مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

أبعاد الخطاب الصوفي من الإقصاء إلى الإحتفاء

      أن تتناول ندوة دولية موضوع “الخطاب الصوفي وأبعاده المعرفية والحضارية” في قلب الجامعة المغربية وفي أبهائها العلمية، أمر ليس بـ “الاعتيادي” وإن لم يلتفت إلى “لا اعتيادية” الكثيرون. ذلك أنه وحتى وقت قريب يمتد إلى العقد الأخير من القرن الماضي، كان هذا الأمرُ معتاصا إلى حدٍّ بعيد، إذ كانت تحاصره مسبقات إيديولوجية جمة، وتعارضه “بداهات فكرية” شتى، نظرت غالبا إلى التصوف نظرة توجس، و إلى المشتغلين به في حقول الآداب والتاريخ والفكر الإسلامي..، على نذرتهم،  نظرةَ ارتياب. فالتصوفُ، في المنظور الذي كان سائداً وسيداً،  علامةُ “عقل مستقيلٍ”، وحمّال دعاوى “الانعزال” و”التواكل” و”إسقاط التدبير”؛ بل خزان “خرافات” و”تشعوذ” لا يليق بمنبر الجامعة بما هو منبر “العقلانية” و”التقدمية” و”العلمية”..، الذي تحمل رسالتَه “أنتليجينسيا” الثقافةِ الحديثة، أن يتبناه أو يصغي إليه كأفق فعال؛ لكون التصوف، في اعتبار هذه الأنتلجيتسيا، مناقضٌ لمشروعها  الثقافي والمجتمعي الطلائعي.

     المحاصرةُ ذاتُها كانت تطولُ التصوفَ في المؤسسات العلميةِ الدينية المستحدثة بعد الاستقلال، وإن كانت تركن إلى سند إيديولوجي نقيض للسابق، بحيث تستنفر الرؤيةُ السلفية “الإصلاحية” معجمَها الديني الخاص لـ”تبديع”  و”تفسيق” التصوف وسلوك أهله، وخصوصا منه ما تسميه “التصوف الفلسفي”، أي تصوف العارفين المنظرين لتجاربهم بـ “لغة الفلسفة والإشراق”، و”التصوف الطرقي” أي السائد في سلوكاتِ وطقوس ومراسيم الزوايا والمزارات الصوفية. وقد ازدادت هذه المحاصرة السلفية للتصوف وتفاقمت عقب انتعاش ما صار يسمى “الصحوةَ الإسلامية”، خصوصا بعد انتصار الثورة الخمينية عام 1979م، وانتشار المد الوهابي بفضل الطفرة البترولية الخليجية.

     إلا أن تحولات إيديولوجية كبرى طرأت وأسهمت في تغيير الموقف العام من “التصوف”؛ منها سقوطُ جدار برلين، ودخول الفكر الماركسي في أزمة تاريخية، وبروز ما سُمِيَّ بـ”النظام العالمي الجديد”؛ بما هو “نظام” أحادي القطب وذو منزع هيمني عولمي دفع “الصحوة الإسلامية” إلى أن تتحول، في جزء منها، إلى رد فعل متطرف حيال تلك الهيمنة، خصوصا و أن تلك “الصحوة” التي أسهم الغربُ الليبرالي في نسج ثوبها الجهادي في لحظة سابقة لمجابهة الجناح الشيوعي، قد تركها هذا الغرب تترهل وتتفسخ بعد أن قضى منها وطره، فكان أن أصبح “صديقُ” الأمس “عدو” اليوم، لتصل العداوة  و العنف المتراكمةُ أسبابُه – في فشل السياستين الداخلية و الخارجية للعالم الإسلامي وفي الحروب المتوالية فيه و عليه – ذروتَهُما في أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م.

     في هذا السياق، تمت معاودةُ النظر في الموقفين المحاصِرين للتصوف؛ معاودة تضافرت في استدعائها، إلى جانب التحولات السابقة، تحولاتٌ أخرُ مست السياقين المعرفي و الحضاري، و قادت إلى إعادة التأمل في التصوف من أماكن نظرية مغايرة تتبنى عقلانية غير وضعانية، تنفتح على المعنى والمقدس والروح والأسطورة والخيال…إلخ، على المستوى المعرفي؛ وتقتفي أثر صورة جمالية روحية كونية للإسلام تجلت مع نماذج صوفية عرفانية كبرى، كان الغرب، في أحايين شتى، سباقا إلى التنبيه إلى صوتها الإسلامي الكوني المنفتح؛ وذلك  بحكم حاجته الراهنة إلى المعنى لتجاوز آفات التحديث المادي المعطوب الذي آل إليه الغربُ على المستوى الحضاري.

     لذا، ستشهدُ كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط ندوة دولية كبرى في 2002 بعنوان “ابن عربي أفق ما بعد الحداثة”؛ والعنوان غني بالدلالات باذخ بالإيحاءات. نعم، لم يكن تنظيمها سهلا، وقد “ناضل” المنظمون  من أجل إقامتها وإنجاحها؛  وذلك  بسبب وجود “مقاومة” رافضة هي من ظلال المحاصرتين الآنفتين. لكن الشروط الإيديولوجية والمعرفية والحضارية المتغيرة جعلت الأمر ممكنا، بل أسعفت في أن تظهر وحداتٌ علمية دراسية خاصة بالتصوف وأخرى تعتبره وتحيل عليه؛ وإن لم تختلف بإطلاق ظلال محاصرة التصوف من الجامعة، أكان سندها الإيديولوجي “تقدميا” أم “سلفيا”.

     أعود اليوم إلى هذه الإضاءات لنعرف قُلًّا من جُلِّ الدلالات البليغة التي يحملُها تنظيم ندوة 19 و20 نونبر 2014م حول “الخطاب الصوفي وأبعاده المعرفية والحضارية” برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، وكذا لنعرف بعض الرهانات الجديدة التي صارت إليها أبعادُ هذا الخطاب اليوم. في ضوء هذا، وبتتبع المداخلات والنقاشات الغنية التي شهدتها الندوة نستطيع الإدلاء الإجمالي بالملاحظات التالية:

     أ- تنوع الاهتمام بالخطاب الصوفي اليوم وتوزعه بين “السؤال الشرعي” و”السؤال الفلسفي” و”السؤال الجمالي” و “السؤال الحضاري”، وهو ما جعلنا إزاء غنى في المقاربات جلَّت غنى الخطاب الصوفي الذي ظلَّت جلُّ أبعاده مكبوتة ومنسيةً مدة ليس باليسيرة للأسباب المومئِ لبعضها آنفا.

     ب- اختلافُ محفزات الذهابِ لتناول الخطاب الصوفي واختلاف آفاقها؛ بين ما هو علمي، وما هو ذوقي، وما هو ديني، وما هو جمالي، وما هو استكشافي، وما هو إيديولوجي، وهو الأمر الذي أفضى بالضرورة إلى اختلاف مناهج الاقتراب ونتائجه؛ بل تضاربها أحيانا.

     ج- بروزُ الخطاب الصوفي في بؤرة توتر قرائي تتجاذبُه أطراف ثلاثة: قراءة وجهتها “تأصيلية” و سؤالُها الرئيس عدمُ إخراج التصوف من العلوم الشرعية الإسلامية، وإثبات تجدره المعرفي و العرفاني في النصين الإسلاميين التأسيسين وقراءات السلف الأوائل لهما؛ وقراءة ثانية وجهتها “حداثية” و سؤالُها الأفقُ التحريري والتنويري الذي يتيحُه الخطابُ الصوفي، وقدرتُه إلى إتاحة الإمكان لمفهوم آخر لإيمان غير وثوقي و غير مغلق و ذي وُسع روحي كوني يتسع ليس فقط لكل المذاهب الإسلامية بل لسائر الأديان؛ وقراءة ثالثة وجهنها “أكاديمية” وسؤالها علمي استكشافي يسعى إلى تحرير تناولِ الخطاب الصوفي من كل تسخير في رهانات اللحظة السياسية والحضارية، وتدعو إلى الاكتفاء بالاقتراب المعرفي الصّرف من هذا الخطاب تحقيقاً وتعريفا، ودراسته دون الاهتمام بشرعية أو لا شرعيته التأصيلية، ودون استدعاءِ اجتهاداتِ أصحابه إلى خارج نسقها المعرفي والتاريخي لتجيب عن رهاناتٍ تدخلُ ضمن لا مُفَكَّرِها في الزمان والمكان والأفق الإبستمولوجي.

     د- لكل سؤال من أسئلة هذا التوتر القرائي مظاهرُه المعرفية والجمالية، وتتبدَّى في طبيعةِ المقاربات التي يضطلع بها كل سؤال، من تناول “فقهي تأصيلي” للخطاب الصوفي بمختلف مجالاته الروحية و الأخلاقية و السلوكية؛ أو تناول “حداثي تنويري” لذات المجالات من خلال مقاربة تأويلية لأعمال صوفية تسير بها في هذا الأفق؛ أو تناول “أكاديمي صرف” يحكمُه إبراز النصوص وتحقيقُها ودراستُها دراسة منهجية تقنية تعترف بها كنصوص للبحث دون مساءلتها من حيث الوظائف المستجدة وموقعها في رهانات اللحظة التاريخية الراهنة. وتظهر أشكال التناول هذه أيضا على المستوى الجمالي في تنوع طبيعة ومنهجية مقارباتها للنصوص الشعرية والسردية الصوفية وللممارسة الموسيقية السماعية؛ ذاك المُنْتَج النصي أو السَّماعي المستدعى سواء للقراءة و التحليل أو للاستلهام والمحاورة الأدبية والطربية.

    وإجمالا، فإنَّ ما أتاحَه كلٌّ من فريقِ بحث “مسارات الخطابِ الصُّوفي” بكليةِ الآداب بالرباط ومؤسسةُ “مؤمنون بلا حدود” في الندوةِ المذكورة، من حوار وتفاعل ونقاش فعال ومثمِر بين مختلف أطراف التوتر القرائي المشار إليه، يُعَد بحقٍّ لحظةً معرفية بالمعنى البحر للكلمة؛ لحظة استضافت، بكرمٍ ورحابة، الأصواتَ المختلفةَ التي  من شأن تفاعُلِها أن يفتحَ البحث على آفاق مجهولة، ويُعيدَ الاعتبارَ للجامعة بما هي فضاءُ حوار علميّ مُنتِج ومُفَكِّكٍ لكل الوثوقيات التي تتعلم، بالحوار وفيه ومنه، كيف تتواضعُ أمام لا محدودية المعرفة، وكيف تتخلى عن أوهامِ امتلاك الحقيقة؛ لتؤمن بالضرورةِ الحتمية للسير المشترَك على درب اكتشاف هذه الحقيقة في تعددها ولا نهائيتها.

د. محمد التهامي الحراق

• دكتوراه في الآداب من جامعة محمد الخامس بالرباط.
• المسؤول الثقافي والفني عن مؤسسة الذاكرين للأبحاث الصوفية وموسيقى السماع ـ الرباط
• عضو في مركز خديجة لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
• نائب رئيس مؤسسة مولاي عبد الله الشريف للدراسات والأبحاث ـ فرع الرباط.
• مشرف ومعد للعديد من البرامج التلفزية والإذاعية حول التصوف، منها:”عباد الرحمن”، و”ذكر ومذاكرة”، و”مرحبا بالمصطفى”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق