مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

انفرادات القراء: مدارسة وتوجيه(2)

قال الحافظ أبو عمرو الداني رحمه الله: «وقرأ بهمز ﴿النبيء﴾ و﴿النبيئين﴾ و﴿الأنبياء﴾ و﴿النبوءة﴾ في جميع القرءان، واختلف قالون وورش عنه في موضعين في الأحزاب [33،53] وأنا أذكرهما في انفراد ورش إن شاء الله عز وجل»([1])

هذا هو الانفراد الثاني لأبي رؤيم رحمه الله ورضي عنه، وهو كما ترى كالأصل المطرد يكاد يكون من قسم الأصول لولا أنه غير مندرج في أي باب من أبوابه بشروطه.

والكلام فيه من وجوه نقتصر هـهنا في تقرير مسائله على الوجه الأول، أعني أصله ومعناه؛ لنكر بعد على تصريفه وجموعه وتوجيهه ومراجحته، ثم خاتمة في تحرير القول فيه:

فأما الأول فقد بين ابن فارس في المقاييس([2]) أن (النون والباء والهمزة) أصل صحيح يدل على الإتيان من مكان إلى مكان: ومنه الرجل ينبأ من أرض إلى أرض، قال الشاعر:

ولكن قذاها كل أشعث نابئ**أتتنا به الأقدار من حيث لا ندري([3])

ومثله في السيل والخبر والصوت..، وفي اللسان([4]): «نبأ عليهم ينبأ: هجم وطلع، ونبأ من بلد: طرأ، ونبأ نبأ: ارتفع»

إذا تمهد ذلك فاعلم أن اختيار الهمز في «النبيء» وما إليه يحتمل معاني ثلاثة: الأول: أن يرتد إلى معنى النابئ الطارئ، والثاني الارتفاع والثالث الخبر.

فأما الأول فأنكره أبو علي في الحجة، قال: «قال أبو زيد: نبأت من أرض إلى أخرى فأنا أنبأ نبأ ونبوءا: إذا خرجت منها إلى أخرى، وليس اشتقاق النبيء من هذا، وإن كان من لفظه، ولكن من النبأ الذي هو الخبر، كأنه المخبر عن الله سبحانه»([5]) ، وما عند السخاوي يؤيده فقد قال رحمه الله في توجيه حديث: ﴿لست نبيء الله، ولكني نبي الله﴾ بعد تضعيفه: «وعلى تقدير قبوله فأقول: إنما أنكر الهمز ـ إن صح والله أعلم ـ ؛ لأنه موهم، وذلك أن أبا زيد حكى نبأت من أرض إلى أخرى..إذا خرجت منها، فإذا قال: «يانبيء الله» على هذا احتمل أن يريد : يا طريد الله الذي أخرجه من بلده إلى غيرها، ألا ترى أن المسلمين كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم«راعنا»، فوجد اليهود بذلك طريقا إلى سبه صلى الله عليه وسلم فصاروا يقولون «راعنا»، ويعنون بذلك الرعونة..» ([6]) وهذا توجيه حسن مقبول على فرض صحة الحديث، فلا وجه لقول أبي شامة ردا عليه: «ولا يظهر لي في تأويله إلا ما قاله أبو عبيد: إنه أنكر عليه الهمز؛ لأن تخفيفه هو اللغة الفصيحة»([7])

وأما الثاني بمعنى الرفعة والارتفاع مهموزا، فهو منصوص في اللسان، قال رحمه الله: «نبأ نبأ: ارتفع» والغالب في معنى الرفعة والارتفاع النباوة بدون همز، فإن صح الهمز لم يبق لقول أبي علي في الحجة: «ومما يقوي أنه من النبأ الذي هو الخبر أن النباوة الرفعة، فكأنه قال: في البيت الذي وضعت فيه الرفعة. وليس كل رفعة نبوءة، وقد تكون في البيت رفعة ليست بنبوءة»([8]) ولا لقول الراغب في المفردات: «فالنبي بغير الهمز أبلغ من النبيء بالهمز؛ لأنه ليس كل منبإ رفيع القدر والمحل..» ([9])  ولا لقول الشيخ في الكشف: «وأيضا فإن وقوع اسم الإخبار عن الرسول أولى من وقوع اسم الرفعة»([10]) وجه، ولا للمفاضلة معنى؛ لأن الهمز ودونه قد شملا المعنيين معا، إن صح ما في اللسان والله أعلم.

وأما الثالث أعني معناه الخبر فهو الوجه، قال أبو علي: «ولكن من النبأ الذي هو الخبر، كأنه المخبر عن الله سبحانه» ولهذا قبل التضمين فيه، كما قبله في معنى العلم، قال في المفردات: «ولتضمن النبإ معنى «الخبر» يقال: أنبأته بكذا كقولك: أخبرته بكذا، ولتضمنه معنى «العلم» قيل: أنبأته كذا، كقولك: أعلمته كذا»([11]) 

ولا يعني هذا الترادف التام، بل للنبإ معنى قد يزيد على معنى الخبر، فقد نص ابن الأنباري في الأضداد على أن «كل حرفين أوقعتهما العرب على معنى واحد، في كل واحد منهما معنى ليس في صاحبه، ربما عرفناه، وربما غمض علينا»، وذلك ما فصله في حرفي «النبإ» و«الخبر» الراغب في المفردات فقال: «النبأ: خبر ذو فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن، ولا يقال للخبر في الأصل «نبأ» حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة، وحق الخبر الذي يقال فيه نبأ أن يتعرى عن الكذب، كالتواتر وخبر الله تعالى وخبر النبي عليه الصلاة والسلام»([12])  وفي الفروق لأبي هلال العسكري: «..النبأ لا يكون إلا للإخبار بما لا يعلمه المخبر، ويجوز أن يكون الخبر بما يعلمه وبما لا يعلمه»([13])، وهي كالشرح لقول الراغب فيه: «يحصل به علم أو غلبة ظن»، والله أعلم.

 

([1])  التهذيب لما تفرد به كل واحد من القراء السبعة:25

([2])  مقاييس اللغة: «نبأ»

([3])  البيت من الطويل ينسب للأخطل ن المعجم المفصل في شواهد العربية:3/477.

([4])  لسان العرب: «نبأ»

([5])  الحجة:2/88

([6])  فتح الوصيد:3/636.

([7])  إبراز المعاني:327.

([8])  الحجة:2/88

([9])  المفردات في غريب القرءان:790

([10])  الكشف لمكي:1/61.

([11])  المفردات في غريب القرءان:789.

([12])  المفردات في غريب القرءان:788.

([13])  الفروق اللغوية:41.

Science

د. عبد الهادي السلي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق