محطات من تاريخ الطب في المغرب الأقصى(الحلقة الثانية)

الدكتور جمال بامي
رئيس مركز ابن البنا المراكشي
ليس هناك في نظري كتاب أكثر تعبيرا عن عقلية علمية موضوعية في التعامل مع عالم النبات في الغرب الإسلامي من كتاب “عمدة الطبيب في معرفة النبات“؛ يقول محقق الكتاب محمد العربي الخطابي في المقدمة: “اتجهت إلى استفسار كتاب عمدة الطبيب، فتبين لي من خلال تأمل مواده وفصوله أن مؤلفه يجمع بين الإطلاع على مسائل اللغة ومظانها والمعرفة الواسعة بشؤون الفلاحة والغراسة مع المزاولة الفعلية لهما، بالإضافة إلى معارفه الطبية و الصيدلية وتمرسه بمعاينة الأعشاب في منابتها الطبيعية، ومقارنة أعيانها والدقة في التفريق بين مختلف أجناسها مع كثرة التجوال في بلاد الأندلس والمغرب بغرض البحث في حقيقة الأعشاب ومشاهدتها في منابتها والتأكد من ماهيتها”[1].
ويعتبر الدكتور جمال بلخضر[2] أن كتاب “عمدة الطبيب في معرفة النبات” لأبي خير الاشبيلي هو المحاولة الجادة الأولى في تاريخ علم النبات العربي من حيث التصنيف العلمي للنباتات، وقد كان سائدا قبله نسقThéophraste الذي تبناه معظم العلماء العرب الذين اهتموا بعلم النبات.
حاول ابن جزلة وابن بطلان أن يبدعوا طريقة في تصنيف النباتات تعتمد على تقنية الجدول، ومفادها توزيع النباتات والعقاقير على جداول اعتمادا على خصائص ومؤشرات، لكن يبقى هذا المنهج عملا تقنيا ديداكتيكيا بعيدا عن عمق العمل التصنيفي، ويمكن اعتبار عملي ابن بطلان وابن جزلة مرحلة غير مكتملة العناصر من حيث القواعد العلمية للتصنيف النباتي[3]، وهما أيضا عملان يعبران عن “رؤية للعالم” وتصور للطبيعة سيتم تجاوزهما من طرف أبي الخير الإشبيلي..
يتميز كتاب “عمدة الطبيب” بتماسك نظري ومنهجي كبير، وتسود كل أجزائه عقلانية بادية مع تتابع منطقي للأفكار، وتبدو التصورات واضحة في كتاب أبي الخير الاشبيلي كما أن التعليلات والبراهين فيه واضحة، مع وضوح المعاني وسلامة التركيب.
وعلى خلاف مع معظم الكتب المتعلقة بعلم النبات الطبي، يبدو كتاب أبي الخير الاشبيلي مركزا بشكل شبه مطلق على علم النبات، ونادرا ما يذكر الخصائص العلاجية للنباتات التي يذكرها، وهذا ينم عن وضوح شديد في رؤية الكاتب الذي أراد أن يكون دقيقا في مقصده المتمثل في تقديم “مادة علمية نباتية خالصة” تكون عونا للطبيب في معرفة النبات المستعمل في العلاج؛ وهنا تبدو القيمة المضافة الأساسية لكتاب “عمدة الطبيب“..
أما أسلوب أبي الخير فيمتاز بالوضوح والدقة والإيجاز، وتجنّب الحشو والاستطراد. وقد صاغ ذلك بلغة عربية ناصعة، يحسن اختيار الألفاظ أو المصطلحات التي توضح الفكرة وتخدم المو
ضوع في صياغة علمية تجنح إلى التشبيه أحياناً للإيضاح كما في قوله: “وله زهر كزهر الزعفران” أو “عليه قشر أسود مائل إلى الصفرة يشبه بصل النرجس”..
وقد “رتب المؤلف كتابه على حروف المعجم بالترتيب السائد في بلاد الغرب الإسلامي، وحقق اسم النبات، عربيا كان أو أجنبيا، ثم بيّن ماهيته و أجزاءه من ورق وساق وزهر وثمر وبذر وجذر ويذكر ألوان الزهور والأوراق والأصول وشكل البذور وطول الساق بالشبر والذراع والقامة وذكر بيئة النبات الطبيعية وأماكن وجوده، وعدّد في كثير من الأحيان أجناسه و أصنافه المتقاربة على أساس “المشاكلة” التي بنا عليها نظامه التصنيفي، وكثيرا ما يضبط أسماء النبات بمختلف اللغات، ومنها اليونانية واللاتينية والفارسية والنبطية والأمازيغية وعجمية الأندلس (الرومانصية أو اللاتينية العامية)، وكثيرا ما يذكر الاسم العربي الدارج في الأندلس وفي البلاد الأخرى”[4].
ويمتاز كتاب أبي الخير الاشبيلي بكون جل النباتات الموصوفة في كتابه هي نتيجة لمعاينة شخصية للنبات في موطنه الأصلي أو مكان زراعته أو بعد مسائلة الرحالة العارفين عندما يتعلق الأمر بالنباتات المستوردة plantes exotiques، بحيث يعمد المؤلف إلى اختبارهم فيما يتعلق بالنباتات التي عاينوها في مواطنها الأصلية خصوصا: الصحراء الكبرى وإيطاليا والقسطنطينية واليمن والهند والصين وخراسان..
إن هذه الدقة في الوصف والتمييز بين الأعشاب وإفرازاتها انطلاقا من خصائص علمية منهجية واضحة هي ما يميز بحق هذا العالم المميز، بالإضافة إلى ولعه باستنبات البذور التي يجلبها من الطبيعة في مزرعة خصصها لذلك، من ذلك قوله – عندما كان يصف نبات الخردل: “وأما الأبيض فورقه كورق الفجل البري في هيأته وله ساق مجوفة تعلو نحو ذراعين، تفترق إلى أغصان رقاق بحمرة يسيرة، وعليه زهر أبيض يظهر في زمن الربيع تخلفه مزاود في رقة الميل، في داخلها حب مدحرج في قدر بزر الأكرنب، أبيض براق، وقد جمعته وزرعته مرارا“[5].
وهنا يبدو بشكل جلي بأن التعمق في المعرفة الطبيعية الدقيقة لا يدع أي مجال للخفي، ووفقا لقواعد علم النبات المعاصر يمكن اعتبار كتاب “عمدة الطبيب في معرفة النبات” لأبي الخير الاشبيلي من حيث وصفه الدقيق للنباتات مرجعا للتعرف على العديد من نباتات المغرب والأندلس[6].
والملاحظ أنه بموازاة الطب العالِم المتجسد في السياسة والمجتمع، ساد طب آخر عند العامة خلال العصر الموحدي، وقد سار النوعان من الطب جنبا إلى جنب؛ و “ولعل من بين المعتقدات التي استشرت بين أوساط العامة ظاهرة التنبؤ بالغيب سواء عن طريق فك الرموز ودلالات كف الشاه، أو عن طريق خط الرمل، كما شاع الاعتقاد بالجن، وبالتمسح ببركات الأولياء والصالحين، إما للاستشفاء أو لأغراض أخرى..
ارتبطت ذهنية العوام بطرق العلاجات المرتبطة بالخفي، فمصادر الفترة تزخر بأخبار ذوي العاهات والأمراض المزمنة بما فيهم النساء اللواتي كن يقصدن الصالحين وقبور الأولياء لأخذ شيء من ترابها للاستشفاء به، وبتأمل أثمان العلاجات الطبية والصيدلية وارتباط خدمات الأطباء وخبرتهم بمصالح علية القوم، نفهم أحد أسباب تخلي العامة عن زيارة الأطباء وعن الاستشفاء بالأدوية الصيدلية، وإن كنا لا نعدم إشارات تؤكد توسيع الخدمات الصحية لتشمل عموم الناس-لاسيما في فترة ازدهار الدولة-ولا أدل على ذلك تخصيص جزء من عائدات بيت المال للمارستان الذي شيده يعقوب المنصور الموحدي، وذلك لجعل الخدمات الطبية في متناول العامة، وتمكين المرضى والمساكين من التطبيب بالمجان ومساعدتهم للاندماج والعيش وسط المجتمع[7]..
لقد ساد طب يطلق عليه اسم “الطب الروحي“، من أمثلة ذلك أن أبا شعيب أيوب السارية كان “يبرئ العلل بالتفل عليها[8]؛ كذلك الحال مع أبي يعزى “الذي جيء له برجل قعد عن الحركة فمازال يتفل عليه حتى قال“[9]، وذكر أحدهم أنه أصابه وجع شديد في بطنه فمسح أحد الصلحاء بيده عليه “وحرك شفتيه فذهب ألمه بقدرة الله وببركته“[10]. وعالج آخر داء الرمد بوضع يده على عين المريض والتعوذ عليها[11]، واكتفى بعضهم بالنظر إلى موضع الداء ليشفى العليل، كما هو الحال مع الولي أبو الجبل، الذي عالج قرحة في رأس أحد الصبية بالنظر، فإذا هي “كأنها لم تكن“[12].
وكان التوسل إلى الله ببركة أحدهم كافيا لحصول الشفاء، كما حدث مع المرأة، التي رفعت يدها إلى الله قائلة “اللهم إني أسألك بكرامة هذا الفقيه عندك أن تعافيني مما أنا فيه“، فلما أصبحت وجدت نفسها تمشي، بعد أن كانت مقعدة لعدة أعوام.. وكانت بركة الولي تمتد حتى بعد مماته، لذلك استشفى الناس بتراب قبورهم، الذي حظي بمكانة خاصة في العلاج، فهذا الولي أبو عبد الله بن بلال القيرواني المدفون بأغمات أوريكة، مازال أهلها “إلى الآن يستشفون بتراب قبره“[13]. و“تقل الناس تراب ضريح الشيخ أبي يعزى وتراب الشيخ أبي غالب النيسابوري للاستشفاء من الأمراض والقروح المعضلة“[14]، أما “الرابطتان اللتان بقرب جبل إيجيليز حيث المهدي (ابن تومرت) فكان الناس يأخذون التراب منهما فيتبركون به ويجعلونه على المرضى“[15].
كان لجوء الناس إلى التداوي عند هؤلاء يرجع بالأساس إلى قلة تكلفته من جهة، ومحدودية نجاعة الطب العلمي في بعض الأمراض من جهة أخرى، فالكرامة تقضي بوجود أمر يتجاوز قوة البشر، وعجزهم عن مواجهته، فهذا الأمير أبو الوليد إسماعيل بن الأحمر، وجد علاجه عند الولي أبي الربيع سليمان بعد أن طلب عند الأطباء دواءه وأعياه العلاج ويئس من محصول الإنتاج[16]، وتمكن آخر من علاج قرحة في الرأس “أعيت الأطباء ولم ينجح فيها علاج“[17].
ذكر أحدهم أنه ذهب عند أبي تميم عبد الواحد الأسود لعلاج أخته بعد أن عجز الطبيب ابن أفلاطون عن علاجها، فقال له “ذهبت إلى الأطباء بفاس وحقرت عبدك ولم يساو عندك شيئا فخجلت من كلامه وبت عنده فجاءت إليه أختي فسلمت عليه وقعدت أمامه فجعل يحدثها ويمسح بريقه في موضع البرص من وجهها المرة بعد المرة (…) فنظرت إلى وجه أختي فلم أر فيه من البرص شيئا“[18]. وذكر أحدهم أنه كانت تصيبه في شيبته غاشية، فحملته أمه إلى الولي أبي لقمان، فانتظروا بداره إلى أن جاء فقال لها “لست بطبيب فاحمليه إلى الأطباء فقلت له أنا، أما الأطباء فقد عجزوا ولم يبق إلا طب الله تعالى، فلما سمع كلامي قربني ومسح بيده على رأسي فما أصابني الصرع من حينئذ إلى الآن“[19].
وأخبر أبو الخير الأندلسي، أن أحد شبان فاس أصابه الجذام فعجز الطبيب الحاذق المشهور عن علاجه، وقال لعائلته “ما يطب هذا إلا حواري من حواري عيسى عليه السلام، فأيسهم من برءه فرجعوا، فبينما هم أثناء الطريق فمروا برجل من معارفهم وهو يزرع في أرض (…) فأخبروه بالخبر (…) فوجد أي حزِن (…) فأمر به فأحضر بين يديه فمشى يده عليه ونفث وإذا بالشاب قد ذهب عنه جميع ما كان به من الألم (…) ثم قال لهم ارجعوا إلى الطبيب وقولوا له فعل هذا أحد من حواري محمد (ص)“[20].
كما اعتقد الناس بنجاعة العلاج بالأدعية: يقول ابن حجر “التداوي بالأدعية أنجع من التداوي بالعقاقير“[21]؛ ولجأ بعض المرضى إلى الدجالين والعرافين، الذين ينظرون في الأكتاف والغبار والرصاص الدائب[22]. لكن رغم وجود هذه الممارسات العلاجية المرتبطة بالخفي خلال العصر الموحدي، فإن هذا العصر شهد أوجا للمعرفة الطبية العلمية، وهو الشيء الذي ساهم بشكل كبير في ضمان الأمن الصحي، وإشاعة تقاليد الطب العالِم رغم صمود “العلاج الشعبي” ومقاومته.
خلال العصر المريني ازدهرت المدارس العلمية، وانتعشت كثير من فروع المعرفة؛ غير أن الطب خلال هذه الفترة تراجع على ما كان عليه خلال العصر الموحدي، رغم وجود عدد من الأطباء، لكن في غياب أي مشروع واضح لاحتضان الطب والأطباء. ويمكن اعتبار أبي الحسن علي بن أبي الحسن المراكشي أبرز علم من علماء الطب خلال العصر المريني؛ له كتاب في الأمراض السرية وعلاجها وطبائع النساء وضعه باسم خزانة السلطان أبي الحسن المريني، وأيضا أبو العباس الشريشي السلوي الأصل (تـ 641 هـ/ 1243م)، وأحمد الجذامي السبتي الطبيب المتوفى بمراكش عام 650هـ/ 1252م.
ومن أطباء العصر المريني أبو العباس الجزنائي، الذي نوه به ابن خلدون، وأبو الحسن علي بن عبد الله بن هيدور التادلي الطبيب الشهير المتوفى عام 816هـ/ 1413م؛ اشتهر بالطب وألف فيه رسالة سماها “المقالة الحكمية في الأمراض الوبائية“؛ وهي رسالة في حقيقة المرض الناتج عن الوباء وما هي أسبابه وما وسائل علاجه الطبية. وقد جمع هذا الطبيب بين معرفة طبية علمية وبين طب روحي شعبي يحضر فيه الخفي؛ يتجلى ذلك في توصيته بترديد بعض الأدعية وممارسة بعض الطقوس التي يرى أن التجربة أثبتت فعاليتها، حيث يقول: وقد اخبرني من أثق به أنه جربه في دفع الداء الوبال مرارا يكتبه في بطائق ويلصقه بحيطان الدار فأصاب جميع جيرانه إلا داره[23].
ومن المنظومات خلال هذا العصر أرجوزة أبي الحسن علي المراكشي سماها “بهجة المطالع في الحفظ للمجامع”، وهي منظومة تبحث في تدبير الصحة الجنسية وما يتصل بها..
يتبع في العدد المقبل...
——————————————————-
1. محمد العربي الخطابي، مقدمة “عمدة الطبيب في معرفة النبات“، منشورات أكاديمية المملكة المغربية. 1990، ص: 17.
2 . Jamal Bellakhdar, 1997. La pharmacopée marocaine traditionnelle. IBIS PRESS. France
Jamal Bellakhdar. Op.cit. 3.
4. محمد العربي الخطابي، مقدمة تحقيق كتاب “عمدة الطبيب في معرفة النبات” 1990. الرباط-المغرب. ص 29.
5. الإشبيلي أبو الخير، عمدة الطبيب في معرفة النبات، ترجمة، تحقيق: محمد العربي الخطابي، الناشر: دار الغرب الإسلامي، 1995، ص: 260.
Jamal Bellakhdar, Op. cit. 6.
7. أحمد المحمودي: عامة المغرب الأقصى في العصر الموحدي. جامة المولى إسماعيل، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، مكناس، 2001، ص: 105-106.
8. ابن الزيات: التشوف، ص: 144، العباس بن إبراهيم السملالي، الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام، مراجعة: عبد الوهاب ابن منصور، المطبعة الملكية- الرباط، ط. الثانية. 1993.ج: 10، ص: 211.
9. ابن قنفذ، أنس الفقير وعز الحقير، ص: 29.
10. الدكالي محمد بن على، الإتحاف الوجيز، الخزانة العلمية الصبيحية بسلا. 1986، ص: 91.
11. بن عيشون، محمد الشراط. الروض العطر الأنفاس بأخبار الصالحين من أهل فاس، دراسة وتحقيق: زهراء النظام، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية- الرباط، سلسلة: رسائل وأطروحات رقم 35، مطبعة النجاح الجديدة- الدار البيضاء، ط. الأولى. 1997، ص 302؛ ابن الزيات: التشوف، ص: 217.
12. ابن عيشون، ص: 302.
13. ابن الزيات، ص: 83-84.
14. الونشريسي، المعيار، ج: 1، ص: 330.
15. ابن عذاري، البيان المعرب، قسم الموحدين، ص: 149.
16. ابن عيشون، الروض، ص: 304.
17. نفسه. ص: 294.
18. ابن الزيات، 269.
19. ابن الزيات، 269.
20. كتاب في الفلاحة.
21. ابن حجر، بذل، 170.
22. الونشريسي، ج: 11، ص: 182.
23. ابن هيدور، الأمراض الوبائية، ورقة 2.