أنموذجات من الوقفات المنتقدة على الإمام أبي عبد الله الهبطي وتوجيهها (13)

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القائل: (وَقُرْءَاناٗ فَرَقْنَٰهُ لِتَقْرَأَهُۥ عَلَي اَ۬لنَّاسِ عَلَيٰ مُكْثٖ وَنَزَّلْنَٰهُ تَنزِيلاٗ﴾، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي تلقى القرءان عن ربه ورتله ترتيلا، وعلى ءاله وصحبه الذين تحملوه وأدوه إلينا أداء جميلا.
وبعد:
فقد ذكرتُ في الحلقة الأولى من حلقات هذا الموضوع أن وقوف الشيخ أبي عبد الله الهبطي (930ه) -رحمه الله- كانت غرضا لنقد بعض العلماء، فبعضٌ أنصف، وبعضٌ أصْلَف.
وذكرت أن الاستقراء التام لوقوف الشيخ الهبطي يُظهر أنه كان تابعا في -الكثير الغالب- مذهب الإمام نافع المدني -رحمه الله- في أصول مذهبه في الوقف، ونافع كان ينظر إلى المعاني في وقوفه ويتطلبها، وذكرت بعض الأنموذجات الوقفية المنتقدة على الشيخ الهبطي رحمه الله مع بيان وجهها.
وهذه أنموذجات أخرى من الوقوف المنتقدة عليه، مع بيان وجهها وتأصيلها من مذهب الإمام نافع رحمه الله أو من غيره:
* قوله تعالى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ اِ۬لذِے اِ۪سْتَوْقَدَ نَاراٗ فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُۥ ذَهَبَ اَ۬للَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِے ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبْصِرُونَ).
وقف الهبطي على قوله تعالى: (فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُۖ) واستأنف: (ذَهَبَ اَ۬للَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِے ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبْصِرُونَۖ) (1).
وهذا الوقف كاف، ووجْهه أن جواب (لَمَّا) محذوف، وقد دل عليه السياق.
ولم يكتف أبو القاسم الزمخشري -رحمه الله- بأن جَوَّز هذا الحذف حتى زاد بأنه أولى من الإثبات، قال رحمه الله: «فإن قلت: أين جواب (لَمَّا)؟!
قلت: فيه وجهان: أحدهما أن جوابه (ذَهَبَ اَ۬للَّهُ بِنُورِهِمْ).
والثاني: أنه محذوف كما حذف في قوله: (فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِۦ)، وإنما جاز حذفه لاستطالة الكلام مع أمن الإلباس للدال عليه، وكان الحذف أولى من الإثبات لما فيه من الوجازة، مع الإعراب عن الصفة التي حصل عليها المستوقد بما هو أبلغ من اللفظ في أداء المعنى، كأنه قيل: فلما أضاءت ما حوله خمدت، فبقوا خابطين في ظلام، متحيرين متحسرين على فوت الضوء، خائبين بعد الكدح في إحياء النار.
فإن قلت: فإذا قُدر الجواب محذوفا، فبم يتعلق (ذَهَبَ اَ۬للَّهُ بِنُورِهِمْ)؟! قلت: يكون كلاما مستأنفا؛ كأنهم لما شبهت حالهم بحال المستوقد الذي طفئت ناره، اعترض سائل فقال: ما بالهم قد أشبهت حالهم حال هذا المستوقد؟ !فقيل له: (ذَهَبَ اَ۬للَّهُ بِنُورِهِمْ)، أو يكون بدلا من جملة التمثيل على سبيل البيان.
فإن قلت: قد رجع الضمير في هذا الوجه إلى المنافقين فما مرجعه في الوجه الثاني؟! قلت: مرجعه (اِ۬لذِے اِ۪سْتَوْقَدَ)؛ لأنه في معنى الجمع.
وأما جمع هذا الضمير وتوحيده في: (حَوْلَهُ)، فللحمل على اللفظ تارة، وعلى المعنى أخرى»(2)
قال الشيخ محمد بن عبد السلام الفاسي رحمه الله: «هو كاف على حذف جواب (لَمَّا)، وتقديره: طفئت النار، والسياق دال عليه، وذهاب النور لا يعين انطفاء النار المستلزم عدم شفاعتهم بشيء من أعمالهم المراد من التشبيه، وعلى استئناف جملة (ذَهَبَ اَ۬للَّهُ بِنُورِهِمْ)، والضمير للمنفقين، والله أعلم»(3).
هذا، ومما ينسب لابن الجزري -رحمه الله- أن من وقف هذا الوقف يكفر، إذ هو مبتدئ بقوله (ذَهَبَ اَ۬للَّهُ بِنُورِهِمْ)، ومصاحبته تعالى لهم في الذهاب مستحيلة، قال الأشموني: «وما علمت وجه تكفيره الواقف على قوله (فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ)، وهو وقف جائز على أن جواب (لَمَّا) محذوف، وعليه فلا كراهة في الابتداء بقوله: (ذَهَبَ اَ۬للَّهُ بِنُورِهِمْ) قال السمين: قال ابن عصفور: يجوز أن يكون الله قد أسند إلى نفسه ذهابا يليق بجلاله، كما أسند المجيء والإتيان على معنى يليق به تعالى: فلعل تكفيره الواقف لاحظ أن الله لا يوصف بالذهاب ولا بالمجيء»(4).
والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقييد وقف القرآن الكريم: 197.
(2) الكشاف: 1/73.
(3) الأقراط والشنوف (لوحة:24/أ).
(4) منار الهدى: 14، وينظر: الدر المصون: 1/162.