مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

سؤال الحروف حَرفاً حَرفاً بمنزلة سماع القرآن وعرضه سَرداً

الحمد لله رب العالمين وبه نستعين وصلوات ربنا وسلامه على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه والتابعين

وبعد؛ فالاعتماد في التحمل والأخذ أن يكون بالعرض للقرآن الكريم أو السماع له من بدْئه إلى خَتْمه ترسُّلا رفْقاً رافِقاً ، قال ابن شريح (ت‍ 476 ه‍) في شأن رواية (الكافي) له: (واقتصـرت فيه (يريد من أحرف الخلاف) على ما قرأت به قراءة، وأضربت عما أخذته رواية، وقصدت فيه إلى أقرب أسانيدي وأرفعها) [[1]]، كما قد يكون بالاقتصار على تحصيل مساقط الخُلْف القرائي ومواقعه بأعيانها وإحراز خَفيِّ هيئاتها وصفاتها وما إليه، فهما لأجل ذلك وضعان قائمان من أوضاع الأخذ والتوقيف والتحمُّل: الوضع الأول: إسناد القراءة أو إسناد الأداء أو إسناد التلاوة، ويراد منه:قراءة القرآن أجمع، والوضع الآخر: إسناد الرواية أو إسناد التحديث أو إسناد النصِّ، والغاية منه: رواية نص الكتاب المتضمِّن قراءةَ إمام من الأئمة السبعة أو العشـرة أو من فوقهم على الشيخ، وهو على شيخه مسلسلاً، كذا إلى المنتهى، مثل قراءة نص التيسير أو الكافي أو الإقناع أو النشر ...، فالفرق بين الوضعين؛ كَمِنٌ في أنَّ الأول قراءة متن الكتاب المضمَّن، والآخر رواية القراءة أي تحقّق تلاوة القرآن، ولأجل ذلك؛ فإن القارئ عندما يروم سند التلاوة إلى إمام من أئمة القراءة، فإنه لا يقتصـر في الأخذ بسند قراءته على نص الكتاب ومتنه، كلا ! بل يجنح إلى سند قراءته بمضمَّن الكتاب ويَرْكَن إليه، حتى يُسْلِمه إلى سند مؤلف الكتاب ثم يُفْضـي به إلى أئمة الأمصار، قال الحافظ الداني (ت‍ 444ه‍): (فكلّ قارئ أو مقرئ أهمل العرض واجتزأ بمعرفته، أو بما تعلم في المكتب من معلِّمه الذي اعتماده على المصحف أو على الصحائف دون العرض، أو تمسّك فيما يأخذ به ويعلّمه بما يظهر له فيه من جهة إعراب أو معنى أو لغة، دون المرويّ عن أئمة الأمصار؛ فمبتدع مذموم مخالف لما عليه الجماعة من المسلمين، تارك لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءَ القرآن من تلاوته بما عُلّمه وأُقرئ به ...) [شرح الخاقانية 2/37]، وبيانه في أن يتعرَّض التلميذ الآخذ لشيخه بالسؤال عن وجوه القراءة معزوَّة لأصحابها، وذلك بعدما يُتقنها قبلُ بحفظ مضمَّن أو مذاكرة كتاب أو ما أشبه، فيقرؤها على الشيخ رغبةً في الإسناد، أو يسردها عليه الشيخ مِنْ فَلْقِ فيهِ سَرْداً، فيتحمّلها التلميذ بعدما سمعها ولَقِنَها؛ فيؤديها بحضرته فيقيم الشيخ زَلَّته ويدفع سَقْطته، فيكون بعد ذلك راويا مُسنِداً، إذ الكتب والصحف غير محيطة بالحروف الجلية، ولا مؤدِّية عن الألفاظ الخفيَّة، والتلاوة محيطة بذلك ومؤدية عنه [[2]]، وعلى هذا جرى عمل رواة القراء من الأشياخ المعتبرين والجِلَّة المتصدِّرين، فلم يُعَدَّ ذلك مَعَرَّةً في روايتهم ولا حَطّا من شأنهم أو اطِّراحاً لأسانيدهم ومخارج أخذهم أو ما أشبه، لإيقانهم بأنَّ سؤال الحروف حَرفاً حَرفاً بمنزلة سماع القرآن وعرضه سَرداً، خاصة إذا تعلَّق الأمر بتمام حال الآخذ العالم المختبر الممارس، الذي اكتملت ثقافته ودرايته، واستوسقت أهليته للنقد والبَصَـر، واستجمع مع ذلك شرائط الرواية المعتبرة، فمثْل هذا يُقَلَّد الحروف ويؤدّي حكايتها ولا اعتراض عليه من هذه الجهة، متى توفَّرت له سابقةُ المعرفة الفاقهة بظواهر القراءة ودقائق شؤونها، مع متانة الديانة وسابغة الفضل والصيانة، وعلى كل ذلك شواهد دالة على الجريان عليه والاهتداء بصُوى بيانه مثل ما ثبت عن حمزة بن حبيب الزيات (ت‍ 156ه‍) وردِّ بعض الناس [[3]] لقراءته عن الأعمش (ت‍ 148ه‍)، أو مثل الذي جاء في بعض طرق أبي بكر بن عياش عن عاصم، وتلك طريق يحيى بن آدم، فقد قال أبو هشام محمد بن يزيد الرفاعي: حدثنا يحيى بن آدم قال: سألت أبا بكر بن عياش عن حروف عاصم أربعين سنة؛ فحدثني بها، وحدثني أن عاصما أقرأه هذه الحروف كلها [[4]]، قال الداني: قال أبو هشام: قال يحيى: سألت أبا بكر عن هذه الحروف، فحدثني بها كلها، وقرأها علي حرفا حرفا، فنقطتُها وقيَّدتُها وكتبتُ معانيَها على معنى ما حدثني به سواء، ثم قال لي أبو بكر: أقرأنيها عاصم كما حدثتك حرفا حرفا [[5]]، وعن خلف بن هشام البزار قال: حدثنا يحيى عن أبي بكر عن عاصم بالقراءة، وقال أبو بكر: تعلمتها من عاصم حرفا حرفا كما حدثتك بها، قال خلف: سمعت يحيى كثيرا في الحروف يقول: سألت أبا بكر كيف قرأ عاصم كذا وكذا ؟ فيقول: كذا وكذا، فأردُّه عليه بمثل قوله مستقيما له، فيقول: نعم [[6]]، فهذه قصة خلافية تردَّد النظر فيها بين مؤرخي القراءة ونقاد أسانيدها، فسارت بها ركبان التمثُّل والعناية (قبولا وردّاً)، لكن الذي عليه الحافظ الداني [[7]] أنها رواية حروف مجرَّدة لا رواية عرض وتلاوة، للاقتصار في أخذها على محض سماع الكتاب فقط من غير عرض [[8]]، ولقد تبعالدانيَ في ذلك المحقّقُ ابن الجزري [[9]]، وتبعهما ابن مهران إذ قال (ت‍ 381 ه‍): ولقد أتعبني طلب هذه الرواية ببغداد والكوفة ( أعني رواية يحيى)؛ فما وجدتها عند أحد إلا رواية ولم أجدها قراءة، ... وعلى ذلك فإني قرأت بها مع ضعفها [[10]]،ومثل ذلك كثيرٌ منتشرٌ في كتب الأسانيد والطرق وذكر شيوخ القراءة، كالذي قيل في شأن قراءة حمزة عن الأعمش، فقد قال الداني(ت‍ 444ه‍)  مُبيِّناً سبيل الهُدى فيها: (وقد ردَّ بعض الناس قراءته (حمزة) على الأعمش، من أجل رواية حجاج بن محمد وعبد الله بن كارد عنه، أنه لم يقرأ عليه القرآن، وإنما سأله عن الحروف سؤالا من غير عرض، وهذا عندنا غير رادٍّ لذلك ولا قادح فيه، لتواتر الأخبار المجتمع على صحتها بقراءته عليه القرآن عرضا، وأيضا فإنَّ سؤاله إيّاه عن الحروف؛ بمنزلة عرضه القرآن عليه سردا، عند أهل المعرفة، إذ كان سؤاله عن حروف الاختلاف التي بها يوقف على مذهب الإمام وفيها الفائدة، وليست في حروف الاتفاق، وإذا كان كذلك؛ فقد وقف حمزة بذلك على مذهبه في جميع القرآن، وذلك والعرض عندنا سواء) [[11]]، ومثله عند ابن الباذش (ت‍ 540 ه‍) في الإقناع [[12]]، ثم هذا الحافظ الداني رحمه الله نجده قد أسند قراءة عاصم في التيسير له من رواية أبي بكر بن عياش– على وجه الأداء - من طريق يحيى بن آدم فقط، رغم ثبوتها عنده رواية حروف، وذلك عكس الذي ثبت في جامع البيان له، إذ إنَّه قد أسند – على وجه الأداء - روايات ثلاث عن أبي بكر بن عياش (ت‍ 193 ه‍) وهي: رواية يعقوب بن خليفة الأعشى (قال ابن الجزري: لم أرَ أحداً أرَّخ وفاته، وعندي أنه توفي في حدود المائتين) [[13]]، ورواية يحيى بن محمد العليمي (قال ابن الجزري: توفي سنة ثلاث وأربعين ومائتين)[14]، ورواية عبد الحميد بن صالح البرجمي (قال الذهبي: مات سنة ثلاث ومائتين) [[15]]، فهذه صحَّت عنده أنها روايات تلاوة وعرض، ومع ذلك فإنه قد تركها في التيسير فلم يلتزمْها؛ تنكيتا نَبيهاً على مذهب التسوية الذي انتحى سَمْته وجاهر به، فذلك منه مذهب لطيف واستخراج فقهي حسن، يَبْغي من ورائه تنويع روافد الأخذ وتكثير مراصد اطِّلاع التحمُّل ومصاعده (روايةً، مكاتبةً، إجازة، إعلاما، وِجادةً، ...) واعتمادها متى شهدت لثبوتها الأخبار المتواترة ولم تعارض الآثار المستفيضة، كما يدل عليه صَنَع حذاق القراء والمجودين في أسانيدهم وطرقهم وما إليها، فقد قال رحمه الله في خطبة جامع البيان [[16]]له: (ولا أعدو في شيء مما أرسمه في كتابي هذا: ما قرأته لفظا، أو أخذته أداء، أو سمعته قراءة، أو رأيته عرضا، أو سألت عنه إماما ... أو أجيز لي، أو كتب به إليّ، أو أذن لي في روايته، أو بلغني عن شيخ متقدم، أو مقرئ متصدر بإسناد عرفته وطريق ميَّزته ...).

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابع

[1] الكافي ص 176.

[2] جامع البيان 1/16.

[3] ينظر معرفة القراء للذهبي 1/98.

[4] جامع البيان 1/344.

[5] جامع البيان 1/344.

[6] جامع البيان 1/345.

[7]معرفة القراء الكبار 1/ 342، 343.

[8] الدر النثير للمالقي ص 120.

[9] غاية النهاية 1/362 – 364.

[10] المبسوط (رواية أبي بكر بن عياش) ص 45 - 46.

[11] المفردات ص 290.

[12] 1/134.

[13] 2/390، (3897).

[14] غاية النهاية 2/378.

[15]معرفة القراء الكبار 1/119.

[16] 1/47.

Science

د.مولاي مصطفى بوهلال

    • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق