي بكر المطوعي، وأبي بكر ابن سحنون، وابن صخر، وابن أبي محمود الورّاق وغيرهم. ثم رحل الى بغداد فدرس الفقه وسمع الحديث عن أئمتها فلقي بها جلّة من الفقهاء كأبي الفضل بن عمروس إمام المالكية، وأبي الطيب الطبري، وأبي إسحاق طاهر بن عبد الله الشيرازي الشافعي، وأبي عبد الله الدامغاني، والصيمري رئيس الحنفية، وسمع بها من أبي إسحاق البرمكي، وغلام الأبهري، وأبي عبد الله الصوري، وأبي بكر الخطيب، وأبي النجيب الأرموي، وأبي الحسن العتيقي وأبي الفتح الطناجري، وأبي القاسم التنوخي، وغيرهم.

         وسمع منه وأخذ عنه وتفقه عليه خلق كثر منهم: الإمام أبو بكر الطرطوشي وابنه أبو القاسم، وأبو محمد بن أبي قحافة، وأبو الحسن بن مفوز وغيرهم، و القاضي أبو عبد الله بن شبرين، وسمع منه كذلك أبو علي الحافظاني، والقاضي أبو القاسم المعافري والفقيه أبو محمد ابن أبي جعفر، وأبو بحر سفيان بن العاصي وغيرهم كثير.

          خلّف أبو الوليد – رحمه الله – آثارا علمية نافعة، وثروة وافرة قيِمة من الكتب والرسائل في مجالات شتى وفنون متنوعة جمعت بين المنقول والمعقول، والرواية والدراية، تشهد له بالمعرفة وسعة علمه ومكانته الراقية بين علماء زمانه، وقد حفظت لنا مختلفُ المصادر والمراجع عناوين كتبه ومسائله منها ما خرج إلى حيِز الوجود مطبوعا و متداولاً، ومنها ما بقي مخطوطًا منها: “المنتقى” في شرح الموطأ وهو في عشرين مجلداً لم يؤلف مثله في الفقه و المعاني، وقد اختصر منه كتاباً آخر سماه الإيماء في خمس مجلدات، و”كتاب المقتبس في علم مالك بن أنس” لم يتم أيضاً، و”كتاب المهذّب في اختصار المدونة”، وهو اختصار حسن، و”شرح المدونة” لم يتم و”مختصر المختصر في مسائل المدونة” و”مسألة مسح الرأس”، و”مسألة غسل الرجلين” و”مسألة اختلاف الزوجين في الصداق” وغير ذلك، ومن تواليفه في الحديث: كتاب “اختلاف الموطآت”، ومن كتبه في الأصول والكلام كتاب “التسديد الى معرفة طريق التوحيد”، وكتاب “إحكام الفصول في أحكام الأصول”، وكتاب “الإشارة في الأصول”، و”كتاب الحدود”، وكتاب ” المنهاج في ترتيب  الحجاج”، وتواليفه كثيرة مفيدة، ككتاب “سنن الصالحين وسنن العائدين”، وكتاب “سبيل المهتدين” وغيرها كثير.

         توفي رحمه الله  بألمرية في التاسع عشر من رجب سنة أربع وسبعين وأربع مائة عن إحدى وسبعين سنة.

 

بعض مصادر ترجمته:

 

ترتيب المدارك 3/623.

جمهرة فقهاء المالكية 1/556 رقم: 490.

الديباج المذهب 1/330 رقم: 239.

شجرة النور الزكية 1/178 رقم: 378.

تاريخ قضاة الأندلس 109.

سير أعلام النبلاء 14/55 رقم: 4669.

الأعلام 3/125.

الفكر السامي 551 رقم:577.

معجم المؤلفين 2/261.

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق