عرض النبي نفسه على القبائل في موسم الحج ودلالاته

بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
إن موسم الحج فرصة لاجتماع أجناس من بني آدم، يأتون من كل فج عميق باختلاف ألوانهم، ولغاتهم، لكن يجمعهم دين واحد، وهو: الإسلام دين الأنبياء، وبلد واحد، وهو: البقعة المقدسة المباركة مكة المكرمة، وزمان واحد، وهو: شهر ذو الحجة.
لقد كان موسم الحج فرصة لاجتماع العرب من قبل، لكن بدون دين الإسلام، فبعث الله نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، فيعرض نفسه على قبائل العرب قبيلة قبيلة، ليبلغ كلام ربه، ويخرجهم من ظلمات الشرك، إلى نور التوحيد.
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة يعرض نفسه على قبائل العرب قبيلة قبيلة في الموسم، ما يجد أحدا يجيبه إلى ما يدعو إليه حتى جاء إليه هذا الحي من الأنصار لما أسعدهم الله وساق إليهم من الكرامة فآووا ونصروا فجزاهم الله عن نبيهم خيرا، والله ما وفينا لهم كما عاهدناهم عليه، إنا قلنا لهم: إنا نحن الأمراء وأنتم الوزراء، ولئن بقيت إلى رأس الحول لا يبقى لي عامل إلا أنصاري»[1]. قال البزار: "هذا الحديث لا نعلمه يروى عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه وإسناده حسن"[2].
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه في الموسم على الناس في الموقف، فيقول: هل من رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي»[3]. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"[4].
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول: هل من رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي، فأتاه رجل من همدان فقال: ممن أنت؟ فقال الرجل: من همدان قال: فهل عند قومك من منعة؟ قال: نعم، ثم إن الرجل خشي أن يخفره قومه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: آتيهم، فأخبرهم، ثم آتيك من عام قابل، قال: نعم، فانطلق وجاء وفد الأنصار في رجب»[5]. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"[6].
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: حدثني علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: «لما أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه، وأبو بكر إلى منى، حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، فتقدم أبو بكر فسلم، وكان أبو بكر مقدما في كل حين، وكان رجلا نسابة، فقال: ممن القوم؟ قالوا: من ربيعة قال: وأي ربيعة أنتم؟ من هامتها أم من لهازمها؟ قالوا: بل من هامتها العظمى» الحديث[7]. قال ابن حجر: "وقد أخرج الحاكم وأبو نعيم والبيهقي في الدلائل بإسناد حسن"[8].
وعن عامر بن سلمة من بني حنيفة: «رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أعوام ولاء في الموسم بعكاظ، وبمجنة، وبذي المجاز يعرض نفسه على قبائل العرب، يدعوهم إلى الله وإلى أن ينصروه، حتى يبلغ عن الله، فلا يستجيب له أحد، وإن هوذة بن علي سأل عامرا بعد انصرافه عن الموسم إلى اليمامة في أول عام عن ما كان في موسمهم من خبر، فأخبره خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه رجل من قريش، فسأله هوذة: من أي قريش هو؟ فقال له عامر: من أوسطهم نسبا من بني عبد المطلب، قال هوذة: أهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، فقال: هو هو، فقال هوذة: أما إن أمره سيظهر على ما ها هنا وغير ما ها هنا» [9].
وعن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب وهذا لفظ حديث القطان، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السنين يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم، ويكلم كل شريف قوم لا يسلهم مع ذلك إلا أن يروه ويمنعوه ويقول: لا أكره أحدا منكم على شيء، من رضي منكم بالذي أدعوه إليه فذلك، ومن كره لم أكرهه، إنما أريد أن تحرزوني مما يراد بي من القتل حتى أبلغ رسالات ربي وحتى يقضي الله عز وجل لي ولمن صحبني بما شاء الله، فلم يقبله أحد منهم، ولم يأت أحد من تلك القبائل إلا قال: قوم الرجل أعلم به، أترون أن رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه ولفظوه؟ فكان ذلك مما ذخر الله عز وجل للأنصار وأكرمهم به»[10].
لما مات أبو طالب خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثقيف بالطائف يدعوهم إلى نصره، فلما امتنعوا منه رجع إلى مكة، فكان يعرض نفسه على قبائل العرب في مواسم الحج، فقد أتى كندة، وبني كعب، وبني حذيفة، وبني عامر بن صعصعة، وغيرهم فلم يجبه أحد منهم إلى ما سأل، فكان صلى الله عليه وسلم في تلك السنين وذلك قبل الهجرة يعرض نفسه على القبائل، ويكلم كل شريف قوم لا يسألهم إلا أن يؤوه ويمنعوه، ويقول: «لا أكره أحدا منكم على شيء، من رضي منكم بالذي أدعوه إليه فذلك، ومن كره لم أكرهه، إنما أريد أن تحرزوني مما يراد بي من القتل حتى أبلغ رسالات ربي وحتى يقضي الله عز وجل لي ولمن صحبني بما شاء الله»[11]، فلم يقبل دعوته صلى الله عليه وسلم أحد من تلك القبائل، حتى شاع قولهم: قوم الرجل أعلم به، أترون أن رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه ولفظوه؟ فكان ذلك مما ذخر الله عز وجل للأنصار وأكرمهم به، فآووه ونصروه، وانتشرت دعوة بذلك دعوة التوحيد بين قبائل شبه الجزيرة العربية[12].
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على قبائل العرب في مواسم الحج لما يحمل ذلك من دلالات، منها:
أن تلك مواسم اجتماع جميع قبائل العرب، وهي مناسبة لدعوتهم إلى ما أمر الله تعالى نبيه بالدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وتوحيد الله عز وجل، ونبذ الشرك، والرجوع إلى الفطرة الحنيفية السمحة، والاستسلام إلى الله تعالى، والبعد عن كل رذائل الجاهلية.
أن النبي صلى الله عليه وسلم بالإضافة إلى امتثال أمر الله تعالى بالدعوة إلى الإسلام، والاستسلام إلى الله تعالى، فقد كان صلى الله عليه وسلم حريصا على هداية قبائل العرب، ودخولهم في الإسلام، لما تربطه من أواصر القرابة، والخوف من هلاكهم كما كان من شأن قبائل أنباء الله من قبل، فهو النبي، البشير، النذير، الرحيم بقومه صلوات ربي وسلامه عليه.
****************
هوامش المقال:
[1]) أخرجه البزار في المسند 1/ 404، رقم الحديث: 281.
[2]) البحر الزخار 1 /405.
[3]) أخرجه الترمذي في السنن 5/ 184؛ كتاب: فضائل القرآن، رقم الحديث: 2925، وأبو داود في السنن 7/ 115؛ كتاب: السنة، باب: في القرآن، رقم الحديث: 4734، وابن ماجه في السنن 1 /73، رقم الحديث: 201، والنسائي في السنن الكبرى 7/ 152، رقم الحديث: 7680.
[4]) السنن 5 /184.
[5]) أخرجه أحمد في المسند 23 /370-371، رقم الحديث: 15192، والحاكم في المستدرك 2/ 612-613.
[6]) المستدرك 2 /613.
[7]) أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة 1 /282_288، رقم الحديث: 214، والبيهقي في دلائل النبوة 2 /422_427.
[8]) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 7 /171.
[9]) الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء
[10]) أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة 1/ 295، رقم الحديث: 221، والبيهقي في دلائل النبوة 2 /414.
[11]) سبق تخريجه.
[12]) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 7 /171.
**************
جريدة المراجع
الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء لأبي الربيع سليمان بن موسى الكلاعي الأندلسي، تحقيق: محمد كمال الدين عز الدين علي، عالم الكتب، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 1417 /1997.
البحر الزخار (المسند) لأحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار، تحقيق (ج1): محفوظ الرحمن زين الله، مؤسسة علوم القرآن، بيروت- لبنان، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة- السعودية، الطبعة الأولى: 1409/ 1988.
الجامع الصحيح (السنن) لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سَوْرة الترمذي، تحقيق ج5: إبراهيم عطوه عوض، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، الطبعة الثانية: 1395/ 1975.
دلائل النبوة لأبي نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني، تحقيق: محمد رواس قلعه جي، وعبد البر عباس، دار النفائس، بيروت- لبنان، الطبعة الثانية: 1406/ 1986.
دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة لأبي بكر أحمد بن الحسين بن علي الخراساني البيهقي، تحقيق: عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، دار الريان للتراث، القاهرة-مصر، الطبعة الأولى: 1408/ 1988.
السنن لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، محمد كامل قره بللي، دار الرسالة العالمية، القاهرة- مصر، الطبعة الأولى: 1430 /2009.
السنن لمحمد بن يزيد ابن ماجه القزويني، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، مصر، (د-ت).
المستدرك على الصحيحين لمحمد بن عبد الله بن محمد الحاكم النيسابوري، وفي ذيله تلخيص المستدرك لمحمد بن أحمد الذهبي، مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية، حيدر آباد- الهند، الطبعة الأولى: 1340-1341-1342.
المسند لأحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، تحقيق: جماعة من الباحثين، إشراف: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 1421 /2001.