النقد القرائي تثوير وإثراء

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده، وبعد فهذه محاولة للم شعث ماتناثر في الكتاب الموسوعة للإمام أبي عبد الله محمد بن عبد الملك المنتوري الذي شرح فيه علقا نفيسا وأثرا غميسا ضاع نشره، وفاح عبقه في الأقطار: "الدرر اللوامع في مقرإ الإمام نافع" للمقرئ المحقق أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن محمد بن الحسين بن بري التازي، فقد ضمنه رحمه الله في غاية من الاقتدار، وتمام المكنة من الفوائد والدرر سنيها، وقيد فيه من أوابد النقول وفقيدها، وأودع فيه من عتق النصوص وأصيلها، واحتفل في أثنائه بمشكلات الأبحاث ومعتاص المسائل ومتوعر المعارف، وثور فيه من النقود والردود في سديد من التوجيه، ومتين من التعليل، ومسحة من كريم الأدب وحميد السماحة ما به ـ أعني مجموع ما غبر ـ يعد رحمه الله في نبغة الأعلام، ويصنف شرحه هذا موسوعة علمية في المقرإ النافعي بلا عديل؛ إذ في خبايا زواياه ثروة هائلة من أبكار المعارف وعيون المسائل في الخلف القرائي وما إليه تسمو به على الأقران، وتبغي طلبة متمهرين وبحثة نقدة تسفر جماعتهم ثبات ووحدانا عن بحوث أكاديمية جادة أثيلة..
وقد يكون من الإسعاف في سبيل ذلك توطئة وتيسيرا جمع المتناثر من فوائده وغرره في النقد القرائي وما إليه في هذه الأوراق التي كانت عنونتها (النقد القرائي تثوير وإثراء) وليس لها من الدرس والابتحاث إلا ضم نشر الموضوع وجمع متفرقه ولم شعثه وما سوى ذلك فقد تولى كبره مولانا الإمام أبو عبد الله المنتوري في موسوعته معتضدا بأستاذه المحقق النبيه والمدقق الفذ الأريب أبي عبد الله محمد بن محمد بن علي الكناني القَيجاطي رضي الله عنه، والله الموفق للسداد من القيل والإصابة من الرأي والإسعاف بالنجح والتيسير، نعم المولى ونعم النصير. قال رحمه الله في شرح قول الناظم ابن بري رحمه الله[39] وَبَعْضُهُمْ بَسْمَلَ عَنْ ضَرُورَهْ فِي الْأَرْبَعِ الْـمَعْلُومَةِ الْـمَشْهُورَهْ
[40] لِلْفَصْلِ بَيْنَ النّفْيِ وَالْإِثْبَات وَالصَّبْرِ وَاسْمِ اللهِ وَالْوَيْلَاتِ
[41] وَالسَّكْتُ أَوْلَى عِنْدَ كُلِّ ذِي نَظَرْ لِأَنَّ وَصْفَهُ اِ۬لرَّحِيمِ مُعْتَبَرْ
قوله: «وبعضهم بسمل عن ضروره »: أخبر أنّ بعض الشّيوخ المتقدّمين المصنّفين للحروف بسمل في المشهور عن ورش ـ وهو ترك التّسمية في الأربع المعلومة ـ لا بعض الرّواة النّاقلين فإنّها ليست برواية عنه. قال ابن سفيان في الهادي : «والرّواية عن السّبعة في هذه الأربع السّور معدومة». وقال الّداني في التّيسير والتّلخيص: «وليس في ذلك أثر يروى وإنّما هو استحباب من الشّيوخ» وقال في جامع البيان نحوه. وأما قول الحصري في قصيدته:وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَاكَ عِنْدِي ضَعِيفَةٌ وَلَكِنْ يُقَوُّونَ الرِّوَايَةَ بِالنَّـصْرِ
فقد اعترضه ابن الطّفيل في الشّرح فقال: «والعجب من النّاظم إذ يقول: «ولكن يقوّون الرّواية بالنّصر، وهي لم يروها أحد». قال: «ولو قال «المقالة» أو ما شابهها، لكان أخلص له». وقال ابن مطرّف في البديع : «وبلغني أنّ ابن مجاهد اختار ذلك والواجب اتّباعه؛ لأنّه كان مقدّما في عصره لمعرفته بوجوه القراءات وآثارها». قال شيخنا الأستاذ أبو عبد الله القيجاطي رضي الله عنه: «هذا شيء انفرد به ابن مطرّف ولا أعلم أحدا من القرّاء نقل عن ابن مجاهد في ذلك شيئا». قال: «ولو كان ابن مجاهد اختار ذلك لَنقله عنه الدّاني وغيره». وقال الدّاني في «التّمهيد»: «وقد اختُلف علينا في الفصل وتركه بين أربع سور: بين «المدّثر» و«القيامة»، وبين «الانفطار» و«المطفّفين»، وبين «الفجر» و«البلد»، وبين «العصر» و«الهُمزة». فكان أبو الحسن ـ يريد ابن غلبون ـ يأمرنا بالفصل بينهنّ، ويحكي ذلك عن قراءته، وكذلك كان ابن خاقان يحكيه رواية عن أصحابه، وبذلك قرأت عليهما». قلت: وقد وقفت على ما نقله عن أبي الحسن بن غلبون في كتاب التّذكرة له. قال الدّاني في التّمهيد: «وكان فارس لا يرى ذلك ولا يرويه، وبذلك قرأت عليه». وقال في «الاقتصاد»، و«إرشاد المتمسّكين»، و «إيجاز البيان» ، و«التّلخيص» نحوه. وقال في «الاقتصاد»: «سألت أبا الفتح عن ذلك فأنكره، وحكى لي أنّه اختيار من بعض المتأخّرين من أهل الأداء». وقال الأهوازي في «المفردات»، إنّ ذلك اختيار من بعض أهل مصر، قال: «وما قرأت به». وقال ابن عبد الوهّاب في «المفيد»: «وكان الأهوازي وغيره من الحذّاق يختار لمن فصل أن يستمرّ على فصله، ولمن ترك أن يستمرّ على تركه». وذكر في «كفاية الطّالب»، أنّ حذّاق شيوخه كانوا يختارون ما ذكر عن الأهوازي. وقال ابن الباذش في الإقناع : «وكان ابن عبد الوهّاب ـ فيما قال لنا أبو القاسم ـ ممّن ينكر ذلك»، قال: «وكذلك كان أبو داود». قال أبو داود في الطّرر على التّلخيص: «وبغير تسمية قرأت في هذه المواضع، وبذلك أخذ علي أصحابي، ولا أجيز التّسمية بينهنّ دون سائر القرآن في رواية من لم يبسمل». وقال الدّاني في التّمهيد: «وأنا آخذ بالمذهبين جميعا، فإن فصل عليّ أحد بينهنّ لم أمنعه من الفصل، وإن لم يفصل لم آمره بالفصل؛ لعدم وجود ذلك منصوصا في كتاب أحد من النّاقلين عن ورش ـ أعني تخصيص الفصل بينهنّ دون سائر القرآن ـ وإنّما ذلك عندي اختيار من أهل الأداء». وقال في إيجاز البيان نحوه. قلت: قرأت على بعض من لقيته بالفصل بين هذه السّور الأربع، وقرأت على شيخنا الأستاذ أبي عبد الله القيجاطي رضي الله عنه بغير فصل، وسألته عن ذلك فقال لي: «من فصل لم آمره بترك الفصل، ومن لم يفصل لم آمره بالفصل». قال: «والأولى عندي أن تُجرى مجرى غيرها من السّور في الوصل والسّكت». وقوله: «للفصل بين النفي والإثبات..» وما بعده فيه تبيين لقوله عن «ضرورة»، وهو تعليل لاستعمال البسملة في المواضع المشهورة... وهذا التّعليل الّذي ذكره النّاظم في استعمال البسملة فيما ذُكر لمن لم يبسمل، قد ذكره الدّاني في التّمهيد وإيجاز البيان ، و المهدويّ في الشّرح ، وابن الباذش في «شرح الحصريّة»، وغيرهم. قال مكيّ في الكشف : «ولهم حجّة قوية في ذلك روى مالك أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن العقيقة فقال: «لا أحب العقوق»، قال مالك: «فكأنّه كره الاسم». قال مكيّ: «يريد مالك أنّ فعل العقيقة جائز لم يكره النّبي صلّى الله عليه وسلّم فعلها إنّما كره لفظ اسمها»، قال: «فانظر كيف كره النّبي عليه السلام قبح اللّفظ»، قال: «وقد روي أنّ رجلين أتيا النّبي عليه السلام، فتشهّد أحدهما وقال: «من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما، ووقف على «يعصهما»، فقال له النّبي صلّى الله عليه وسلّم: بئس الخطيب أنت» قال: «وإنّما قال له النّبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك لقبح لفظه في وقفه؛ إذ قد خلط الإيمان بالكفر في إيجاب الرّشد لهما. وكان حقّه أن يقول: «ومن يعصهما فقد غوى»، أو يقفَ على «رشد»، فيبتدئ: «ومن يعصهما فقد غوى»، قال: «فانظر كيف كرِه النّبي صلّى الله عليه وسلّم قبح وقفه ولفظه، وإن كان مراده الخير لم يقصد إلى شيء من الشرّ». قلت: يقال لمكيّ: هذا الّذي ذكرته حجّة عليك لا لك؛ لأنّ القارئ لم يقف على ﴿لَآ﴾، حين وصل بها ما قبلها، كما فعل الخطيب بالوقف على «ومن يعصهما»، حين وصله بما قبله، وإنّما وقف القارئ على: ﴿لَآ أُقْسِمُ بِيَوْمِ اِ۬لْقِيَٰمَةِ﴾ [القيامة: 1] حين وصله بآخر السّورة، فهو نظير الّذي أجزت من وصل الخطيب: «ومن يعصهما فقد غوى» بما قبله. وإذا تأمّلت وصل هذه السّور دون البسملة، فإنّ نظير ذلك وصل قوله تعالى: ﴿وَكَانَ اَ۬للَّهُ شَاكِراً عَلِيماٗ لَّا يُحِبُّ اُ۬للَّهُ اُ۬لْجَهْرَ بِالسُّوٓءِ مِنَ اَ۬لْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ﴾ [النساء 146، 147] وقوله: ﴿وَكَانَ فَضْلُ اُ۬للَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماٗ لَّا خَيْرَ فِے كَثِيرٖ مِّن نَّجْو۪يٰهُمُۥٓ﴾ [النّساء112، 113] وقوله: ﴿وَكَانَ اَ۬للَّهُ عَلِيماً حَلِيماٗ لَّا يَحِلُّ لَكَ اَ۬لنِّسَآءُ مِنۢ بَعْدُ﴾ [سورة الأحزاب 51، 52] ونظائر ذلك. وهذا لا خلاف بين القرّاء في وصله، ولم يمنع من ذلك أحد من أجل ﴿لَا﴾، فكذلك ينبغي ألاّ يُختلف في وصل هذه السّور من غير بسملة. وما درج عليه أكثر الشّيوخ من استعمال البسملة في هذه السّور لمن لم يبسمل، واتّباعِهم في ذلك من قاله أوّلاً، لو تأمّلوا ذلك كلّ التأمّل لم يعوّلوا عليه ولم يذكروه. ولله درُّ أبي الفتح فارس بن أحمد وابن عبد الوهّاب وأبي داود المقرئ في إنكارهم ذلك حسبما تقدّم ذكره، وإنّما أنكروا ذلك ـ والله أعلم ـ لأنّ العلّة الّتي اعتلّ بها من أخذ بالبسملة في هذه السّور لا تصحّ. وقوله: «والسّكت أولى عند كلّ ذي نظر»، أخذ هنا يضعف ما علّل به قبل هذا، يقول من استحسن الفصل بالبسملة في المواضع الأربعة فقد وقع فيما فرّ منه مع عدوله عن الرّواية؛ إذ قبح اللّفظ لا يزول عند اتّصال البسملة بأوّل السّورة، الّتي أوّلها ﴿لَا﴾ أو ﴿وَيْلٞ﴾ فكان السّكت أولى. قال الدّاني في التّمهيد وإيجاز البيان : «وليس هذا عندي ممّا يوجب الفصل؛ إذ تلك الكراهة نفسها موجودة معه ، وهو الإتيان بالجحد والويل بعد اسم الله تعالى وصفاته الّتي وصف بها نفسه في قوله: ﴿بِسْمِ اِ۬للَّهِ اِ۬لرَّحْمَٰنِ اِ۬لرَّحِيمِ﴾». وقال في «جامع البيان» نحوه. وقال المهدويّ في الشّرح ، وابن مطرِّف في «البديع» ، وابن مُهلّب في «التّبيين»، وابن الباذش في «شرح الحصرية» نحوه. وقال ابن الباذش في الإقناع: «وقال الخزاعي: سمعت طلحة بن محمّد يقول: كان أكثرُ قراءة ابن مجاهد وصلَ السّورة بالسّورة إلاّ في مواضع مخصوصة من القصار كان يتعمّد أن يقف ويوقِف عليها، من ذلك: ﴿وَأَهْلُ اُ۬لْمَغْفِرَةِ﴾ [المدّثر: 55]، ﴿لَآ أُقْسِمُ﴾ [القيامة: 1]، وعند قوله: ﴿يَوْمَئِذٖ لِّلهِ﴾ [الانفطار:19]، ﴿وَيْلٞ لِّلْمُطَفِّفِينَ﴾ [المطفّفين:1]، وقوله: ﴿وَادْخُلِے جَنَّتِے﴾ [الفجر:32]، ﴿لَآ أُقْسِمُ﴾ [البلد: 1] يقف وهو في ذلك يصل». قال: «ولم يذكر عنه الخزاعي «العصر» و«الهمزة»». قال: «وكثير من أهل الأداء يأبى هذا، ويأبى في هذه السّور إلاّ ما يلتزم في سائر القرآن من فصل وتركه». وقال المهدويّ في الشّرح : «ورأيت بعض شيوخنا، وهو أبو عبد الله ابن سفيان لا يراعي ذلك، ويُبقي كلَّ واحد من القرّاء فيهنّ على مذهبه الّذي يستعمله في غيرهنّ، ورأيت غيره من شيوخ المصريّين يذهب إلى الفصل بينهنّ بسكتة لمن مذهبه أن يصل السّورة بالسّورة، فذلك عندي حسن، وهو الّذي أختار». قلت: وقد وقفت على ما نقله عن ابن سفيان في كتاب الهادي له. وقال ابن مهلّب في التّبيين: «وقد كان أبو عبد الله ابن سفيان المقرئ ـ وكان من الحذّاق ـ لا يقول بهذا الاختيار ولا يقرئ به أحداً، لما ذكرناه فيه من الضّعف، وتابعه عليه جماعة من حذّاق المقرئين، فهو الصّواب.قلت: وما ذهب إليه ابن سفيان هو الصّواب عندي، وبه آخذ.