أَسرارُ البَيان في القُرآن(45) البَيانُ في الفِعْل (يَيْأَس) في قَولهِ تعَالى: ﴿أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً﴾

وذلكَ أنَّك تجدُ الفعْلَ (يَئِسَ يَيْأَسُ) في القُرآن قدْ جَاءَ في عددٍ منَ الآياتِ بِصِيَغِ مُختلفة: (يَئِسَ – يَئِسُوا - يَئِسْنَ - اسْتَيْأَس – تَيْأَسُوا - يَؤُوس ...). والمعْنى الّذي يُصْرفُ إليه هذَا الفعلُ في الآياتِ هوَ المعنَى المعرُوفُ، وهوَ: القُنُوطُ وانْقِطَاع الرَّجَاءِ، وهوَ ما أَجمَعتْ عليهِ مَعاجمُ اللُّغَة، جاءَ في(الصِّحَاح) (للْجَوْهريّ): «الْيَأس: القُنُوط». وقالُوا أيضاً: اليَأسُ: ضِدّ الرّجَاء، واليَأسُ: نَقيضُ الرَّجَاء، وقدْ جمَعها (المرتَضَى الزَّبِيديّ) في (تَاج العَرُوس) بقَولهِ: «الْيَأسُ: القُنُوط، وهوَ ضِدّ الرّجَاء، أوْ هوَ قَطعُ الأمَل عَن الشَّيْء». وقدْ وردَ ذلكَ في إحدَى عَشرةَ آيةً، وذلكَ في مثل قولهِ تعالَى في سُورة (الممْتَحنَة): ﴿قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ القُبُور﴾، وقولهِ تعالَى في سُورَةِ (العَنكَبُوت): ﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي﴾، وقولهِ تعالَى في سُورَة (يُوسُف): ﴿فَلَمَّا اسْتَـيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً﴾، وقولهِ تعالَى في سُورة (فُصِّلَت): ﴿وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ﴾.
وكُلّها تُكتبُ في المصحَف علَى المألُوفِ من قَوَاعدِ رَسم الحُرُوف وضَبطِ الهَمزَة، إلّا في ثَلاثِ مَواضعَ في آيَتَينِ، اثنَان منهُما في سُورَة (يُوسُف)، وهوَ قولهُ تعالى: ﴿وَلَا تَــــاْيْـــــَٔــسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِنَّهُۥلَا يَاْيْــــَٔــسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْقَوْمُ ٱلْكَــٰــفِرُونَ﴾، والثَّالث في الآيَة الّتي نحنُ بصدَدهَا، من سُورةِ (الرَّعْدِ)، وهيَ قوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَفلَمْ يَاْيْـــَٔــسِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعًا﴾، حيثُ اختلفَ الرَّسم بزيَادَة (أَلفٍ) بينَ (حَرفِ المضارَعَة) و(يَاء الفِعْل)، عَليهَا سُكونٌ، إذْ تُرسمُ خَطًّا ولا تُنطقُ لفْظاً. وقدِ اتّفقَ أهلُ الاخْتِصاص في عِلم الرَّسم، علَى أنَّ منْ عللِ اخْتلافِ الرَّسمِ بالزّيادَة أو الحَذفِ والإبْدال وغَيرهَا، أنْ تكونَ الكلمةُ مُحتمِلةً لقرَاءَتيْن. وأنتَ واجدٌ أنّهم ذكَروا أنّ (أبَا الحَسَن البَـزّيّ – تـــ:250هـ)، مُقرئ مَكّة، رَوى عنِ (ابن كَثير) قراءَة الفعْل بالقَلبِ المكانيّ: (يَأْيَس)، ثمّ تُخفّفُ الهَمزَة: (يَايَس). قالَ (مكّيّ القَيْسي) في (الكَشفِ عنْ وُجُوه القِراءَات السَّبْع): «قولُهُ: ﴿أَفَلَمْ يَيْأَسِ﴾ قرَأهُ (البَزّيّ) بأَلفٍ بَينَ يَاءَيْنِ مَفتُوحَتَيْن مِنْ غَيْر هَمزٍ، وقرَأَ البَاقُونَ بِيَاءيْن، الثّانيَة ساكِنةٌ بَعدَها هَمزَةٌ مَفتُوحةٌ. وحُجّة مَن قرأَ بغَيرِ هَمزٍ أنَّهُ قلَبَ الهَمزَةَ في مَوضعِ اليَاء السَّاكنَة الثَّانيَة، فصَارَت (يَأْيَس)، ثمّ خفَّف الهَمزَة بالبَدَل، لأنّها ساكِنَة، فَوزنُهُ في الأصْل (يَفْعَل)، وبعدَ القَلبِ (يَعْفَل)، عَينُ الفعْل قبْلَ الفَاء».
وعَلى ذلكَ، فإنَّ رسمَ الكلمَة في (المصحَف الإمَام)، حيثُ لا يُوضعُ النَّقطُ ولا تُصوّر الهمزَةُ بصورَة لهَا في الخَطّ، فإنّ الفعلَ يُكتبُ هكذَا: (ىــــاىـــــــس)، فيَحتملُ بذَلكَ القِراءَتينِ؛ قراءَةِ ما رَواهُ (البَزّيّ): (يَايَس) بنَقط اليَاءَينِ، وبَينهُما ألفُ مَدٍّ، وقرَاءَةِ غيرهِ: ( يَاْيْـــــَٔــــس)، بزيَادَة (الأَلف)خَطّاً، وعَليهَا سُكونٌ يُشيرُ إلى إسقَاطِها في اللَّفظِ فلا تُمَدُّ اليَاء، ثمّ إظهَارِ صُورَة الهَمزَة بعدَ الياءِ الثَّانيَة، رأسَ (عَيْنٍ) كمَا صَوّرَها (الخَليلُ الفَراهِيديّ).
لكنَّ الّذي يَستوقفُ النّاظِر في هَذه الآيَة منْ سورَة (الرّعْد)، أنّهَا قدْ خالفَ المعنَى فِيهَا مَعْنَى القُنُوط، وقَطعِ الرَّجَاء والطَّمَع، لأَنَّ السّياقَ فيها مختلفٌ، فيوجّهُ الدَّلالةَ فِيهَا تَوْجيهاً مُختَلفاً. فالفِعْلُ (يَيْأَس) هُنَا، إِذَا صَرَفْنَاهُ إِلَى مَعْنى (القُنُوط وقَطْعِ الرَّجَاء)، أَشْكَلَ عَلَيْنَا الْأمرُ، لأنَّ ( اليَأْسَ) بهذَا المعنَى، مُسْتَبعدٌ عن أهْل الإيمَان. فكيْفَ يكونُ المفْهُومُ منَ الكَلام أنْ نقولَ: أَلَمْ يَقنَطِ الَّذينَ آمَنُوا؟ فهوَ علَى الظَّاهرِ منَ التَّأويلِ لَأمرٌ في غَايةِ البُعدِ والامْتنَاع.
غيرَ أنّ نظرةً فاحصَةً في كُتب اللّغَة والتّفاسِير تَكشِف لكَ عنْ معنًى خَفِيٍّ غَنِيٍّ يَحْتَمِلُهُ الفَعْلُ (يَئِسَ). يَقُولُ (أحمَدُ بنُ فارسٍ) في (مَقاييسِ اللُّغَة): (اليَاءُ والهمزةُ والسِّينُ، كَلِمَتَان: إِحْدَاهُما: اليَأْسُ: قَطْعُ الرَّجَاء.... والكَلِمَةُ الأَخْرَى: أَلَمْ تَيْأَس، أي : أَلَمْ تَعْلَمْ . وقَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أيْ: أَفَلَمْ يَعْلَمْ»، فَمَعْنَى (اليَأس) هُنَا ، هُوَ العِلْمُ والتَّبَيُّنُ. وكانَ (أبو عُبيدَة) قبلهُ قدْ قالَ في (مَجاز القُرآن): «مَجَازُهُ: أَلَمْ يَعْلَمْ ويَتَـبَيّنْ». وقدْ أوردَ (الطّبريّ) في (تَفسيرهِ) عَدداً منْ أهلِ التَّأويلِ ذَهبُوا هذَا المذهَبَ، فقالَ: «وأمَّا أهْلُ التأويلِ، فإنّهُم تَأوَّلُوا ذَلكَ بمَعنَى: أَفَلَمْ يَعْلَمْ ويَتَـبيَّنْ». وذكرَ منهُم (عَليّ بن أبي طالبٍ) و(ابن عَبّاس) و(مُجاهِد) و(قَتادَة). وقدْ ورَدَتْ في كُتُبهِم بِضعَةُ أبياتٍ استَدلُّوا بهَا علَى أنَّ العَرَبَ كانتْ تَعرفُ ذلكَ في كَلامِها، قالَ (ابنُ قُتَيبَة) في (غَريبِ القُرْآن): ﴿أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، أيْ: أَفَلَمْ يَعْلَمْ. ويُقالُ: هيَ لغَة للنَّخْعِ، وقالَ الشّاعر:
أَقُولُ لَهُمْ بالشِّعْب إذْ يَأْسِرُونَنِي /// أَلَمْ تَيْأَسُوا أَنِّي ابنُ فَارِسِ زَهْدَمِ
أيْ أَلَمْ تَعْلَمُوا». - النخع: قبيلة من اليمن-
وهذهِ الكلمَةُ ورَدتْ ضِمْنَ المسَائلِ الّتي سَألَ (نافِعُ بنُ الأَزرَق) عَنها (ابنَ عبَّاسٍ)، وهيَ المسألةُ (44) في كتَاب (مَسائِل نَافِع بْنِ الأَزْرَق): «قالَ: يَا بنَ عبّاسٍ: أَخبِرْني عنْ قولِ اللهِ عَزّ وَجَلّ: ﴿أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، قالَ: (أَفَلَمْ يَعْلَمِ الَّذينَ آمَنُوا)، بلُغَة (بَني مَالكٍ)، قالَ: فَهلْ تَعرفُ العَرَبُ ذلكَ؟ قالَ: نعَمْ، أمَا سَمعْتَ (مَالِك بنَ عَوفٍ) وهوَ يَقولُ:
لَقَدْ يَئِسَ الأَقْوَامُ أَنّي أَنَا ابْنُهُ /// وَإِنْ كُنْتُ عَنْ أَرْضِ العَشِيرَةِ نَائِيَا
وأنتَ، لا غروَ، مدركٌ أنّ هذَا الانْفِساح في الدَّلالَة ههنا إنّما وطَّأَ لهُ السّيَاق في مَقالِه ومَقامِهِ؛ فالْبنَاءُ اللُّغويّ، وَرَصْف المبَاني نَظماً، علَى هَذا الوَجهِ المخْصُوص، المتَمثِّل أَساساً في حَذْف المتَعلّق الّذي يُهَـيّــــئُ لهُ حرفُ الجَرّ (مِنْ)، بقولِنَا عادَةً: (يَئِسَ مِنْ كَذَا)، وهوَ ما جَاءَت عليهِ الآياتُ الأُخرَى: ﴿قَدْ يَئِـسُوا مِنَ الآخرَةِ﴾، ﴿يَئِـسْنَ مِنَ الْـمَحِيضِ﴾، ﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ﴾... كلُّ ذلكَ ذَهبَ بالمعنَى هذَا المذهَبَ، وجعَلَ الفِكْر يَستَدعي ظِلالَ المعَاني الْـمُستَكنَّة في خفَاءٍ، لا يَجتَلِيـهــا إلّا نَظرٌ ثاقِبٌ ، ومُستَـبْصرٌ لَبيبٌ، أبْصرَ الخَيطَ الرَّفيعَ الخفيَّ الوَاصلَ بينَ (يَئِسَ) وَ(عَلِمَ).
لكنَّ العربيّةَ في جَلالِهَا أَفْخَم، والإحاطَةُ بهَا غايَةٌ لا تُدركُ. فمنْ حيثُ انْتَهى هؤلاءِ، قالَ آخرُونَ: إنَّ الفعلَ (يَئِسَ) هَهُنا، جاءَ علَى أَصلهِ في إفَادَة القُنُوط وانْقِطاعِ الرّجَاء، وأنَّ في الكَلامِ حَذفاً. والتَّقديرُ: (أفَلمْ يَيْأَس الَّذينَ آمنُوا مِنْ إِيمَان الكُفَّار؟). ذلكَ أنَّ المؤمِنِين، كانُوا يَطمَعونَ أنْ يُؤمِنَ مَنْ كَفَر بعدَ بَيانِ الآيَات. فكانَ الرّدُّ حاسِماً بأنَّ اللهَ يَهدِي منْ يَشاءُ: ﴿أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً﴾. فَهؤُلاء قدْ خَتمَ اللهُ علَى قُلوبهِم، فلَا يُؤمنُونَ. وذلكَ نَظيرُ قولهِ تعالَى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾، ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾.
وَجاءَ في (معَاني القُرآن) لِلإمَام (أَبي جَعفَر النَّحّاس) قولُه: «قالَ (الكِسَائيّ): لا أَعرفُ هذهِ اللّغَةَ، ولا سَمعتُ مَن يَقولُ: يَئِسْتُ بمَعنَى عَلِمْتُ. ولَكنّهُ عندِي منَ اليَأْسِ بِعَينهِ؛ والمعنَى: إنّ الكفَّارَ لَـمّا سَألُوا تَسْييرَ الجِبَال بالقُرآنِ، وتَقْطيعَ الأَرْض، وتَكليمَ الْـمَوتَى، اشْرَأبَّ لذَلكَ الْـمُؤمنُون وطَمعُوا في أَنْ يُعطَى الكفّارُ ذلكَ، فيُؤْمنُوا، فقالَ اللهُ: ﴿أَفَلمْ يَيأَس الَّذينَ آمَنُوا﴾، أيْ: أفَلَمْ يَيْأَس الَّذينَ آمَنُوا مِنْ إيمَان هَؤُلاءِ، لِعِلمِهمْ أَنَّ اللهَ لَوْ أرَادَ أنْ يَهديَهُم لَهَدَاهُم». ومثلُ ذلكَ مَا قالَ (الكرمَانيّ) في (لُبَاب التَّفْسِير): «وقِيلَ: أفَلمْ يَيْأَس الَّذينَ آمَنُوا مِنْ إيمَانِ هؤُلاءِ الَّذينَ وَصَفَهُم أنَّهُم لَا يُؤمنُونَ، لأنّهُ قدْ قالَ: ﴿أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا﴾، فَيكونُ (يَيْأَس) علَى أَصلِهِ». وقدْ أجادَ (أَبو حَفصٍ، نَجمُ الدّين عُمَرُ بنُ مُحمّدٍ النَّسَفيّ-تــــ:537هـ)، في بَيان ذَلكَ في كتابهِ (التَّيْسِير في التَّفسِير)، حيثُ قالَ: «وقيلَ: إنَّ طائفَةً مِنَ المسلِمينَ قالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَجِبْ هَؤلاءِ الكفَّارَ إلَى مَا سَألُوا، فَعَسَى يُؤْمِنُونَ، فقالَ اللَّهُ تَعالَى: ﴿أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا﴾؛ أيْ: إنَّ اللَّهَ قادِرٌ على أنْ يَـهدِيَ كُلَّ النَّاسِ، ولَكِنْ لا تَطمعُوا أَنتُمْ في إيمَانِهِم، فإنِّي لا أَهْديهِم لِعِلْمي باختِيَارهِمُ الضَّلالَ».
ولعَلَّ ما ذَهبَ إليهِ بعضُ أهلِ العلمِ في الرَّبطِ الدّلاليّ بينَ (اليَأسِ) و(العِلْم)، أنْ يَكونَ لَفتَةً بيَانيَّةً جديرَةً بالاعْتِبار. فَفي جَمْع دَقِيقٍ بَيْنَ اليَأْسِ والعِلْمِ فِي هَذَا السِّيَاقِ البَدِيعِ، قالَ (الزَّمخشَريّ): «وَقيلَ: اسْتُعْمِلَ اليَأْسُ بِمَعْنَى العِلْمِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَاهُ، لأَنَّ اليَائِسَ عَنِ الشَّيْءِ عَالِمٌ بِأَنَّهُ لا يَكُونُ». وعلَى هذَا المعنَى، فاليَائسُ منَ الشّيْء، هوَ في الحَقيقَة عَالمٌ بأنَّهُ غيرُ حاصلٍ أَلبَتّةَ. وهيَ غوصَةٌ لَطيفةٌ علَى دُرَرٍ منْ دَفائِنِ البَلاغَة في هَذهِ اللُّغةِ الشَّريفَة اللّطيفَة، حيثُ يُصبحُ العِلْمُ بالشَّيءِ مُقتَضياً لليَأْسِ منْ حُصُول ما يُخَالفُهُ. واليأس من الشيء، يقتضي العلم بأنه غير حاصل.
فقَولكَ لشَخصٍ: (قَدْ يَئِـسْتُ أَنَّكَ كَريمٌ)، فذَلكَ يَعني أَنّكَ قدْ عَلمتَ منْ حالهِ عِلماً، اقتَضاكَ أَنْ تَيأَسَ منْ كَونهِ بَخيلاً. وبعبَارةِ أوضحَ، قدْ دَقَّقتَ في صفَةِ الكرَم فيهِ، وقَلّبتَ النَّظرَ، وجَرّبتَ واخْتبَرتَ، حتَّى يَئِستَ منْ أن تَقعَ علَى مَطلُوبٍ يشينُهُ، واكتَمَل عِلمُكَ بأمْرهِ، واستَوَى يَقينُكَ بخُلُوص الصّفَة فيهِ، وامْتِناعِ خلَافهَا. وإنَّ يأسَكَ منْ كشْفِ أثَر البُخْل فيهِ عِلمٌ يَقينٌ بأنَّ هَذهِ الصِّفةَ غيرُ مُلتَبسَةٍ بهِ، بلْ زادُوا وأَفادُوا أنَّ اليَأسَ راحةٌ وطُمأنينَةٌ، تدفعُ قلقَ الطَّمَع وحَيرتهُ. قالَ (الزّمخشريّ) في (أسَاس البَلاغَة): «ومنَ المجَاز: (قَدْ يَئِـستُ أنّكَ رَجلُ صِدْقٍ)، بمَعنَى: عَلمتُ... وذَلكَ أنَّ معَ الطَّمَع القَلَقَ، ومعَ انْقطَاعهِ السُّكُونَ والطُّمأنينَةَ، كمَا مَعَ العِلْم. ولذَلكَ قيلَ: (اليَأْسُ إحْدَى الرَّاحَتَينِ )».
وهَكَذَا تُدْرِكُ كَيفَ تَنْفَسِحُ الدّلالاتُ، في هَذِهِ اللّغَةِ الشَّريفَة اللَّطيفَة، بمَا يَكتنزُهُ اللَّفظُ منْ ظِلالِ المعَاني، ومَا يَسِيلُ بهِ السِّيَاق منْ رَوَافِدِ مَقَامهِ ومَقَالهِ. ولا بِدعَ ،فقدْ زَادَها القُرْآنُ شَرَفاً في البَيَان، وعُمْقاً في الدَّلالَة.