
اختلفت أنظار الباحثين في مقاربة ظاهرة العولمة، ونشأ عن هذا الاختلاف تعدد في أدبيات الخطاب العولمي، فهناك العولمة الاقتصادية، والعولمة الاجتماعية، والعولمة الثقافية، والعولمة الأخلاقية، وكلها عولمات تأثرت بالعولمة الاقتصادية، واندمجت فيها،حتى أصبحنا أمام كوجيطو عولمي جديد يتلخص. فيما يلي: "أتعولم إذن أنا موجود، لا أتعولم إذن أنا مفقود".
وهي مقولة تعكس ما يريده دعاة العولمة من فرضها على الشعوب بالقوة والإكراه، باعتبارها ضرورة حتمية للسيرورة التاريخية التي تجتازها المجتمعات الإنسانية. وقد توسل دعاة العولمة لتحقيق أهدافهم بوسائل وآليات، فاعتمدوا التقنية في ميدان العلم، والشبكة في مجال التواصل، وادعوا أن من مقاصدهم تحقيق التنمية في الميدان الاقتصادي[1].
وقد اكتسحت العولمة كل مجالات العلاقات الإنسانية، فأصبحنا أمام عولمة شاملة لكل ما يتصل بالعالم إنسانا وأرضا وعلاقات إنسانية، بدءًا من عولمة الاقتصاد، إلى عولمة الفكر والشعور والوجدان، مرورا بالهوية والثقافات والخصوصيات، وانتهاءً إلى تنميط عيش الإنسان على نمط وحيد[2].
وامتد هذا التنميط إلى القيم الإنسانية، فاختفت قيم، وظهرت قيم جديدة تحمل سمات وملامح العولمة اصطلح على تسميتها "القيم الكونية". إن العولمة أحدثت خلخلة في نسق القيم الإنسانية تغيرت معه كثير من المفاهيم، وهذا التغيير صاحبه تأسيس علاقة جديدة للإنسان مع الزمان والمكان. فالزمان أصبح زمانا كونيا مفتوحا[3]، وتحول الإنسان إلى رقم مكشوف من الأرقام يخضع لقاعدة العولمة الاقتصادية وهي: "كل شيء وكل فرد وجب أن يعرض في السوق"[4].
وأصبحت المعرفة في ظل العولمة هي ما يصل إليه الإنسان من مجموع المعلومات التي تمده بها وسائل الاتصال الحديثة.
عولمة الاقتصاد وهجرة القيم
إن منظري العولمة لا يرون فيها تحرير التجارة فقط، وتنقل الرساميل والاتصالات التكنولوجية وإنما يرون فيها التقارب المتزايد في المصالح والأهداف والتطلعات، وكذا في تماثل التصور والإدراك والرؤية نحو العالم، إن العولمة لا تعني الاندماج الذي يقتصر على تعميق الروابط التجارية فحسب، بل إنها تعني اندماجا يفضي إلى شبه تماثل في الهياكل التحتية، إلى شراكة في شبكات الإنتاج والاستهلاك وإلى نسج روابط متينة في علاقات التعاون عبر الحدود، بحيث إن الرهان المطروح سواء بالنسبة للدولة الوطنية أو المجموعة الجهوية، إنما يتمثل في اقتصاد عالمي، وبالتالي أن تكون مبادرتهما تستهدف الخارج وليس الداخل[5].
وقد لعبت الآليات التي استخدمها وتوسل بها دعادة العولمة الاقتصادية على مستوى توحيد أساليب الإنتاج والتسويق والاستهلاك دورا أساسيا في هجرة القيم المصاحبة لهذه الأساليب بفضل تفعيل وسائل ووسائط وتقنيات الاتصال الحديثة.
وهكذا فتح منظرو العولمة الحدود أما "المنتج الكوني"، بالنسبة للغرب لا بالنسبة لدول العالم المختلفة، وسعوا في تلبية رغبات "المستهلك الكوني". كما تخيلوه ورسموا ملامحه في سياساتهم وحددوا صفاته والذي يشمل دول العالم المتقدم والمتخلف.
خصائص القيم التي أنتجتها العولمة الاقتصادية
أوجدت العوملة وضعا جديدا ليس على المستوى الاقتصادي فحسب، وإنما على مستوى القيم والثقافات والعادات وإلى كل ما يعبر عنه السلوك، وقد حملت العولمة الاقتصادية معها قيم المجتمعات التي أنتجتها، وعمل منظرو العولمة على نشرها مستغلين ما تتيحه الشبكة العنكبوتية من نشر للمعلومات، وقد تميزت قيم العولمة بما يلي:
أنها قيم مستمدة من جنس النظام الذي أنتجها وأفرزها: من المعلوم أن نظام العولمة يقوم على أساس منظومة من القيم تمتح من مرجعية مادية صرفة تعتمد قانون السوق، ويقاس كل شيء فيها بمنطق الربح والخسارة، فكل قيمة لا تحمل بعدا اقتصاديا يتم استبعادها، لأن منطق السوق المعولمة يرفض اعتبار وجود خصائص وطبائع سلوكية أوسيكولوجية محلية مما يذكر بمقولة الإنسان الكوني ذي البعد الواحد، وبذلك فإن هذا التوجه يقضي بميلاد نموذج جديد للاستهلاك وللتبادل له بعد كوني، ويتم من خلاله دمج المفاهيم والقيم التي يحملها مختلف المتدخلين في المنتوج.
وفي ظل التنافسية التي ارتكزت عليها العولمة، وبفعل التفوق التكنولوجي تم تسخير آليات متنوعة ترتب عنها نوعا من التجانس في الطلب، ذلك أن المد العولمي أدى إلى إدخال تغيير كمي على الأسواق من خلال اتساع البعد الجغرافي للمعاملات الاقتصادية، بل تعدى مفعولها ذلك على شكل بروز أنواع جديدة للأسواق تتجاوز البنيات الوطنية والدولية وتتعايش وتتمفصل معها وفي نفس الوقت، تدفع إلى انبثاق أشكال تنظيمية في ميادين الإنتاج وأساليب التسويق، وهكذا تمت عولمة الطلب، وأصبح رهين قوالب معينة تحت مسمى العصرنة والجودة والرفاه... وتجلى هذا في تشابه الحاجيات، وتشابه الأذواق وتجانس في الطلب، فالمنتوجات تخضع لنفس الوصفات والمعايير، منتوجات منمطة رسخت الدعاية الإشهارية وجودها داخل المجتمعات بفعل سيادة ثقافة الصورة ووسائل الاتصال الحديثة، مما يوحي بتلاشي أنماط الاستهلاك الخصوصية في ضوء حضارة التنميط التي تسعى العولمة لفرضها[6].
إن القيم التي أنتجتها العولمة تحمل بصمات المكان والزمان أي الحضارة التي أنتجتها، إلا أن أصحابها أرادوا لها أن تكون قيما كونية طوعا أو كرها – تتجاوز الزمان والمكان لأن الهدف هو تدجين المجتمعات، وجعل الهامش يفكر بمقولات المركز، وتوحيد القيم حول القضايا التي تجتازها المجتمعات مثل قضية المرأة والرغبة وأنماط الاستهلاك في الذوق والمأكل والملبس بل وتوحيد النظر إلى الذات وإلى الآخر، وإلى القيم الكونية كالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان[7]. إنها قيم النموذج المنتصر الذي أراد للشعوب والأمم أن تكون أفواها وعقولا مستهلكة، وفرض نمط وحيد من القيم مما يتناقض ومناداة البلدان المتقدمة بالتعددية وقبول الرأي الآخر وحرية الاعتقاد، والتعبير وتجدير الديمقراطية الحقيقية لا ديمقراطية الواجهة، إن العولمة بإقصائها للآخر أرادت تأسيس نظام احتوائي لتوجيه السلوكات والعادات والأخلاق وكل القيم، فمنظرو قيم العولمة يرون أن طرفي العلاقة بين الديمقراطية والسوق مثلا متلازمة، ذلك أن الديمقراطية تتطلب السوق، كما أن السوق يتطلب الديمقراطية، ولا يخفى أن الديمقراطية التي يجري الدفاع عنها هي تلك التي تدافع عن مصالح المتفوقين اقتصاديا وتتجاهل البعد الاجتماعي وتضر بالعمال، وهو ما تراه في الدعوة للتخفيض المستمر للأجور وزيادة ساعات العمل، وخفض المساعدات والمنح الحكومية تحت حجة تهيئة الشعوب لمواجهة سوق المنافسة الدولية وتحت دعوى أن السوق ينظم نفسه بنفسه، ولعل هذا يظهر أكثر فيما سخر من آليات متنوعة لتعبير قيم العولمة كما تعبر السلع والخدمات: إننا أمام قيم عابرة للحدود والقارات حيث ثمة تشابه في الحاجيات والأذواق والأخيلة.
إنها قيم غير مأنسنة: لأنها لا تأخذ بالمقتضيات الأخلاقية في الإصلاح والتغيير، بل غايتها على المدى القريب والبعيد احترام المنطق الاقتصادي، إذ تقوم بالتقاط المنتوجات الظرفية والمتجددة باستمرار من مختلف الإبداعات البشرية وتحولها إلى منتوجات قابلة للبيع عن طريق تحليل الطلب والسوق[8] وإذا كان نظام العولمة يقوم على أسس أربعة وهي الديمقراطية والتعددية والتنافسية والتحررية، فإن هذه الركائز وإن بدت براقة تخلو من البعد الإنساني، والقيم الأخلاقية على مستوى التطبيق. فنظام العولمة ليس ديمقراطيا لأنه لم يلتزم بقيمها؛ إذ الأصل أن يمثل إرادة المجتمع الإنساني، وأن يكون هناك توافق بين الدول من أجل الأخذ به، وتقرير قواعده، ومناقشات مقتضياته، ولكنه في حقيقة أمره ليس إلا تجسيدا لإرادة مجموعة من القوى التي فرضته ولم تشرك الغير في مناقشته مما يدل على عدم التوازن أو غياب الديمقراطية على مستوى العلاقات بين الشمال والجنوب[9]، بل إن هذه العلاقات تفتقر لأبسط مبادئ العدل والإنصاف، وقد تولت الشركات المتعددة الجنسية تجسيد قيم نظام العولمة حيث يشير التقرير الذي نشرته الأمانة العامة لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة بتاريخ 27 شتنبر 1999، "أن الشركات المتعددة الجنسية هي التي أصبحت تتحكم في الاقتصاد العالمي وتفرض قانونها وسياستها عليه سواء فيما يتعلق بالاستثمار أو الإنتاج أو الاستهلاك... وأنها لا تتردد من أجل تحقيق هذه الغاية في إعادة رسم خريطة العالم حسب ما تستهدفه بما يمكنها من أن تحتل المقام الأول في نظام الإنتاج العالمي المندمج"[10].
إن نظام العولمة لا يحمل من قيم التعددية إلا اسمها، لأنه يقوم على خيار وحيد، هو خيار ونظام السوق، وحرية التبادل وفتح الأسواق، وإلغاء الحدود، وترحال الرساميل والمنتوجات واحتكار الثروات على حساب التنمية الاجتماعية، وذلك حرصا من القوى العالمية الكبرى على إحكام قبضتها على الاقتصاد العالمي، تحت شعار الكل من أجل السوق[11].
