مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

اجتهاد الصحابة وإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم”نماذج منتقاة”

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على مولانا محمد وعلى آله وصحبه

تقديم:

لقد مدح الله تعالى العقل في كثير من آياته، ورفع من شأنه من خلال توجيهه إلى النظر، والتأمل ، والتفكر، فقال: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب)[1]، وقال تعالى : (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا  كثيرا  وما يذكر إلا أولوا الألباب )[2]،  كما وجه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى ضرورة  إعمال  الفكر فبشرهم بأن المجتهد له أجر، وإن لم يصب في اجتهاده فقال: " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ ، فله أجر"[3] ، وحديث معاذ بن جبل رضي الله الذي يعكس إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لاجتهاد معاذ رضي الله عنه، عندما سأله النبي صلى الله عليه وسلم: "كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: "فإن لم يكن في كتاب الله ؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أجتهد رأيي لا آلو. قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري، ثم قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله"[4].

لقد اجتهد الصحابة  رضي الله عنهم في زمنه صلى الله عليه وسلم  وذلك في النوازل، والسفر ،وكانوا يقيسون بعض الأحكام على بعض، كما يعتبرون النظير بالنظير ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرهم على ذلك، إذا وجد  اجتهادهم متوافقا مع روح الشريعة ومقاصدها ، وفي هذا تدريب منه صلى الله عليه وسلم للأمة الإسلامية بعدهم على مواجهة المستجدات . وحسبي أن أعرضفي هذا المقال لخمسة نماذج من اجتهاداتهم ، مع ترتيبها حسب وقت وقوعها منهم رضي الله تعالى عنهم، وهذا أوان الشروع فيما له قصدت فأقول وبالله التوفيق والسداد:

نماذج منتقاة من اجتهادات الصحابة وإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لهم

اجتهاد بعض الصحابة في طريقهم إلى غزوة بني قريظة:

لقد ثبت عن بعض الصحابة وهم في طريقهم إلى غزوة بني قريظة بعد مرجعهم من الأحزاب اجتهادهم في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"[5] ، وفي رواية مسلم "الظهر"[6] ، فصلاها بعضهم في الطريق، وأخرها آخرون إلى بني قريظة، قال ابن عمر رضي الله عنه :" لم يرد منا ذلك فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم"[7] .

قال ابن القيم في زاد المعاد: "واختلف الفقهاء أيهما كان أصوب؟ فقالت طائفة الذين أخروها هم المصيبون، ولو كنا معهم لأخرناها كما أخروها، ولما صليناها إلا في بني قريظة امتثالا لأمره، وتركا للتأويل المخالف للظاهر، وقالت طائفة أخرى: بل الذين صلوها في الطريق في وقتها حازوا قصب السبق، وكانوا أسعد بالفضيلتين، فإنهم بادروا إلى امتثال أمره في الخروج، وبادروا إلى مرضاته في الصلاة في وقتها، ثم بادروا إلى اللحاق بالقوم ،فحازوا فضيلة الجهاد وفضيلة الصلاة في وقتها، وفهموا ما يراد منهم، وكانوا أفقه من الآخرين؛ ولا سيما تلك الصلاة فإنها كانت صلاة العصر، وهي الصلاة الوسطى بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح الصريح الذي لا مدفع له ولا مطعن فيه، ومجيء السنة بالمحافظة عليها والمبادرة إليها والتبكير بها، وأن من فاتته فقد وتر أهله وماله، أو قد حبط عمله، فالذي جاء فيها أمر لم يجئ مثله في غيرها، وأما المؤخرون لها فغايتهم أنهم معذورون بل مأجورون أجرا واحدا؛ لتمسكهم بظاهر النص، وقصدهم امتثال الأمر، وأما أن يكونوا هم المصيبين في نفس الأمر ومن بادر إلى الصلاة وإلى الجهاد مخطئا فحاشا وكلا، والذين صلوا في الطريق جمعوا بين الأدلة، وحصلوا الفضيلتين، فلهم أجران، والآخرون مأجورون أيضا رضي الله عنهم"[8].

اجتهاد وحكم سعد في شأن يهود بني قريظة:

ويتجلى ذلك عندما طلبت اليهود من الرسول صلى الله عليه وسلم تحكيمه، فاجتهد وحكم بقتل رجالهم، وسبي نسائهم وذراريهم، وصوب  الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الرأي ، فقد روى البخاري بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: " لما نزلت بنو قريظة على حكم سعد، هو ابن معاذ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قريبا منه، فجاء على حمار فلما دنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" قوموا إلى سيدكم"، فجاء فجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له:" إن هؤلاء نزلوا على حكمك"، قال: فإني أحكم أن تقتل المقاتلة ، وأن تسبى الذرية. قال:" لقد حكمت فيهم بحكم الملك"[9].

اجتهاد الصحابي الجليل خالد بن الوليد وإعمال رأيه في معركة مؤثة

ويمكن أن نستدل لاجتهاد الصحابة  بما وقع في معركة مؤتة التي كانت بين المسلمين والروم؛حيث اجتهد الصحابي خالد بن الوليد رضي الله عنه وأعمل رأيه بعد استشهاد القادة الثلاثة الذين كانوا قد عينوا من قبل النبي صلى الله عليه وسلم، حيث اتخذ قرار الانسحاب من المعركة لتفادي الخسائر، "وهو أمر يخالف ما جرت به العادة من أن المنسحب هو الذي في الغالب يتكبد الخسائر، فلما صار العكس وأفلت خالد - رضي الله تعالى عنه - بجيشه من قبضة العدو رغم تشديدهم الضغط عليهم، اعتبره المصطفى صلى الله عليه وسلم فتحا، بل نصرا مؤزرا،استحق عليه اللقب الذي قلده إياه"[10]،وهو سيف الله المسلول ، فعن أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيدا وجعفرا، وابن رواح للناس قبل أن يأتيهم خبرهم فقال: أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب –وعيناه تذرفان- حتى أخذها سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم "[11].

اجتهاد الصحابي عمرو بن العاص رضي الله عنه في غزوة ذات السلاسل:

ففي غزوة ذات السلاسل صلىعمرو بن العاص رضي الله عنه بالناس وكان أميرا عليهم ،  وهو جنب بالتيمم مع وجود الماء، خشية على نفسه من التهلكة، فعن     عمرو بن العاص رضي الله عنه كما رواه  أبو داود  في سننه قال: "احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت، ثم صليت بأصحابي الصبح فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟» فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما)[12]، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا[13].وضحكه عليه الصلاة والسلام  وسكوته إقرار له على ذلك و" النبي صلى الله عليه وسلم لا يقر على باطل"[14].

اجتهاد علي بن أبي طالب عندما أرسله قاضيا على اليمن:

أخرج  البيهقي في سننه الكبرى عن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - قال:" لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن حفر قوم زبية للأسد، فازدحم الناس على الزبية، ووقع فيها الاسد فوقع فيها رجل وتعلق برجل، وتعلق الاخر بآخر حتى صاروا أربعة فجرحهم الاسد فيها، فهلكوا، وحمل القوم السلاح فكاد أن يكون بينهم قتال، قال: فأتيتهم، فقلت: أتقتلون مائتي رجل من أجل أربعة أناس، تعالوا، أقضي بينكم بقضاء فإن رضيتموه فهو قضاء بينكم، وإن أبيتم رفعتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أحق بالقضاء، قال: فجعل للأول ربع الدية وجعل للثاني ثلث الدية وجعل للثالث نصف الدية وجعل للرابع الدية وجعل الديات على من حضر الزبية على القبائل الاربعة فسخط بعضهم ورضي بعضهم، ثم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصوا عليه القصة فقال: أنا أقضي بينكم، فقال قائل فإن عليا - رضي الله تعالى عنه - قد قضى بيننا فأخبره بما قضي علي - رضي الله تعالى عنه - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم القضاء كما يقضي علي"[15].

الخاتمة:

وختاما فإن اجتهاد الصحابة في عهده صلى الله عليه وسلم ثابت بإقراره صلى الله عليه وسلم لهم، وقد رأينا بعض النماذج المنتقاة من سيرته صلى الله عليه وسلم، فكان يقدر اجتهاداتهم ويثني عليها عندما تتوافق مع مبادئ القرآن والسنة، وفي هذا دلالة على  مرونة هذه الشريعة الإسلامية، وقدرتها على التكيف مع مستجدات الحياة.

****************

هوامش المقال:

[1] - سورة  آل عمران ، الآية: (190).

[2] - سورةالبقرة الآية: (268).

[3]- أخرجه البخاري في صحيحه (4 /372 )، كتاب: الاعتصام بالسنة ،باب: أجر الحاكم إذا  اجتهد فأصاب أو أخطأ برقم: (7352)، ومسلم في صحيحه (2 /821)، كتاب: الأقضية، باب: بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، برقم: (1716).

[4] - أخرجه أحمد في المسند (36/ 333) برقم: (22007). واختلف الأئمة في الحديث تصحيحا وتضعيفا وممن صححه الإمام ابن عبد البر قال: "وحديث معاذ صحيح مشهور رواه الأئمة العدول" جامع بيان العلم وفضله(2 /894)، وابن العربي  قال: "صحيح سندا ومعنى ، لأنه حديث مشهور رواه شعبة بن الحجاج ، ورواه عنه جماعة ثقات " المسالك في شرح الموطأ(6/ 243).

[5]-  صحيح البخاري (1 /300)، كتاب : صلاة الخوف، باب: صلاة الطالب والمطلوب راكبا وإيماء، برقم: (946).

[6] - صحيح مسلم (2 /848)،كتاب: الجهاد والسير، باب: من لزمه أمر فدخل عليه أمر آخر، برقم: (1770)

[7] -  تقدم  توثيقه.

[8] - زاد المعاد (3 /118-119).

[9] - صحيح البخاري (2 /370)، كتاب: الجهاد والسير إذا نزل العدو على حكم رجل، برقم (3043)،  وأخرجه مسلمكذلك في صحيحه (2/846)، كتاب: الجهاد والسير،باب: جواز قتال من نقض العهد ،  وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل أهل للحكم برقم: (1768).

[10] - انظر:غزوة مؤتة (ص: 347).

[11] - صحيح البخاري (3 /33) في المناقب، باب: مناقب خالد بن الوليد رضي الله عنه، برقم:  (3757).

[12] - سورة النساء، من الآية:  (29).

[13] - سنن أبي داود (1/ 249) ، كتاب:الطهارة ، باب: إذا خاف الجنب البرد، أو يتيمم، برقم: (334).

[14] - عون المعبود  شرح سنن أبي داود (1 /391).

[15]-سنن البيهقي (10/ 193)، كتاب الديات، باب: ما ورد في البئر جبار والمعدن جبار، برقم: (16397).

***************

لائحة المصادر والمراجع:

الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه. لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه وتصحيحه وتحقيقه: محب الدين الخطيب، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة، ط1 /1400هـ.

جامع بيان العلم وفضله. لأبي عمر يوسف ابن عبد البر. تحقيق: أبي الأشبال الزهيري. دار ابن الجوزي الرياض. 1414هـ- 1994 مـ.

زاد المعاد في هدي خير العباد. لابن القيم الجوزية. حقق نصوصه وخرج أحاديثه وعلق عليه: شعيب الأرنؤوط- عبد القادر الأرنؤوط. مؤسسة الرسالة بيروت. ط3/ 1418 هـ- 1998 مـ.

سنن أبي داود. لسليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني. حققه وضبط نصه وخرج أحاديثه وعلق عليه: شعيب الأرنؤوط- محمد كامل قروبللي. دار الرسالة العالمية.ط 1430هـ-2009 مـ.

السنن الكبرى. لأبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي. تحقيق: محمد عبد القادر عطا. دار الكتب العلمية بيروت . ط2/ 1424هـ- 2003 مـ.

صحيح مسلم. وفي طليعته: غاية الابتهاج لمقتفي أسانيد كتاب مسلم بن الحجاج للزبيدي.دار طيبة. الرياض. ط1/ 1427هـ-2006 مـ.

عون المعبود شرح سنن أبي داود. لأبي عبد الرحمن شرف الحق العظيم آبادي. خرج أحاديثه واعتنى به: يوسف الحاج أحمد. دار الفيحاء دمشق- دار المنهل دمشق. ط2/ 1434 هـ- 2013 مـ.

غزوة مؤتة والسرايا والبعوث النبوية الشمالية"دراسة نقدية". لبريك بن محمد بن بريك أبو مايلة. ط 1/ 1424 – 2004 مـ.

المسالك في شرح الموطأ. لأبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري. قرأه وعلق عليه: محمد بن الحسين السليماني- عائشة بنت الحسين السليماني. قدم له: الشيخ يوسف القرضاوي. دار الغرب الإسلامي بيروت. ط1 /1426 هـ-2007 مـ.

مسند أحمد (ج36). تحقيق: مجموعة من الباحثين. مؤسسة الرسالة بيروت. ط1/ 1421 هـ- 2001 مـ.

*راجع المقال: الباحث يوسف ازهار، والباحث محمد إليولو 

Science

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق