آية وعبرة (تتمة) “وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ” [الأعراف:200]

بسم الله الرحمن الرحيم
مناسبة الآية لما قبلها أنه سبحانه وتعالى لما ذكر ما يستعان به على عداوة الإنس في قوله "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ" الأعراف:199] ذكر ما يستعان به على عداوة الجان؛ وهو: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" [الأعراف:200]؛ وذلك أن العداوة المحذورة إما إنسية وإما جنية، وكلا العداوتين يحتاج فيهما العبد إلى معين، ، ويود لو قيض له منهما نصير، يستنصر به على عدوه، ويستجير به من عدوانه، ومما لا مرية فيه أن أشرس العداوتين عداوة الجان؛ لما امتاز به من قدرات لايبلغ شأوها الإنسان، فهو يرى مخرجه ومدخله، يطلع على دخائله و خصوصياته.. في حين أن أمره محجوب على بني آدم، قال تعالى: "إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ" [ الأعراف:27]ومن ثم ندب العباد إلى الاستعاذة بالله منه ومن نزغاته، لأنه الملاذ الذي لا يطاول، والجناب الذي لا يرام، من احتمى بحماه عاذ بأعز ملاذ، لا يذل من والاه، ولا يعز من عاداه، ولذلك قال ربنا في تعويذة سورة الناس، "قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ"
والنزغ الكلام الذي يغري بين الناس[1]، والمقصود به هنا وسوسة الشيطان وكيده للإنسان، ومثله النخس والغرز، وأصله إدخال طرف الإبرة أو طرف العصا في الجلد، والمراد به هنا إقحام شيء خارجي في مادة لا تناسبه، ولا تستجيب له إلا بنوع من المعافسة والمعالجة، إلا أنه في الماديات لمصلحة أو منفعة مرجوة، وفي المعنويات سعي في فساد، وتعكير للنفسية والمزاج، قال الرازي: " النزغ الإزعاج، وأكثر ما يكون عند الغضب، وأصله الإزعاج بالحركة إلى الشر"[2]، وبتتبع هذا المصطلح في الكتاب نجد فعله منسوبا للشيطان، من ذلك قوله تعالى:"وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي [يوسف:100] وقال عز من قائل: "وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا" [الإسراء:53] وقال سبحانه:"وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" [فصلت:36] واستعمال القرآن لهذا المصطلح منسوبا لفعل الشيطان، فيه دعوة لأخذ الحذر، وضرورة استحضار عِدته القديمة، التي آلى فيها على إغواء بني آدم، فقد لا يتنبه لنزغاته لسـرعة إلقائه، ولف وارداته بالنصح المبيت لنية الإفساد، قال ابن عطية "وقوله تعالى: "وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ" وصية من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم تعم أمته رجلا رجلا، والنزغ حركة فيها فساد، وقلّما تستعمل إلا في فعل الشيطان لأن حركاته مسـرعة مفسدة."[3]
"وأصل "وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ" "إنْ مَا" أدغمت نون الشـرطية في ما الزائدة للتوكيد ، مثلها "وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ" [يونس:46]وجاء الجواب مقترنا بالفاء المفيدة للتعقيب دلالة على سرعة المبادرة وحضور بديهةِ من نزل به النزغ، فبداره لفعل الاستعاذة والاحتماء بالله سبحانه وتعالى لا يحتاج فيه إلى ترو، أو إعمال فكر، بل بمجرد ما يلم به الطيف الشيطاني يهرع إلى باب مولاه، يستمد منه العون، ويستمطر أسباب الإنجاد، لتيقنه أن لا ناصر له إلا هو، قال أبو السعود: "وفي الأمر بالاستعاذة بالله تعالى تهويل لأمره، وتنبيه على أنه من الغوائل الصعبة التي لا يتخلص من مضـرتها إلا بالالتجاء إلى حرم عصمته عز وجل، وقيل يعلم ما فيه صلاح أمرك فيحملك عليه" [4]
ولذلك شرعت الاستعاذة بالله في كل مايحاوله العبد، إذ هي عنوان العبودية المطلقة لله رب العالمين، وفي ضمنها اعتراف بعجز الإنسان، و أنه لا يستقل بنفسه لمناهضة أعدى أعدائه، و مدافعة مناوشاته، فشـرعت عند قراءة القرآن، وعند دخول المساجد، وعند حصول وسوسة في الصلاة، وعند الغضب، وعند الرؤيا المفزعة، وعند سماع نهيق الحمار، ونباح الكلاب، وعند دخول الخلاء، و نزول منزل بفلاة، وفي الرقية من العين، وفي تعويذات أذكار الصباح والمساء، وفي تعويذات الأبناء من المكاره.. يرشد لمجموع لذلك نصوص نبوية مستفيضة في الباب، وقد قال ربنا: "وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ " [المومنون:97-98].
وأمر الاستعاذة عجب، فحسبك بها داحرة لكيد الشيطان وشره، كاشفة عما ينزل عليه بذكرها من صواعق علوية، يصـرف بها عن ساح العبد، فيهدأ روع الإنسان، ويعود إليه رشده، وينجلي له علم المحجة، دليله ما روى الإمام مسلم في صحيحه قال: "حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ، قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ أَحَدُهُمَا يَغْضَبُ وَيَحْمَرُّ وَجْهُهُ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ ذَا عَنْهُ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ " فَقَامَ إِلَى الرَّجُلِ رَجُلٌ مِمَّنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَتَدْرِي مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آنِفًا؟ قَالَ: " إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ ذَا عَنْهُ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ " فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَمَجْنُونًا تَرَانِي؟"[5].
فصرف عن بلسم الجراح و ما به يكون الشفاء، لشدة تمكن الغضب وانسداد منافذ الاستجابة منه، وإحكام الشيطان جثومه على شعب قلبه، فلم تبق منه حاسة تتلقف إشارة الاستمساك بالعروة الوثقى، و لم يقو على دحر خيل ورجل عدوه اللدود، إذ لا يوفق لذكر الله عند الملمات والنوازل إلا موفق معان، فيكون ذكر الله بهذا المعنى أنس السرائر، وحياة الضمائر، وأقوى الذخائر التي يفزع إليها في النوائب والشدائد، سيما إن وافق فيه اللسان مودع القلوب من المعارف اللدنية، ولذلك ذيلت الآية بقوله سبحانه "إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" سميع لنداء المستجير به، عليم بحاله وما ينوء به، ومن تنويع الفهوم ذكر فيها البيضاوي وجها آخر صرف فيه الوصفين إلى اطلاع الله على عدوان المعتدي، قال رحمة الله عليه: "فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ": يسمع استعاذتك. "عَلِيمٌ" يعلم ما فيه صلاح أمرك فيحملك عليه، أو سَمِيعٌ بأقوال من آذاك عَلِيمٌ بأفعاله فيجازيه عليها، مغنياً إياك عن الانتقام ومشايعة الشيطان."[6] ومن لطيف إشارات الفخر في الآية، قوله رحمه الله، "إنه سَميعٌ عَليمٌ يدل على أن الاستعاذة باللسان لا تفيد إلا إذا حضـر في القلب العلم بمعنى الاستعاذة، فكأنه تعالى قال: اذكر لفظ الاستعاذة بلسانك فإني سميع، واستحضر معاني الاستعاذة بعقلك وقلبك فإني عليم بما في ضميرك، وفي الحقيقة القول اللساني بدون المعارف القلبية عديم الفائدة والأثر."
وذا مفتاح الاستفادة من الاستعاذة، واكتشاف ما فيها من المعاني والأسرار، وإنما الموفق من وفقه الله.
[1] ينظر لسان العرب والقاموس المحيط مادة "ن ز غ" .
[2] مفاتيح الغيب، 15/435.
[3] المحرر الوجيز، 2/491.
[4] إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، 3/308، دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان.
[5] كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب، وبأي شيء يذهب الغضب، رقم:2610.