ونظام العولمة لا يترك مجالا للمنافسة، لأن التنافسية تعني مقدرة بلد ما على إنتاج مواد وخدمات من شأنها الاستجابة لمتطلبات المنافسة الدولية، والحفاظ على حصة البلاد، بل وتحسينها في السوق الداخلية، ونفس الشيء بالنسبة لحصتها في الأسواق الخارجية مع تحسين معيشة المواطنين بصفة مستديمة، وذلك ضمن استراتيجية تتمحور حول انفتاح الاقتصاد الوطني على الخارج وتنمية طاقاته التنافسية[12]، ولا يخفى أن مفهوم المنافسة الذي تدعو إليه العولمة لا يخدم مبادلات بلدان الجنوب بالمرة، لأن إنتاج هذه الأخيرة لا يستجيب ومقاييس الإنتاج والاستهلاك المقبولة والمعمول بها عالميا، وبالتالي فدخول دول الجنوب إلى حلبة المنافسة سيكون بشروط غير متكافئة، لأن جزء كبير من إنتاج هذه الدول لا يتلاءم مع قوانين السوق العالمي، فهو يفتقر إلى الشبكة الواسعة من العلاقات والتحالفات التي تجعل من منتوج دول الشمال معروفا لدى الفاعلين الاقتصاديين عبر العالم، وتؤهله ليكون المنتوج الأفضل لدى المستهلكين، كما يفتقر إلى تقنيات التسويق ويفتقد تقنيات التحكم في وسائل الإعلام، وفي إنتاج المعرفة وتصديرها وتوجيه الأخبار والمعلومات عبر العالم. وبالتالي تسقط مقولة التنافسية لأنه في ظل نظام العولمة تصبح المنافسة وسيلة لإطلاق يد الأقوياء لاستغلال المستضعفين، فلا مجال لقيم الديمقراطية والمشاركة وإنما تكون الصدارة للقرارات والاختيارات التي تتخذها الدول المتقدمة وشركاتها المتعددة الجنسية في ميادين التجارة والمال بكامل الحرية وخارج كل مراقبة واستحواذها على الأسواق. مما يحول دون أي منافسة محتملة. بل إنها تسد الطريق أمام المقاولات المحلية لتمنعها من الوصول إلى الأسواق الوطنية فكيف بهجرتها إلى الأسواق الخارجية[13].
ومقولة تحرير الأنشطة التجارية على مستوى عالمي ليست إلا قناعا يطلق اليد للدول المتقدمة الكبرى في شؤون التجارة والمال، للحد من سلطة الدول، وخاصة دول الجنوب، في التدخل في شؤون الاقتصاد، غير أن هذا التحرير العولمي له تأثير على مستوى قيم المجتمعات الإنسانية إذ يكرس المفهوم الغربي لموجة التحرر التي يجتازها العالم على مستوى حقوق الإنسان والديمقراطية والامتثال لمبادئ الحريات العامة، وبالتالي فإن التحررية في الاقتصاد العولمي تغدو عدم استقلالية الدول في تدبير شؤونها ويتم إفراغ مفهوم تحرير الأسواق من محتواه، والانحراف به عن أهدافه.
ذلك أن التطور العام لتفاعلات مصالح وصراعات المجتمع الدولي الناتجة عن التداخل بين الإجراءات التحريرية المتمثلة في الحد من التقنيات المنظمة لمختلف القطاعات، والمد التكنولوجي قد أدى إلى خلق تصور جديد لهيكلة الاقتصاد فتخلت الدولة عن عدد من القطاعات إما بخوصصتها أو البحث عن شركاء استراتيجيين لشركة القطاع العام.
وبحكم ضخامة الاستثمارات التي يستدعيها هذا القطاع، فإن الشركاء المؤهلين لن يكونوا سوى شركات متعددة الجنسيات. وقد لعب مجال المعاملات المالية والمواصلات السلكية واللاسلكية، دورا أساسيا في تسريع المبادلات الدولية بشكل غير علاقة الإنسان مع الزمن والمكان وانعكس على أنماط سلوك المتعاملين.
ذلك أن التطور التكنولوجي المتواصل في ميدان التواصل والاتصال دفع بالمؤسسات المالية إلى البحث عن صيغ جديدة وابتكار منتوجات مالية جديدة للإيفاء بالحاجيات الجديدة للشركات الكبرى المتعاملة معها متجاوزا بذلك كل أنواع الحواجز التقليدية بين الأسواق المالية، مما جعل استقلالية أي سوق مالي من المستحيلات، بفعل التقدم التقني في إيصال المعلومات وتسريع إنجاز العمليات، وتعميم الابتكارات الجديدة بشكل سريع تخطى الدورة التقليدية لرواج واستعمال المنتوج الجديد مما مكن لترسيخ العولمة داخل كل المجتمعات الإنسانية.
إن كلفة القيم الإنسانية في سياق العولمة ستكون كبيرة، فلا مكان لإقامة العلاقات بين الدول والمجتمعات الإنسانية على أسس التعايش والتضامن والتعاون، ولا مكان فيها لقيم العدل والرحمة والتوازن والمساواة في العلاقات الاقتصادية الدولية، وبدل أن يكون انفتاح الأسواق وازدهار المبادلات وعولمة الاقتصاد وسيلة للرفع من القيم الإنسانية، أصبحت غايات في حد ذاتها، فألحق نظام العولمة إنتاج القيم بإنتاج الخيرات المادية، وتحولت كل منتوجات العالم إلى سلعة معدة للتسويق يتحكم فيها نظام اقتصاد السوق، لا فرق في ذلك بين أن يكون النتاج العالمي سلعة، أو مادة استهلاك، أو إحدى الخدمات، أو إبداعا فكريا ثقافيا أو هوية أو لغة، وبذلك فالقيم جميعها سواء كانت مادية أو معنوية مطروحة في هذه السوق للمزايدة والمناقصة في تنافسية مفتوحة، للجميع لكسب رضى السوق بيعا وشراء وأخذا وعطاء، وبذلك تندمج القيم على غرار السوق[14].
تركيز دعاة العولمة على نشر القيم المرتبطة بالاستهلاك كما حددوه
أصبح الاستهلاك فضاء للإنتاج الثقافي، وقد استثمر دعاة العولمة هذا المجال لنشر ثقافة وقيم الاستهلاك، وتقديم نموذج المستهلك الكوني، وتوسلوا بما تقدمه وسائل الاتصال الحديثة.
لقد أنشأت العولمة صورا جديدة من الاستهلاك، وتولى دعاتها توجيه وتأطير المجتمعات من هذا المنظور، وهكذا وضعوا صيغا ونماذج موحدة عبر العالم، فهناك أنماط موحدة للأسواق، وهناك صور موحدة للتبادل النقدي عبر البنوك. وترتب عن هذه الأساليب انعكاسات أحدثت تحولات عميقة، في نمط الاستهلاك.
فالأنماط الموحدة للأسواق ترتب عنها تجانس في الطلب، والتجانس في الطلب ترتب عنه:
- تشابه في الأذواق.
- تشابه في الحاجيات.
- التقليد والمحاكاة والتنافس الاستهلاكي، واندثار وتلاشي الخصوصيات الثقافية لأنماط الاستهلاك الخصوصية.
- ظهور مفهوم وطرائف الاستهلاك الجديدة.
1. تشابه الأذواق: تولد عن تنميط الأسواق وتوحيدها خلق تشابه في الأذواق، حيث أصبح المستهلك يسعى إلى اقتناء منتوجات تخضع لنفس الوصفات والمعايير باسم العصرنة والجودة. وقد لعبت وسائل الدعاية الإشهارية دور الموجه للرفع من ميل المستهلك لاقتناء هذه المنتوجات، كما لعبت وسائل الاتصال الحديثة دورا كبيرا في ترسيخ هذا التوجه عبر مختلف أنحاء العالم، حتى أصبح المستهلك عبارة عن قطعة شطرنج تتحرك على رقعة يمكن تحريكها بواسطة العلوم السلوكية والنفسية للتأثير عليه، والسيطرة على تقويمه للأشياء وقراراته، وكأن "المستهلك يتحول إلى شيء بلا إرادة منه" فلا عجب أن يصبح الذوق، كونيا من المشروبات الغازية إلى أنواع الملابس الجاهزة مرورا بأنواع السيارات[15].
2. تشابه في الحاجيات: إن انتشار الأساليب التجارية الجديدة أثرت في الأسلوب الاستهلاكي للمجتمعات، فلم تعد الحاجة عبارة عن مطلب للإنسان في اتجاه الموارد المتاحة له، وإنما أصبحت رغبة في الحصول على وسيلة من شأنها أن توقف إحساسا أليما أو تمنع حدوثه، أو تحتفظ بإحساس طيب وتزيد منه أو تنشئه، وكأن الإنسان يتكون من نسق بيولوجي عضوي فقط[16].
إن ظهور صور جديدة من التبادل النقدي أدى إلى تعميم مفهوم الحاجة دوليا، فإذا كان توحيد السوق قد أدى إلى توحيد الأذواق، فإن توحيد الأذواق نتج عنه تشابه في الحاجيات، بل وأضحى الناس يستهلكون أكثر من حاجياتهم في حالة التسوق في المحلات الضخمة، وشبكات التسوق عبر التلفزيون وعبر الفضاء الإليكتروني، وإلى صرف نقود لا يملكونها أصلا (في حالة بطاقة الائتمان) وإلى استهلاك سلع لا يحتاجون إليها، وتناول أطعمة تحت ضغط الدعاية والإعلان[17].
3. التقليد والمحاكاة والتنافس الاستهلاكي: مما يؤدي إلى اندثار وتلاشي الخصوصيات الثقافية لأنماط الاستهلاك الخصوصية، ولعل أخطر الانعكاسات التي ستتركها العولمة هي تلك التي تتعلق بالانعكاسات النفسية والأخلاقية على نمط الاستهلاك داخل المجتمعات، ذلك أن حرية التجارة ستفسح المجال لدخول سلع تعبر عن قيم المجتمعات الغربية، وهذه السلع ستغير من أذواق الناس داخل المجتمعات، حيث سيسعى كثير من الناس إلى محاكاة الأجانب في نمط استهلاكهم، بل وسيسعون إلى تلبية حاجات غير حقيقية لا تنم عن صلة بقيم المجتمع الذي ينتمون إليه، فالمستهلك في ظل العولمة يرغب في الحصول على أقصى درجات الإشباع لحاجياته ورغباته، وبأقل كلفة ممكنة، حيث لن يفكر المستهلك بمصدر السلع، وإنما بدرجة إشباعها فقط، وهذا سيخلق لديه نزعة لحب الذات، مما يسهل عملية محاكاة الغير في نمط استهلاكهم، وفي ضوء حضارة التنميط التي تسعى العولمة لفرضها ستذوب الخصوصيات الحضارية للأمم.
إن زمن العولمة ليس إلا تجسيدا للمشاكل التي تثيرها الليبرالية المتوحشة فالسوق ستصبح واحدة، والحاجة واحدة، والنمط الاستهلاكي واحد فأين هوية الأمم؟ إن الفكر العولمي المتوفق، اقتصاديا، يرى نفسه النموذج الذي ينبغي أن يحتذى، وهو بذلك يغتال المفهوم الحضاري للفكر الإنساني القائم على أساس التنوع والتواصل والحوار، والتعايش والتسامح والمشاركة، ويقتلع المجتمعات من أنماط عيشهم، وبنيات حضارتهم، فهو يلحق إنتاج القيم بإنتاج الخيرات المادية[18].
4. ظهور مفهوم طرائف الاستهلاك الجديدة: وهو مفهوم يشير إلى الأشياء التي يملكها الرأسماليون والتي يعتبرونها ضرورية للمستهلكين من أجل أن يستهلكوا[19]، من ذلك مثلا المحلات الضخمة متعددة الأغراض وشبكات التسوق، وصور التبادل النقدي ونظم التحويلات النقدية أو للصرف من الأرصدة البنكية، وانتشار المطاعم التي تقدم الوجبات الرخيصة والسريعة، وثقافة شركات ماكدونالد. ويشير جورج رتزر Ritzer في كتابه المكدونالدية والمجتمع بأن الماكدونالدية "العملية التي بمقتضاها تنتشر المبادئ الخاصة بالطعام السريع، وتصبح سائدة في قطاعات أوسع من المجتمع الأمريكي وبقية أرجاء العالم، والمبادئ التي أشار إليها رتزر هي: الكفاءة والتنبؤ والمحاسبة والاهتمام بالجودة، والضبط باستخدام تقنيات غير بشرية. وبذلك تكون المكدونالدية صيغة ونموذجا للطعام يتم تصديره إلى مختلف دول العالم، من حيث نوعيته وطريقة تقديمه وطريقة شرائه وتغليفه. وتصدير هذه الصيغة لا ينفصل عن ما يحمله من قيم ورموز وأساليب تحدث خلخلة في العلاقات الإنسانية. وترتب عنهما نتائج وآثار: منها أنه يجرد العلاقة بين البائع والمشتري من أي عاطفة، فتختفي العلاقات الأصلية وتستبدل بلغة العلامات والرمز السلوكي كأن يتخلص العميل من بقايا الأكل في سلة المهملات، أو يأخذ طعامه إلى طاولته أو يعبئ خزان سيارته بالبنزين بنفسه، وهكذا يصبح الإنسان ضحية لعقلانيته المفرطة: إذ لا تلبث حرية المستهلك وسيادته أن تنقلب إلى قيود سلوكية وقيمية تكبل حريته عبر الوسائل نفسها، ويصبح أسير القفص الحديدي الذي صنعه له صناع الثقافة الاستهلاكية وشكلوا قيامه.
تحويل العلاقات الإنسانية إلى علاقات ذات صبغة إجرائية دون أن تكون علاقات تواصلية
لقد أنشأت ثورة الاتصالات الحديثة مجتمع، تكنولوجيا المعلومات، حيث تحول الإنسان إلى كائن اتصالي دون أن يكون بالضرورة كائنا تواصليا، فاشتراك المجتمعات في استهلاك نفس المعلومات لا يعني أن العلاقات بينهم هي من جنس العلاقات التي تجتمع بين أهل القرية الواحدة، فالقرب يكون من المعلومة، والتفاعل يكون مع الآلات التي تنقلها، وليس مع مصدريها من البشر.
وفي ظل هذا التحول تتغير المفاهيم: فتصبح المعلومة عبارة عن معلومة معلنة، مقترنة بالإعلان الإعلامي، وهو صورة تجارية، يكتفى في تحصيلها بالإشارة الضوئية، أو الشكل الإشاري، والنتيجة أن مجتمع تكنولوجيا المعلومات يحصل بين أهله تواصل إخباري دون أن يكون هناك تعارف أخلاقي، لأن الاتصال تواصل إخباري لا اعتبار فيه للقيمة الخلقية، والتعارف تواصل خبري لا ينفك عن القيمة الأخلاقية المحمودة، والذي يستلزم آدابا وأخلاقا، ولا يكون ذلك إلا بالاعتراف بالآخر أي أن العلاقة التي تقوم بين الملقي والمتلقى علاقة أخلاقية تقر بالتميز الثقافي أو الخصوصية الحضارية لكلتيهما، وهذا ينشأ تقاربا واحتراما وانفتاحا وتسامحا وتعاونا وتواددا[20].
إن غياب هذا البعد الإنساني في القيم التي أنتجتها العولمة والذي أحال كل المنتوجات إلى بضائع، تترتب عنه آفات أخلاقية تهدد كينونة المجتمع الإنساني، وتخضع العلاقات الإنسانية إلى متغيرات المصالح المادية. لا مكان فيه إلا لمبادئ السوق دون قيود أوحدود.
إن المد العولمي ساهم في تخلق عالم جديد من القيم اخترق الكثير من المجتمعات الإنسانية، وهي قيم مرتبطة بمجتمع معطى ومحدد تاريخيا وجغرافيا (عالم الشمال) قيم تهدد الهوية الأخلاقية للمجتمعات الإنسانية، لأنها قيم ناتجة عن التطور التكنولوجي، وقابلة للاستنساخ، ويمكن تسويقها كما تسوق المنتجات والبضائع، فما يقبل منها "التسويق" ويكون له عائدا اقتصاديا ماديا "يطرح" في بورصة القيم النفعية، وما لا يمكن إدماجه من القيم المحلية في القيم الكونية التي أنتجتها العولمة يسحب من "سوق قيم العولمة" لأن المتغيرات الاقتصادية لا تستوعبه، ولأنه يشكل عائقا يحد من انتشارها وتعميم قيم العولمة.
إن الآفة المترتبة عن تبضيع القيم تكمن في تغيير العلاقات الكونية واحتوائها وتحويلها لخدمة أهداف العولمة. لقد قلبت العولمة العلاقة الموجودة بين إنتاج الأشياء وإنتاج القيم المدمجة حضاريا. فالعلاقات الكونية يطبعها طابع الحساب والتجريب، وتخضع لمنطق السوق بلا قيد، والتنافس بلا شرط والربح بلا حد، والقيم الأخلاقية لا تعتبر منتجة مادامت لا تنتج خيرات مادية ذات قيمة استعمالية وقيمة تبادلية، لأن منطق إنتاج الخيرات المادية ينتصر على منطق إنتاج القيم الأخلاقية[21].
إن العولمة كما يقول الأستاذ المهدي المنجرة: "لن يكون لها أي مستقبل مادامت جذورها غير إنسانية، وأهدافها غير سامية وقيمها غير أخلاقية، ومع ذلك ثقافة السلم والتعايش مازالت بعيدة التحقيق، فالعالم يسير نحو مرحلة أكثر فوضوية، وكل ما أتمناه أن تكون هذه المرحلة قصيرة المدى، وأن تعبرها البشرية بأقل خسائر"[22].
الهوامش
- طه عبد الرحمن: روح العولمة وأخلاق المستقبل، مجلة إسلامية المعرفة، السنة السابعة، العدد السادس والعشرون، خريف (1422هـ/2001م)، ص: 153.
- عبد الهادي بوطالب: في نقد العولمة وآثارها السلبية على الدول المتنامية أعولمة أم شولمة أم أمركة، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية سلسلة الدورات: أي مستقبل للبلدان المتنامية في ضوء التحولات التي تترتب عن العولمة؟ الدورة الخريفية لسنة 2001، ص29.
- أحمد زايد: عولمة الحداثة وتفكيك الثقافات الوطنية، عالم الفكر، المجلد 32، يوليوز سبتمبر 2003، يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب–الكويت، ص10.
- المهدي المنجرة : عولمة العولمة، منشورات الزمن العدد 18 سبتمبر 2000، ص16.
- عباس برادة السني: العولمة الاقتصادية ملامح، أبعاد، اتجاهات، منشورات المعرفة للجميع، العدد 12 يناير 2000. ص16.
- فتح الله ولعلو: العولمة ومتطلبات التقدم الشامل، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، م، س، ص184.
- مانع سعيد العتيبة: العوربة والعولمة: قراءة المستقبل ومستقبل القراءة، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، م، س، ص52.
- جان بيير فارنيني: عولمة الثقافة وأسئلة الديمقراطية، ترجمة: عبد الجليل الأزدي، البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة-المغرب 2003، ص76.
- التقرير الذي أعد في ندوة: أي مستقبل للبلدان المتنامية؟ ص297.
- جانبيير فاريني: عولمة الثقافة وأسئلة الديمقراطية، م، س، ص46.
- عبد الهادي بوطالب: في نقد العولمة، م، س، ص33.
- عباس برادة: العولمة الاقتصادية.. م، س، ص149.
- عباس برادة: العولمة، م، س، ص121.
- عبد الحميد عواد: التنافسية مفتاح الاندماج في الاقتصاد الدولي، ص: 164.
- جان بيير فارنيني: عولمة الثقافة، م، س، ص76.
- فتح الله ولعلو: العلومة ومتطلبات التقدم، م، س، ص185.
- أحمد زايد: عولمة الحداثة، م، س، ص18.
- عبد الله معصر: ضوابط حماية المستهلك من منظور الاقتصاد الإسلامي: دراسة تحليلية لضوابطه العقدية والأخلاقية والتشريعية، ص107.
- عبد الله معصر، ضوابط حماية المستهلك، م، س، ص108–110.
- أحمد زايد: عولمة الحداثة، م، س، ص20.
- جان بيير فارنيني، عولمة الثقافة، م، س، ص: 76.
- الحبيب الجنحاني: العولمة من منظور عربي، ص63.
- أحمد زايد: عولمة الحداثة، م، س، ص: 20.
- محمد شكري سلام: ثورة الاتصال والإعلام من الإيديولوجيا إلى الميديولوجيا، ص81.
- طه عبد الرحمن: روح العولمة، م، س، ص156–167.
- حازم البيلاوي: النظام الاقتصادي المعاصر، سلسلة عالم المعرفة، العدد: 257، يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب–الكويت، ص238.
- بيير فارنيني: عولمة الثقافة.. م، س، ص76–77.